صبحي حديدي: انقلاب قيس سعيّد: مَن يشبع تعطش الاستبداد؟

0

شرائح غير قليلة ممّن هاجموا المرشح الرئاسي قيس سعيّد بذريعة أنه واجهة «حركة النهضة» ودمية يحرّكها راشد الغنوشي، هم اليوم أنفسهم الشرائح التي تصفّق لتفسيراته الانقلابية للفصل 80 من الدستور؛ وليس بعيداً ذلك الزمن الذي شهد تصفيقاً مماثلاً، متواصلاً حتى الساعة، للتهريج الديماغوجي الذي طبع سلوك عبير موسي داخل البرلمان وخارجه. هذه، باختصار شديد لعله ليس مجحفاً، هي حال نُخُب تونسية اعتادت أن تستجير من الرمضاء بالنار، متناسية أنّ الذي أتى به صندوق الاقتراع، يتوجب أن يقصيه ذات الصندوق، وليس أيّ انقلاب صريح أو مقنّع لا يخفى فيه ظلّ دبابة العسكر الطويل.
وليس المرء بحاجة إلى التبحّر في فقه الدستور التونسي كي يدرك أنّ الفصل 80 لا يخوّل الرئيس اتخاذ غالبية الإجراءات التي لجأ إليها، بليلٍ كوفيدي دامس كما قد يصحّ القول، بل يُقام نصّ الفصل ذاته دليلاً على المحتوى الانقلابي والتعسفي والتسلطي والفردي في الغايات السياسية خلف تأويلات تستغفل عقول الناس علانية وعلى النحو الأشدّ صفاقة. فكيف يستقيم تأويل سعيّد للاشتراط الذي يستوجب بقاء البرلمان في حال انعقاد دائم خلال مدّة الـ30 يوماً من سريان مفعول الإجراءات الاستثنائية، إذا كان الرئيس قد ابتدأ المشوار بتجميد عمل البرلمان؟ وكيف يستقيم تفقّه سعيّد في قراءة النصّ الخاص بالتشاور الدائم مع المحكمة الدستورية، إذا كانت المحكمة غير موجودة أصلاً، وكان سعيّد هو نفسه الذي عطّل تأسيسها؟ وماذا عن إلزام الرئيس بالتشاور مع رئيس البرلمان ورئيس الحكومة، إذا كان سعيّد قد أطاح بالثاني وأغلق بوابة البرلمان بدبابة؟
وعلى جانب آخر من معادلات الانتهاك العديدة التي انزلق إليها سعيّد، منذ متى كان من صلاحيات الرئيس (دستورياً بالطبع، وليس انقلابياً) إقالة مدير التلفزيون الرسمي، أو إرسال أمن الرئاسة لاعتقال نائب في البرلمان بالنيابة عن أجهزة القضاء المختصة، أو الزعم بحماية الحقوق والحريات وفي الآن ذاته التزام الصمت المطبق إزاء اقتحام مكاتب «الجزيرة» ومنع صحافييها من العمل؟ وكيف، في صفوف نخب التطبيل لإجراءات سعيّد، يسكت زاعمو الدفاع عن الديمقراطية عن مسعى حاكم قرطاج الأوحد للاستئثار بالسلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية؟ ثمّ، على نحو محدد يثير أسى من طراز خاصّ، كيف يواصل «الاتحاد العام التونسي للشغل» الصمت، أو حتى التواطؤ الضمني من بعض قياداته، مع سلسلة الإجراءات الانقلابية؛ وهو منظمة فرحات حشاد ومحمد الفاضل بن عاشور، العريقة نقابياً وسياسياً؟ وأين الفصحاء من كبار الكتّاب والمثقفين والمنظّرين، الذين اعتادوا انتقاد سعيّد و»حركة النهضة» وكامل المشهد الحزبي في تونس؛ وأين، بين هؤلاء، وجوه «اليسار» و»العلمانية» و»التنوير»، فضلاً عن حفيدات وأحفاد الطاهر الحداد بصفة خاصة، كيلا يتحدث المرء عن مدّعي وراثة البورقيبية، خارج دوائر «الدستوري الحرّ» وديماغوجيات عبير موسي؟
ولعلّ من الخير للصامتين اليوم، وليس للذين يصفقون لإجراءات سعيّد الانقلابية فهؤلاء على شاكلة كبيرهم الانقلابي، أن يتبصروا جيداً في الأكلاف الفادحة التي سوف يتوجب عليهم سدادها أمام الضمير الشعبي الجَمْعي في تونس اليوم، وفي تونس الغد، مثلما في الضمير العربي والكوني الذي تعاطف مع انتفاضة الشعب التونسي ويراقب المشهد ببصيرة ثاقبة لن توفّر الحساب والملامة والمسؤولية ذات ساعة آتية. والحقيقة التي تقول إنّ انتخاب سعيّد للرئاسة، ورغم ما حظي به من مساندة «النهضة»، كان نذيراً بأنساق شتى من إفلاس الأحزاب التقليدية، يسارية كانت أم يمينية وعلمانية أم إسلامية؛ تصلح أيضاً لصناعة حقيقة اليوم التالي، من أنّ هذا الرجل الـOutsider لن يقتات في تصعيد ذاته الدكتاتورية على ما تبقى من أشلاء تلك الأحزاب، بل سيحتاج إلى الاستدارة نحو المصفقين أنفسهم لإشباع تعطشه إلى الاستبداد. ولهم في تجربة نُخب مصر مع السيسي عبرة وقدوة، لو كانوا يعلمون.

*القدس العربي