مضى، ولعله أيضاً انقضى في كثير أو قيل، زمن قريب العهد شهد هيمنة القناع النصفي الذي يغطي الأنف والفم اتقاءً لانتقال العدوى من فيروس كوفيد – 19؛ وتلك أيام كانت بعض عناصرها العصيبة لا تتمثل في اعتماد تقنية الوقاية البسيطة هذه، بل في تأمين القناع حتى في اشكاله الدنيا التي لم تكن بالضرورة فعالة في صدّ الفيروس أو تخفيض احتمالات الإصابة. ولقد تناسى الجمهور العريض، وثمة شرائح غير قليلة كانت أصلاً غافلة عن، معطيات القناع الأقدم والأوسع معنى ودلالة، والكثير منها يعود إلى آلاف السنين في عمر البشرية؛ كما في تقاليد حضور القناع على مستويات أدائية وتمثيلية ورمزية وسلوكية، مادية أو مجازية، فنّية أو دينية أو طقسية.
وهذا الكتاب الجديد يتناول القناع من زوايا شتى مألوفة ومنتظَرة تارة، ومفاجئة مدهشة تارة أخرى؛ صدر مؤخراً بالإنكليزية عن بالغريف/ مكميلان بعنوان «الأقنعة والروابط الإنسانية: معانٍ تقويضية وتحديات ثقافية»، بتحرير لويزا ماغالايش وألوفيرا مارتنيس. الفصول الـ20 في الكتاب تتوزع على أربعة محاور: الأقنعة والهويات الإنسانية، ضمن أداءات اجتماعية جَمْعية؛ والقناع الدالّ، من حيث المعاني الإثنوغرافية والتحديات التمثيلية؛ وغموض استخدام الأقنعة، في الثقافة البصرية، والسياقات الرقمية، والتفاعل الاجتماعي؛ وصياغة الوشائج متعددة الذوات، في ميادين الأخلاق والعقل والذاكرة. وبين بعض مظاهر التميّز ما يتناوله الباحثون من دور الجائحة في تبديل علاقة البشر بوجوههم، إلى درجة إحساس البعض بطراز من «الاكتشاف» الجديد للوجه أوّلاً، وإدراكهم أنّ تغطيته يمكن أن تغيّر معناه، وكيف تستولد السيرورة دلالات ثقافية وشعورية تتجاوز بكثير تلك الغاية المباشرة المنحصرة في دفع العدوى ومكافحة الوباء.
وهذه السطور تطري فصول الكتاب لأسباب كثيرة، معرفية ومنهجية وبحثية، ذات صلة أيضاً بتعدد النُظُم التي يعتمدها المشاركون في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والفلسفة وعلم الجمال وعلم النفس والأدب والفنون عموماً؛ غير أنّ أحد بواعث الإطراء الأبرز هو نأي الكتاب عن تلك الموجة، التي تصحّ فيها تسمية «موضة»، انساق إليها عدد غير قليل من الكتّاب والمفكرين والفلاسفة، وحوّلت كوفيد – 19 إلى تجريد ميتافيزيقي مرّة، واستعارة قيامية مرّة أخرى، أو إلى اجتهاد مفرِط الخلاصات بصدد فلسفة الوجه البشري. خير، هنا، الإشارة إلى كتاب «حساء ووهان»، 2020، الذي أسهم فيه أمثال جورجيو أغامبن، سلافوي جيجيك، جان – لوك نانسي، جوديث بتلر، بيونغ – شول هان، وألان باديو؛ مع الاحترام، بدرجات متفاوتة، لمكانة المشاركين. لكنّ القناع في كتاب «الأقنعة والروابط الإنسانية» منظور متعدد السطوح، وهو موضوع محسوس بقدر ما هو مجرّد، والبُعد الحاسم فيه ومن حوله أنّ الروابط الإنسانية «محتومة» من دون توسّطه، حسب تعبير الكتاب؛ تبعاً لأدوار الأقنعة في مختلف شروط الحياة وسياقاتها.
وقد تأسف هذه السطور لغياب أيّ مشارك عربي في أبحاث الكتاب، وإنْ كان قسط من العزاء توفّره مساهمة لافتة تماماً حول موقع القناع في الثقافة الأمازيغية، كتبها جان – بيير روسي بعنوان «الأقنعة والتنكّرات في المغرب الأمازيغي»، وتوصلت إلى مشاهدات إثنوغرافية، ثقافية واجتماعية وتاريخية ناجمة عن أبحاث ميدانية في مناطق الأطلس. مناسبة عاشوراء، التي تمتد هناك على عشرة أيام، تحظى باهتمام وثيق المراقبة والتحليل من جانب روسي، إذْ لا يرصد المظاهر الاحتفالية وذات الطابع المسرحي (حيث للأقنعة وظيفة عليا ومركزية) فحسب؛ بل يتابع دقائق التمايزات الاجتماعية والجندرية في استخدام شعائر التنكر لدى الذكور ونظائرها لدى الإناث، وكذلك دلائل ألعاب مثل «بابا عاشوراء» و»ماما عاشوراء»، وما يقترن بها من دمى وقواعد وأغنيات.
وفي ظنّ هذه السطور، قد لا يصحّ إغلاق هذا العمود من دون إشارة إلى العمل البديع «مذكرات قناع»، 1949، للروائي والمسرحي الياباني الكبير يوكيو ميشيما (1925 – 1970)؛ الذي يشتغل، بمهارة استثنائية عالية، على تخوم مرهفة بين السيرة الذاتية حيث رؤى الطفولة والباصرة الشاعرية وبراءة الوعي، وبين السرد الروائي المشبع بالتأمل الفلسفي العميق حيث الاغتراب والقسوة والعنف. وفي المركز بين هذَين الاستقطابَين، ثمة الكثير من الأقنعة والشخوص المتقنعة ولَوْذ المؤلف/ الضمير السارد ببدائل قِناعية تخصّ الحياة والموت، الوجود والعدم، يابان الكون الملموس المادي ويابان الكون المجازي الاستعاري… ومن أبهى أعاجيب أدب ميشيما، الإعجازية كما قد يذهب الظنّ، أنّ في وسع المرء تلمّس الدلائل السٍيَرية المؤكدة في «مذكرات قناع» ليس اعتماداً على صفحات الرواية ذاتها، بل في الاستئناس بكتاب «شمس وفولاذ: الفنّ، الفعل، والموت الشعائري»، 1968، الذي يعود إلى السنوات الأخيرة من حياة ميشيما.
وفي العودة إلى الكتاب موضوع هذه السطور، قد يحار المرء (ولا يُلام، أغلب الظنّ!) عند متابعة المسارات التاريخية لعلاقة الأقنعة بالبشر، وما شهدته من تحولات لم تكن دائماً سلسة أو متدرجة؛ من الأداء المسرحي والرقص الكوريوغرافي، إلى طقوس الولادة والبلوغ واليفاعة والخصب والموت ومختلف أطوار العمر الإنساني الجسدية والوجدانية والعقلية والمهنية. تارة يكون القناع حامياً معلَناً، وتارة أخرى موارِباً خافياً، كما لم تنعدم فيه وظيفة التمويه والخداع والتضليل. أليس هذا لأنه، في نهاية المطاف، جماع وجوه بشرية وهويات شعائرية؟
*القدس العربي