الواقعة شهدتها مدينة البندقية الإيطالية يوم 26 تشرين الأول (أكتوبر) 1967، حين سافر إليها المخرج السينمائي والشاعر والروائي بيير باولو بازوليني (1922-1975)، لإجراء حوار غير عادي لصالح التلفزيون الإيطالي؛ مع شاعر كبير ومنظّر أدبي عالي النفوذ وعرّاب حداثة القرن العشرين: الأمريكي غير العادي إزرا باوند. قبل اتخاذ هذا القرار، المفاجئ في اعتبارات سياسية وإيديولوجية وشعرية عديدة، كان بازوليني حقبة الخمسينيات يطلق على باوند صفات مقذعة تماماً، أقلّها «العنصري» و»الفاشيّ»، وقد دخل في خصومة مع صديقه المقرّب إنزيو سيسيليانو لأنه ترجم أحد أناشيد باوند إلى الإيطالية. وساعة اتخاذ القرار كان بازوليني ماركسياً عتيداً، ويسارياً ناشطاً، وسينمائياً لامعاً، وشخصية إشكالية على أكثر من صعيد؛ وفي المقابل كان باوند قد أخلد إلى الصمت التامّ، منكفئاً على جراح مواقفه المتعاطفة مع الفاشية عموماً وبينيتو موسوليني خصوصاً؛ ولكنّ نفوذه الشعري شمل عدداً من أبرز شعراء إيطاليا، أمثال أوجينيو مونتالي، إدواردو سانغينيتي، وجيوفاني رابوني.
ما الذي دفع بازوليني لإجراء ذلك الحوار مع هذا الشاعر تحديداً؟ وهل كانت ميوله خلال السنوات الأخيرة التي سبقت الذهاب إلى فينيسا قد خضعت لتأثيرات باوند، الشخص والشاعر والمنظّر؟ وكيف أمكن لصدام، منتظَر منطقياً بين نقيضَين، أن يُدخلهما في حوار انتهى إلى سلسلة من التوافقات المفاجئة تماماً؟ ولماذا وافق باوند على كسر الصمت الذي ألزم نفسه به، على امتداد سنوات، لصالح لقاء متلفز وإذاعي مع بازوليني، دون سواه؟ وكيف حدث أنّ حواراً، كان يُنتظر منه أن يسهم أكثر في تأثيم باوند وتجريم خياراته المناصرة للفاشية، انتهى فعلياً إلى تقريب صورته من المشاهد الإيطالي العريض، وتثمين منجزه الشعري، والتعاطف مع عزلته؟ وهل كانت إيطاليا، يوم 7 حزيران (يونيو) 1968 موعد بثّ الحوار، في حال من التأزّم الوطني السياسي والاجتماعي والإيديولوجي يسمح بإعادة تأهيل باوند والتسامح معه بعد خصام ورفض؟
هذه الأسئلة، وسواها أخرى كثيرة ومتنوعة، يتصدى لها شون مارك في كتابه «باوند وبازوليني: شعريات الأزمة»، الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية، ضمن منشورات «بالغريف ماكميلان»؛ ناظراً إلى تلك البرهة الحوارية الفريدة من زوايا زمانية وإيديولوجية وجمالية متعددة، لا تغفل فوارق الجغرافيا والتاريخ واللغات وأشكال التعبير. لافت إلى هذا أنّ مارك، الأستاذ في جامعة السوربون، يسخّر مناهج الدراسات المقارنة وتاريخ الأدب ومعطيات السيرة والسيرة الذاتية لكلّ من باوند وبازوليني، كي يخلص إلى وضع الحداثة الأوروبية الرأسمالية على محكّ أزمات سياسية وثقافية معقدة، فشلت في التحوّل إلى ما أُريد لها من مآلات طوباوية. وانطلاقاً من نصّ الحوار، مع عدم الاقتصار عليه بالطبع، يتوصل مارك إلى خلاصات ثمينة حول العلاقة بين الشعر والعقيدة، وأنساق تأثّر باوند بالأدب الإيطالي وتأثيره فيه، وسلسلة النتائج التي ترتبت على ريادة المركز اللندني للحداثة الشعرية مطلع القرن العشرين وجدل العلاقات مع أطراف أوروبية أخرى، وأدوار رأس المال والتوسع الاستعماري وصعود الإيديولوجيات في هذا الخضمّ العارم…
وعلى أكثر من محور في فصول الكتاب الخمسة، ومقدّمته المسهبة وملاحقه، يمتلك المرء ما يشبه المفاتيح التحليلية، الملموسة أو الافتراضية، لتقليب الرأي في خيار قراءة أوّل يفضي إلى اعتبار الحوار مواجهة مفتوحة متفقاً عليها، في صيغة بازوليني ضدّ باوند تقريباً؛ أو تفضيل خيار قراءة ثانٍ يغوي بترجيح طراز من التواطؤ بين المحاوَر والمحاوِر، قوامه شعريات تتأزم تارة، وتتصالح تارة أخرى. للمؤلف فضل في هذا، غنيّ عن القول، ما خلا أنّ أجزاء الحوار التي تنهض على روحية السجال بين الرجلين لا تتوسل انتصار رأي على أخر نقيض، بقدر ما تتلمّس الظواهر في أرضياتها الأعمق، وكيف يراها بازوليني الثابت على ماركسيته مقابل باوند الذي يراجع خياراته في سياقات عزلة ليست اختيارية تماماً وإنْ كانت عناصر القسر والإجبار غير غائبة عنها.
وهذه السطور ترى أنّ السجال حول نتاج باوند الشعري عانى طويلاً من مقاربة مانوية، تُقعد النقاش المعمّق حول منجزه الشعري الكبير والفريد، إذْ تحصره في تساؤلين لا ثالث لهما: هل يمكن للشعر الذي يعبّر عن آراء شريرة (مثل تأييد الفاشية…) أن يكون عظيماً أو رفيعاً حقاً؟ وإذا كان ذلك الشعر عظيماً ورفيعاً حقاً، هل ينبغي أن نلوم المعايير الأخلاقية والموقع الجماهيري للشعر في حدّ ذاته؟ وأمّا أكبر أضرار هذه المانوية فهو أنها تطلق حملات تعتيم منظّمة، بسبب اتهام باوند بالعداء للسامية أيضاً، فتُحجب عن سابق عمد إنجازات شاعر ومنظّر ومترجم غير بعيد عن أن يكون الشخصية الأشدّ تأثيراً في ممثّلي حداثة القرن العشرين وتياراتها وأساليبها.
لهذا فإنّ كتاب مارك لا ينصف باوند من زوايا كثيرة تخرق حملات التعتيم، فحسب؛ بل ينجح في إدخال شعره وآرائه ضمن شبكة جدلية مركبة كان بازوليني ناطقاً باسمها في مقام أوّل، ثمّ ناقداً باحثاً في أبعاد تأزمّها السياسي والاجتماعي والثقافي في مقامٍ ثان؛ من دون التخلّف عن مقام حيوي ثالث هو ردّ دراسات باوند إلى ما يليق بها من رصانة وجدّية وحُسْن استكشاف.
*القدس العربي