صبحي حديدي: بونابرت في يافا.. تلفيق الإمبراطور وطاعون الاستشراق

0

أنطوان ــ جان غرو Antoine-Jean Gros (1771ــ1885) رسام فرنسي برز بقوّة أواخر القرن الثامن عشر والعقود الأولى من القرن التاسع عشر، وانتمى إلى المدرسة النيو ــ كلاسيكية، وتميّز بلوحاته ذات الموضوعات التاريخية، وخاصة تلك التي تصوّر أمجاد نابليون بونابرت ومعاركه وفتوحاته. هو، إلى هذا، في طليعة المبشرين بتيّار الاستشراق الفرنسي في الفنون التشكيلية، من خلال حفنة أعمال مثل «بونابرت يخاطب الجيش قبل معركة الأهرامات»، ;»معركة الناصرة»، ;»معركة أبو قير؛ وكلّ هذا من دون أن يسافر إلى الشرق مرّة واحدة، أو يطأ شبراً من المواقع التي تصورها أعماله.
لكنه تمتع بصلة وثيقة مع بونابرت، وذلك منذ أن رسم لوحته «معركة أركول»، 1796، التي لفتت أنظار القائد العسكري الصاعد الذي كان قد ترقى لتوّه إلى رتبة جنرال. ولسوف يرافق غرو الجيش الفرنسي في معظم معاركه داخل أوروبا، وخلال سنوات صعود بونابرت إلى موقع الإمبراطور بصفة خاصة، وذلك بعد أن عيّنه الأخير مفتشاً على المطبوعات، ثمّ مفوّضاً لمصادرة الغنائم التي يمكن أن تُغني اللوفر. وفي سياق وظائفه هذه، وضمن علاقته الخاصة مع الإمبراطور، تلقى غروس تكليفاً رسمياً بتخليد نماذج منتقاة بعناية من مآثر الجنرال، خاصة حين توجّب إعادة تلميع صورته العسكرية والإنسانية بعد نكسات حملتَيْ مصر وسوريا، وما أخذت الصحافة البريطانية تفضحه تباعاً بصدد ارتكابه جرائم حرب، وفراره من ميادين المعارك، وعودته إلى فرنسا لمواجهة المكائد التي بدأت تُحاك ضده في باريس.
ومن اللافت أن غرو بقي محافظاً على أسلوبه النيو ــ كلاسيكي فلم يُدخل عليه أيّ تبديل إلا بعد سقوط بونابرت، حيث انتقل إلى لمسات واقعية أوضح؛ كما في «داود يعزف على القيثارة أمام الملك شاول»، 1822؛ و»هرقل وديوميديس»، 1835. كأنّ اقترانه بمسارات الإمبراطور كان، في أكثر من وجهة، قد رسّخ ميوله الأسلوبية أيضاً وأبقاها رهن الوظائف المطلوبة منه في خدمة الإمبراطورية؛ وبالتالي لم يتبدّل، من حيث الشكل والمحتوى والعلاقة مع المتلقي، إلا بعد انحسار تلك الوظائف أو انتهاء معظمها. وثمة معطيات تشير إلى أنه، في السنوات الأخيرة من حياته، أدرك انحطاط مكانته الفنية (بالمقارنة مع زملائه، أمثال بيير ـ نرسيس غيران، صاحب لوحة «بونابرت يعفو عن متمردي القاهرة»، 1808)، والاجتماعية (بالنظر إلى أنّ الملك شارل العاشر كان قد خلع عليه لقب بارون)؛ الأمر الذي قد يفسّر العثور عليه غريقاً في نهر السين، قرب مدينة سيفر، وقد ترك في قبعته قصاصة تقول إنه «تعب من الحياة، وخانته آخر المَلَكات التي كانت تجعلها محتملة».
