صبحي حديدي: بكاء برهم صالح ورقص جيمس بيكر

0

ذات يوم كان برهم صالح، الرئيس العراقي الحالي، نائباً لرئيس الوزراء العراقي، وحضر مؤتمراً للمانحين في طوكيو، فتباكى مطولاً على حال العراق، وناشد المجتمع الدولي كي يساعد البلد بمساعدات مالية عاجلة وسخية. في الآن ذاته كان المحامي ‏جيمس بيكر، هو ذاته وزير الخارجية الأمريكي الأسبق أيام “عاصفة الصحراء”، يزور المنطقة ليرقص على ‏حبلَين: أداء “المهمة النبيلة”، حسب وصف الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، في إيجاد حلول لجدولة ‏أو محو ديون في ذمّة العراق تقارب 200 ‏مليار دولار، من جهة؛ وممارسة مهمّة أخرى (يصعب وصفها بـ”‏النبيلة”!) نقيضة تماماً، هي تحصيل ديون الحكومة ‏الكويتية وتأمين مصالح مجموعة  Carlyle  (حصّة بيكر ‏في أسهمها تبلغ 180 مليون دولار)، من جهة ثانية!

حال التناقض الصارخ تلك قابلها، من جانب آخر، سكوت الحكومة العراقية التامّ عن عائدات النفط العراقي: ما مقاديرها؟ أين تذهب؟ مَن يتحكّم بها؟ متى ستوضع في خدمة العراقيين؟ يومذاك، كانت المعلومات الرسمية تقول إنّ كامل عائدات النفط والغاز، بالإضافة إلى مليار دولار اقتُطعت من “برنامج النفط مقابل الغذاء”، ذهبت إلى “صندوق تنمية العراق” الذي تمّ إنشاؤه بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483. والقرار هذا نصّ على وضع الصندوق في عهدة الاحتلال الأمريكي، بغرض استخدام الأموال على نحو شفاف لتلبية الحاجات الإنسانية للشعب العراقي. كذلك عيّن العراق هيئة محاسبة تتابع أوجه صرف تلك الأموال، بما في ذلك قانونية العقود التي تبرمها سلطات الاحتلال مع مختلف المتعاقدين.

لكنّ هيئة المحاسبة هذه لم تتمكن أبداً من أداء عملها كما ينبغي، إذْ لم تفلح قط في تدقيق عقود الاحتلال مع الشركة العملاقة “هالبرتون” ذات الارتباطات الوثيقة القديمة والمتجددة مع نائب الرئيس الأمريكي الأسبق ديك شيني، وجابهت عشرات العراقيل البيروقراطية. ومنظمة “مراقبة مداخيل العراق”، التابعة لـ “معهد المجتمع المفتوح”، ذهبت أبعد في توجيه أصابع الاتهام، فسجّلت إنّ أفراد هيئة المحاسبة مُنعوا من دخول “المنطقة الخضراء”، وذلك حين حُجبت عنهم التراخيص الأمنية لدخول تلك المنطقة والقيام بعملهم في الحدّ الأدنى!

في المقابل، وعلى نقيض ما هو شائع، لم تنفق سلطات الاحتلال سوى 500 مليون دولار من مبلغ الـ 18.7 مليار التي وضعها الكونغرس في تصرّف البيت الأبيض بهدف إنفاقها في العراق، حسب معلومات صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية. صحيفة “نيويورك تايمز”، من جانبها، خفّضت المبلغ إلى 400 مليون وأوضحت أنّ معظم الصرف ذهب لصالح متعاقدين أمريكيين وشركات أمريكية، وهذه لم تشغّل أكثر من 15 ألف عامل عراقي. وعلى سبيل المثال الصاعق، كانت حصّة وزارة الثقافة العراقية من عائدات النفط مبلغ 20 ألف دولار فقط لا غير!

وليس من الإنصاف محاولة فهم الانتفاضة الشعبية الراهنة في العراق دون استعادة هذا الإرث من الفساد السياسي، الذي كان الاحتلال الأمريكي قد استولده تدريجياً ومنهجياً، قبل أن تتولى إدارته محاصصات البلد الطائفية والحزبية، والتي أحسنت أيضاً توظيف وقوع العراق في واحد من أسوأ شروط الإرهاب. كان خسران الموصل أمام “داعش”، في جانبه المتصل بالفساد العسكري المالي والطائفي، بمثابة النذير الأعلى إلى سلسلة حقول الألغام الموقوتة التي تفصل بين الشارع الشعبي والفئات الحاكمة، والتي سوف تتفجر تباعاً وتبلغ اليوم ذروتها في اقتراب الاعتصامات من “المنطقة الخضراء” الشهيرة إياها.

وفي نهاية المطاف، مثل أوّله أيضاً، هذا بلد تدرّ عليه عائدات النفط 6.5 مليار دولار شهرياً، لكنّ معدّل البطالة فيه يقارب الـ15%، ويفتقر إلى خدمات صحية ماسة وتعليم مقبول، ويعاني من استعصاءات قاتلة في البنية التحتية والكهرباء والماء ونهب المال العام والثروات، وفساد معمم ومكرّس ومغطى من الأجهزة والسلطات والأحزاب… بل لعلّ بعض أبنائه، في مختلف طوائفهم ومذاهبهم وإثنياتهم، وإزاء أكثر من 320 شهيداً حتى الساعة، وانهمار الرصاص الحي قبل المطاطي، يتحسرون على… بكاء برهم صالح ورقص جيمس بيكر!

المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here