انتهت جولة أخرى من مسلسل العقاب الذي أمر به بشار الأسد ضدّ رامي مخلوف، ابن خاله وصيرفي النظام وتمساح النهب ومموّل الاستبداد؛ فرُفعت الحراسة القضائية عن شركة «سيريتل»، وتقرر إحالة مجلس الإدارة السابق إلى القضاء، وعُيّن مدير عام جديد يصحّ تنسيبه إلى فئة «تكنوقرط» السلطة لأنه يحمل الدكتوراه في الاقتصاد (من جامعة دمشق)، وكان نائب عميد كلية الاقتصاد للشؤون الإدارية.
لا تسعى هذه السطور إلى مناقشة أبعاد السياسة والاقتصاد والفساد وحروب ذئاب النهب وضباعه وتماسيحه في قلب النظام وعلى هوامشه وأطرافه، فليس هذا العمود المقام المناسب لها؛ بل تهدف إلى وضع ملفات المحمول السوري في إطار ما بات يُعرف في علم اجتماع التواصل المعاصر تحت مصطلح «الأداة الثقافية التبادلية»، حيث يشغل الهاتف المحمول، والأصناف الذكية منه بصفة خاصة، مواقع صدارة آخذة في الاستقرار والترسخ وامتلاك التأثير والنفوذ، وقسط غير قليل من الهيمنة أيضاً، في حياة البشر اليومية. ولم تكن مصادفة أنّ رفع الحراسة عن شركتَي المحمول في سوريا سبق، بأيام قليلة ولكي يتزامن مع، مسرح أداء بشار الأسد «القسم» لوراثة استبداد وفساد جديدة؛ حيث تولت الهواتف المحمولة أداء هذه الوظيفة التناقلية التبادلية، على نحو لم يكن في وسع أيّة تغطية تلفزيونية أن تجاريه.
وللقرّاء الذين يعنيهم التوسع في موضوع الوظائف الثقافية للهاتف المحمول، عموماً، ثمة تلك الدراسة الكلاسيكية الرائدة والمعمقة التي وضعها رون سكولون وسوزان وونغ سكولون وصدرت بالإنكليزية في سنة 1995 ضمن منشورات Blackwell تحت عنوان «التواصل الثقافي المتبادل: مقاربة خطابية». وفي حدود ما تعرف هذه السطور، اقترحت العُمانية نجمة الزدجالي، أستاذة الألسنيات والتواصل الثقافي في جامعة مسقط، سلسلة مساهمات مميزة حول الموضوع؛ سعت خلالها إلى بحث أبعاد الرسائل والوظائف الثقافية المختلفة خلف استخدام الهاتف المحمول في المجتمعات العربية عموماً، وفي المجتمع العُماني على وجه الخصوص.
وفي نطاق الانتفاضات الشعبية العربية، ثمّ السياق السوري تحديداً، لا تُذكر آثار الهاتف المحمول إلا وتُستذكر على الفور مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، و«فيسبوك» في المقام الأوّل بالطبع؛ خاصة حين يذهب المرء إلى الأجيال المتعاقبة من الهواتف الذكية، المزوّدة بكاميرات تصوير متقدمة، وتقنيات تعديل في الصورة والصوت، واستخدامات شتى لتطبيق الفوتوشوب، فضلاً عن قدرات المحمول المتزايدة في التحوّل إلى وسيط فعّال لاستقبال الإنترنت. والسلاح هنا ذو حدّين غنيّ عن القول، للسلطة ولمعارضيها في آن معاً، إذْ كما نجحت شركات المحمول المرتبطة بالنظام وزبائنه وزبانيته في تغطية مسارح الأسد الأخيرة، لم يكن نجاح النشطاء والمعارضين أقلّ فاعلية في فضح المحتوى الهزلي المبتذل والزائف خلف عروض البهرجة والبذخ والتجميل. ومن محاسن تكنولوجيات الهاتف المحمول الأحدث أنها تكتسب كلّ يوم وسائط جديدة لدحر الرقابة وكسر الحواجز والوصول أبعد بكثير مما تستطيع أية سلطة خنقه أو حجبه أو عرقلته.
وثمة، في هذا الجانب من وظائف الهاتف المحمول الثقافية التناقلية والتبادلية، تلك السمة الفريدة الكبرى التي تتيح الشرائح الأوسع من التلقّي والاستقبال، إذْ أنّ هذا الجهاز بات في متناول الغالبية الساحقة من الفئات الاجتماعية بصرف النظر عن مستوياتها الطبقية أو التعليمية أو المهنية أو الجغرافية، وتستوي في هذا صبية أو امرأة شابة أو جدّة، مع صبي ورجل شابّ وجدّ؛ داخل ما يُصنّف «مناطق النظام» أو «مناطق المعارضة»، وفي قرية أعلى جبال اللاذقية، أو على ضفاف الفرات، أو في حلب وحوران والقامشلي. وفي كلّ حال، لا تُنسى حقيقة اضطرار النظام إلى الإبقاء على الكثير من خدمات الإنترنت خلال الانتفاضة رغم إدراك مخاطر هذا القرار، لأنّ اتخاذ الإجراء النقيض كان يعني خسارة مئات المليارات لصندوق الاستبداد كما كان يديره صيرفي النظام ومالك خدمة الإنترنت.
جانب آخر لا يقلّ أهمية، وحساسية بالمعنى السياسي والخطابي واللغوي، هو ثقافة كتابة الرسائل النصّية وتبادلها، سواء لدى النشطاء والمنخرطين في أنساق الاحتجاج والمعارضة المختلفة، أو لدى أنصار النظام وأتباعه وجمهوره؛ ليس لأيّ سبب آخر يسبق حقيقة الاختلاف المعرفي والدلالي، ثمّ الوظيفي استطراداً، بين الرسالة الصوتية والرسالة المكتوبة. والإحصائيات تشير إلى أنّ 90% من فئات الشباب في العالم العربي تفضّل كتابة الرسائل على التحدّث صوتياً، حتى لقد شاع في دراسات الاجتماع العربي استخدام تعبير «جيل الـTxt العربي»؛ ولا يغيّر من فحوى الرسائل أنها تتقصد الدردشة أو النقاش أو تبادل الآراء في مختلف القضايا، إذْ أنّ الأعمق مغزى هو حال التناقل في ذاتها، وجوهرها الثقافي التبادلي.
ويبقى ذاك الملفّ الخاصّ بولع التسجيل لدى مرتكبي الفظائع أثناء ارتكابها أو بعدئذ، إذْ أنّ طرائق التصوير وأنماط التعليق ومساحات النشر والترويج لم تكن، على النطاق السوري منذ انطلاق الانتفاضة في آذار (مارس) وحتى اليوم، أقلّ من ميدان توثيقي حافل بألوان هائلة من التعطش لسفاك الدماء والعنف والتعذيب والإذلال، من جانب أوّل؛ ولكن أيضاً لإظهار مسكوت عنه راسخ في أغوار الذات، من جانب ثان. وهيهات أن تقف تلك الافتضاحات الطوعية عند مستوى تبادل رسائل سياسة/ ثقافية، فالهاتف المحمول هنا سلاح وباطن وعقيدة.
*القدس العربي