لكنّ عمله الأبرز، ضمن سياق تكريس الخطّ الاستشراقي في التشكيل الفرنسي، كان لوحته الشهيرة «بونابرت يزور ضحايا الطاعون في يافا، 11 مارس 1799»، التي تُعرض اليوم في متحف اللوفر الباريسي، وكانت قد عُرضت للمرّة الأولى في معرض باريس، أيلول (سبتمبر) 1804، فأثارت موجة من الإعجاب حتى لدى الرسامين المتنافسين مع غرو. كما طرحت اللوحة للنقاش مسائل، وبالتالي إشكاليات، إدخال العناصر والمناخات الشرقية إلى اللوحة الفرنسية عموماً، وإلى الموضوعات الحربية والعسكرية خصوصاً. اللوحة تشغل أكثر من 35 متراً مربعاً (5,22 X 7,15) من الزيت على القماش، وتصوّر بونابرت وهو يزور مجموعة من مرضى الطاعون الدملي، الذي كان قد اشتدّ على الجنود الفرنسيين بعد حصار يافا واجتياحها. وكان الجنرال، وقد ارتقى إلى رتبة القنصل الأوّل ويستعدّ للتتويج كإمبراطور في كنيسة نوتردام، قد أوصى على اللوحة لتجميل صورته وتنزيه سلوكه عن الاتهامات الفظيعة التي راجت آنذاك، ليس حول تصفية 3000 أسير من حامية يافا فحسب؛ بل كذلك التخلي عن جنوده والعودة إلى القاهرة، ثمّ إلى باريس حين أخذت الرياح في فرنسا تسير عكس خططه، ليس قبل أن يأمر بتسميم جميع المصابين بالطاعون في صفوف جنوده أنفسهم.
مشهد لوحة غرو يجري في مسجد، وهنا الأكذوبة الأولى التي تفضح النزوع إلى الاختلاق الاستشراقي وحشر الأعمدة والزخارف والقناطر والمآذن، فالمصادر التاريخية المختلفة تسجّل أنّ المستوصف العسكري الفرنسي الذي خُصّص لمرضى الطاعون كان قد أقيم على جبل الكرمل وليس في أيّ موقع آخر، ناهيك عن مسجد. والعنصر الثاني المكمّل للأكذوبة الأولى هو إظهار بونابرت بمظهر يسوع المسيح وهو يشفي من الجذام، أو الملك الشافي Roi thaumaturgique في تأويل آخر يستدعي التقاليد الفرنسية السائدة في تلك الحقبة؛ وذلك حين يلمس الجنرال صدر أحد المرضى، بينما يحاول الضابط كبير الأطباء منعه، وخلفه ضابط ثالث يضع منديلاً على فمه، ضمن جملة إيحاءات أخرى إضافية يُراد منها أن تقود العامة إلى الاعتقاد بأنّ بونابرت شجاع ومتعاطف مع جنوده المرضى ولا يخشى انتقال العدوى إليه. وفي منظورها البصري، تبدو اللوحة منقسمة إلى جزء أوسط وضاء يسبح بالنور الساطع، هو مساحة وقوف بونابرت وضباطه؛ وأجزاء على الميمنة والميسرة والأسفل تغرق في العتمة، يحتلها المصابون بالطاعون وبعض العرب القائمين على خدمتهم، والذين يرتدون ثياباً مصرية على طراز سوف تكرسه أعمال استشراقية لاحقة. وفي الخلفية العميقة، عبر قناطر المسجد المفترض، تبدو أسوار يافا يتصاعد منها الدخان ويرتفع عليها العلم الفرنسي؛ كما يظهر جزء من دير القديس نقولا التابع لكنيسة الأرمن الكاثوليك، وقد اتخذ أحد أبراجه هيئة توحي بمئذنة عجيبة الشكل يلوح وكأنّ صليباً قد رُفع فوقها. ولا مفرّ، بالطبع، من وجود جمل رابض في الخلفية القريبة، لأنّ الشرق لا يصحّ أن يُلتقط في تمثيل غربي و»سفينة الصحراء» غائب عن المشهد!

الكرّاس المرافق للوحة في معرض 1804 نُشر بعنوان «بونابرت، القائد العام لجيش الشرق، في لحظة لمسه ورماً طاعونياً خلال زيارة إلى مشفى يافا»؛ إذْ لم يكن كافياً ما تنقله اللوحة من جرعة بروباغندا عالية، وعارية تماماً في رسائلها المعلنة والمضمرة، فتوجّب أن يشمل التبجيل أدبيات المعرض ذاتها. ففي إحدى الفقرات جاء التالي: «بهدف إزالة الفكرة المخيفة من العدوى الفورية غير القابلة للشفاء، تظهر أمام القائد أورام طاعونية، فيلمس الكثير منها. وهكذا أعطى، من خلال هذا التفاني الرفيع، القدوة الأولى لشجاعة لا سابق لها حتى ذلك الحين، والتي سيقيّض لها مقلدون بعدئذ». أمّا على أرض الواقع، وسلوك الجنرال في استباحة يافا تحديداً خلال ذلك الطور من «التفاني الرفيع» ذاته، فقد أتفقت غالبية المؤرخين، والفرنسيين منهم قبل سواهم، على أنها كانت في عداد الأبشع والأشدّ وحشية ودموية على مدار التاريخ.
على سبيل المثال، يكتب جاك ـ فرنسوا ميو Miot في «مذكرات لخدمة تاريخ البعثات في مصر وسورية»، 1814، أنّ استذكار وقائع حصار يافا «ترجف له يدي، التي عجزت عن كتابة كلّ الأهوال»؛ وفي عدادها أنّ بونابرت تواصل مع حاكم يافا عبد الله بك وأعطاه الأمان والوعد بالمحافظة على أروح جنوده إذا استسلم، ثمّ نقض ما وعد به وأمر بارتكاب المذبحة المعروفة التي أفنت 3000 إلى 4000 من أفراد الحامية. ولتوفير الطلقات صدرت الأوامر باستخدام الحراب والسلاح الأبيض، وطورد الذين نجحوا في الفرار إلى البحر فحصدتهم بنادق الفرنسيين حتى انقلب لون الأمواج إلى الأحمر. بين تلك الأهوال، أيضاً، إصدار بونابرت أمراً إلى رونيه ــ دوفريش ديجونيت، كبير الأطباء في الجيش، بإفناء 30 من الجنود الفرنسيين المرضى والمعاقين عن طريق حقنهم بجرعات سامة من صبغة الأفيون؛ وحين رفض الضابط تنفيذ الأمر لجأ الجنرال إلى كبير الصيادلة فامتثل الأخير، وتُركت جثث الجنود الموتى ملقاة في العراء على جبل الكرمل.
لافت، إلى هذا، أنّ بعض الأبحاث الفرنسية تشكك في صحة الزيارة التي تصوّرها لوحة غرو، بل يذهب البعض إلى درجة النفي التامّ لأية زيارة قام بها بونابرت إلى مصحّ أو مشفى يضم مصابين بجائحة الطاعون. هذا موقف جان ــ فيليب شيمو Chimot في بحثه المعنون «الحقيقة حول الأكذوبة»(1)، الذي يشير إلى أنّ الجنرال بيرتييه الذي كان وثيق الصلة بالحملة لا يذكر شيئاً عن واقعة الزيارة؛ وهذه حال بوريين، سكرتير الجنرال الشخصي، الذي يقول إن الجنرال مرّ بالقرب من محجر صحي ولكنه لكز حصانه ومضى سريعاً! «أليست يافا غروس بمثابة «كذبة صغيرة داخل خطأ جسيم، أو خطأ جسيم ضمن مدخل مشتهى إلى نيران الحلم الاستشراقي؟»، يتساءل شيمو؛ ويضيف: «فإذا انزلقنا من وصف الترقيع المعتاد داخل «جهاز الدولة الإيديولوجي»، إلى موضع نظري أكثر، فلسوف يُقال إنّ مرضى الطاعون [في لوحة غرو] ليسوا استعارة تصف أكذوبة، بل مَسْخها، وعلامة تحوّلها إلى نماذج مصطنَعة».
ولا يتوجب أن تُنسى هنا حقيقة أنّ الطاعون أصاب الجيش الفرنسي في الإسكندرية ودمياط أوّلاً، ثمّ اشتدت وطأته خلال الحملة السورية وفي طور حصار يافا تحديداً، حتى أنّ المصادر التاريخية أشارت إلى قرابة 30 وفاة يومياً؛ ورغم ذلك رفض بونابرت، وضباطه الأطباء من ورائه، استخدام مصطلح «وباء» واكتفوا بالحديث عن «حمّى» غير معدية، إلى أن تفاقم انتشار المرض وبلغت حدّته درجة لم تعد تحتمل الإنكار (في الجزء السفلي الأيمن من لوحة غرو يبدو بين المصابين ضابط فرنسي طبيب). وهنا واحدة من مفارقات البعد البروباغندي في اللوحة: تلفيق شجاعة الجنرال في لمس دمامل الطاعون، من جهة؛ وطمأنة الرأي العام الفرنسي إلى أنّ الطاعون ليس معدياً باللمس، من جهة ثانية. وعلى نحو ما، وفي نقض ضمني لوظيفة الملك الشافي باللمس، يبدو بونابرت في لوحة غرو أقرب إلى تجسيد عقلانية عصر الأنوار في نفي الخزعبلات والخرافات بصدد الطاعون، عن طريق إعطاء القدوة ولمس الجسد المصاب.
دارسي غريمالدو غريغسبي، أستاذة تاريخ الفن في جامعة كاليفورنيا، تساجل من جانبها بأنّ عمل غرو أعمق مغزى، وأخطر وظيفة استطراداً، من مجرّد تجميل وجه الإمبراطور الذي بات قبيحاً بعد انكسارات عكا وأخبار جرائم الحرب. ذلك لأنّ اللوحة عُرضت على الجمهور الفرنسي خلال مرحلة سياسية بالغة الدقة في حياة فرنسا انطوت على الانتقال من النظام القنصلي إلى الإمبراطورية، والإعلان عن تتويج بونابرت في الربيع السابق ثمّ تأجيله إلى كانون الأول (ديسمبر)، وطيّ معاهدة أميان مع إنكلترا، ووتعلااظم المؤامرات الملكية ضد بونابرت. وبهذا المعنى فإنّ لوحة غرو لم تكن تمجّد الإمبراطور فقط، بل كانت تقتحم الفضاء العام أيضاً، متسلحة بعدّة استشراقية خاصة، وتستحث المزيد من الشقاق داخل صفوف الجمهوريين والملكيين على حدّ سواء، وتمنح السلطة هوامش إضافية للمناورة بين سياسات الداخل والخارج(2).
وفي نهاية المطاف، تتابع غريغسبي، هذه لوحة تمتعت بشعبية واسعة لأنها على صلة بالإمبراطور وحملتَيْه في مصر وسورية، ولكنها للغرابة لا تلتقط برهة مجيدة أو واقعة تستدعي الفخار الوطني، على غرار معارك بونابرت الظافرة مثلاً؛ بل تبدو محزنة ومأساوية ومحبطة، كامدة قاتمة بصرف النظر عن مساحات الضياء التي يسبح فيها الجنرال وضباطه. ذلك يميّز العمل عن، أو ربما يضعه في تعارض مع، أعمال أخرى بارزة شهدتها الحقبة البونابرتية ذاتها، مثل لوحة غرو نفسه، «بونابرت يخاطب الجيش قبل معركة الأهرامات»، 1810؛ أو لوحة غيران «بونابرت يعفو عن متمردي القاهرة». ليس أقلّ إثارة للاهتمام أنّ يقع الاختيار، في عام 1810، على عمل غرو لحيازة جائزة اللوحة العسكرية الأرفع خلال سنوات الإمبراطورية البونابرتية بأسرها؛ وذلك رغم أنّ المناخ الثوري في تلك الفترة كان يُفرد تبجيلاً خاصاً للمواطن الجندي، ولم تكن صورته ضحية الطاعون (خارج فرنسا، في يافا، وابن البلد العربي يقدّم له الخبز!) هي المثال المرتجى السعيد؛ فكيف وأنها تأتي من الرسام ذاته الذي، في لوحته «معركة الناصرة»، قدّم الجندي الفرنسي في إهاب ثوري وجمهوري مشرّف.
وتقتبس غريغسبي حواراً جرى خلال معرض 1804 بين غرو وأحد المشاهدين:
ـ هل مرضى الطاعون هؤلاء من مصر؟
ـ كلا، بل هم فرنسيون.
ـ فلماذا، إذن، اتخذوا لأنفسهم هيئة مصر وشخصيتها؟
وتعلّق غريغسبي: «في هذا العكس المزاجي للتعارض الاستشراقي بين الإنسان المدني والبربري، من الواضح أنّ لوحة غرو تزعزع الافتراض السهل المرتبط بعمليات الرسم الاستشراقي، وهو رسم استقرّ دائماً على تعظيم الغرب وتهميش الشرق، ضمناً على الأقلّ إذا لم يكن صراحة. وضعية العكس في لوحة غرو تفسر السبب في أنّ مؤرّخي الفنّ الحديث فشلوا على نطاق عريض في مناقشة اللوحة بمصطلح الصلة الاستعمارية بين الثقافات، وفضّلوا إبداء ملاحظات عامة حول طابعها الإكزوتيكي والاستشراقي، وتمجيدها لشخصية نابليون من زاوية البروباغندا».

والحال أنّ غالبية القراءات في عمل غرو لم تتوقف عند، والكثير منها لم يتنبه إلى، ما عكسته عناصرها من توتر بين المفاهيم الوطنية الكلاسيكية حول الهوية بمصطلح سلسلة التمثيلات التي يجسدها بونابرت أوّلاً، وضباطه من حوله وبعده تالياً؛ وبين تلك المفاهيم كما باتت متورطة في ثنائيات متعارضة، من طراز المستعمِر والمستعمَر، الذات والآخر، الفرنسي والعربي، وصولاً إلى الخلفية الوقائعية المباشرة في اللوحة: المعافى (فرنسياً كان أم عربياً) أمام المصاب بالطاعون (وهو فرنسي حصرياً هذه المرّة). وليس تفصيلاً عابراً تلك التحديقة الفريدة للعربي حامل سلّة الخبز، ونظرته من وراء الظهر إلى بونابرت، وبنية جسده العملاقة والفحولية المنفردة، والمتناظرة عكساً مع شخوص الفرنسيين مرضى الطاعون.
وفي الخلفية الإمبريالية والجيو ــ سياسية العميقة لولادات الاستشراق الفرنسي الأولى كمنت فكرة تشكيل «جيش الشرق»، في نيسان (أبريل) 1798، وتكليف بونابرت بقيادته، وسط تكتّم شديد؛ توجّب، مع ذلك، أن تفضحه سريعاً الاستعدادات الهائلة لبدء حملة مصر: 50.000 جندي وضابط، 400 سفينة حربية، 1,000 قطعة مدفعية، 700 حصان، 567 عربة؛ فضلاً عن مفرزة يندر أن ترافق الجيوش الغازية، مؤلفة من عشرات العلماء في التاريخ والجغرافيا والآثار والأديان والعلوم التطبيقية والمناجم والتعدين. ويجدر التذكير هنا بأنّ للمشروع الفرنسي في غزو مصر سابقة ذات دلالة كبرى، تعود إلى سنة 1672 حين سافر العالم والرياضي الألماني الشهير غوتفريد ليبنتز إلى باريس للقاء الملك لويس الرابع عشر وتقديم كرّاسه المعنون «أفكار حول السلامة العامة»، والذي يقترح فيه أن تتصالح الدول الأوروبية وتكف عن خوض الحروب بين بعضها، وأن تتوجه في المقابل إلى غزو العالم المسلم. مستهلّ المشروع أن يبدأ الجيش الفرنسي في احتلال مصر، بحيث «تصبح فرنسا سيّدة المتوسط، وحجر الزاوية في الإمبراطورية الفرنسية، والمدخل إلى السيطرة على طريق الهند»(3). وفي «الاستشراق»، 1978، توقف إدوارد سعيد عند التحالف الوثيق بين الإمبراطورية وعلوم الاستشراق ضمن سياق تلك الحملة، فتناول كتاب «وصف مصر» باعتباره أولى ثمار التعاون بين الغازي العسكري والغازي الباحث، وقارنه بكتاب الجبرتي «عجائب الآثار في التراجم والأخبار». ومن المعروف أنّ خلاصات سعيد اقتصرت على المؤلفات المكتوبة والمادّة الخطابية، فلم يناقش ميادين الاستشراق الفرنسي الأخرى، في الفنون التشكيلية موضوع هذه السطور، على سبيل المثال.
وفي إطار المآلات المنطقية لسياقات كهذه، يصعب استبعاد تأثيرات تلك الحقبة، وأعمال غرو الاستشراقية، ولوحة طاعون يافا تحديداً، في التكوين التدريجي لتيار مواز استشراقي بدوره، لكنه أكثر تركيزاً على منعطفات التاريخ الكبرى وليس الأفراد العظماء وحدهم؛ كما في التكليف الرسمي الذي تلقاه أوجين دولاكروا في سنة 1840 لرسم لوحة «دخول الصليبيين إلى القسطنطينية»، كي توضع في متحف تاريخ فرنسا داخل قصر فرساي. وهكذا فإنّ لوحة «بونابرت يزور ضحايا الطاعون في يافا، 11 مارس 1799» أكثر من مجرّد «خبطة» بروباغندا تلفيقية، لأنها لم تخدم سلسلة غايات سياسية في طور بالغ الحرج، فحسب؛ بل انتهت، أيضاً، إلى ترسيخ خطّ استشراقي سوف يتنامى ويتعاظم ويستقرّ في التشكيل الفرنسي ابتداء من مطالع القرن التاسع عشر، ويبلغ ذرى فنية مشهودة عند أمثال جان ــ ليون جيروم وجان ــ دومنيك أنغر، وأوجين فرومنتان. وليس عبثاً أنّ اللوحة ضخمة المقاييس، تحتشد فيها عناصر تجميل الجنرال وتمجيده، على خلفية استشراقية مبهرة وجذابة وجديرة بإطلاق المخيّلة الشعبية، مع مراعاة متطلب خاصّ حاسم: ألا يكون مسرحها عادياً أو مألوفاً، وأن يوحي بالمسجد دون سواه.
في هذا الخيار جماع ذلك المزيج الكلاسيكي من تأجيج الغلوّ الديني المسيحي، في فرنسا؛ وتسخير الصدمة الثقافية، بين المسجد والدير الأرمني؛ واستكمال الصورة التي سعى بونابرت إلى إشاعتها فور رسوّه على برّ مصر في صيف 1798، بأنه «السر عسكر الكبير»، و»بونابرتة أمير الجيوش الفرنساوية»، و»السلطان الكبير علي بونابرت»، أو القائل في منشور الغزو الأوّل: «أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيّه والقرآن العظيم». وفي التركيز على مشهدية الطاعون تحديداً محاولة، بارعة وخبيثة في آن معاً، بريشة عالية الموهبة، وبأسلوبية استشراقية مستحدثة أو غير مألوفة، لعكس الآية: حقيقة اقتران الأوبئة بالمشاريع الاستعمارية في مجملها، وبالحملة الفرنسية على مصر وسورية خاصة. ولا ضرر، إلى هذا، أن يبدو الطاعون استعارة من نوع ما، تختزل شرور الشرق ومعاصيه، وتجسد ما حمله الإمبراطور على كتفيه من أعباء تمدين الهمج!

*المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here