صبحي حديدي: احتراف التكسب: قبل هاني شاكر وبعده

0

انشغلت شرائح متنوعة من السوريين، داخل البلد وخارجه في بلدان اللجوء، بحكاية مجيء المطرب المصري هاني شاكر إلى دمشق والغناء على مسرح دار الأوبرا، والاستقبال الحافل الذي قوبل به من نقابة فناني النظام؛ الأمر الذي لم يُغفل شاكر التشديد عليه حين نشر صور التزاحم على شراء التذاكر، خالعاً على ذاته لقب «أمير الغناء العربي». والانشغال تراوح بين التهليل والترحيب وتسجيل «انتصار» جديد في إخراج النظام من عزلته العربية والدولية، وبين الاستنكار والانتقاض من قيمة الحدث وصانعه وملابسات إقبال الجمهور؛ ولم يكن الأمر، على اختلاف ردود الأفعال، غريباً أو غير منتظَر في كلّ حال.
غير أنّ شاكر ليس الأوّل، ولا ريب في أنه لن يكون الأخير، ضمن طابور طويل من الفنانين والكتّاب الذين احترفوا التكسب فطبّلوا للنظام السوري وزمّروا لرموزه، خاصة مجرمي الحرب منهم وكبار حيتان الفساد؛ وذلك على امتداد 52 سنة من حكم العائلة الأسدية، وأياً كانت بشاعة آثام النظام بحقّ الشعوب والأوطان ذاتها التي يأتي منها الزوّار المادحون الصادحون. وليست مشيئة الأقدار وحدها، بل سنّة حياة النفاق والزلفى والانحطاط، أن يسبق شاكر وفد عرمرمي يزعم تمثيل «اتحاد الكتّاب العرب»، كان وفد اتحاد «كتّاب» فلسطين هو بينهم الأشدّ قباحة أخلاقية وبذاءة سياسية وركوعاً أمام مجرم الحرب الأكبر.
وفي مدينة اللاذقية تقيم وزارة ثقافة النظام سلسلة أنشطة فنية ورياضية وثقافية سنوية تحت اسم «مهرجان المحبة»، انتقالاً من الاسم الأصلي الابتدائي «مهرجان الباسل» حافظ الأسد؛ وإلى دورات هذا المهاجر تقاطرت سابقات لـ»الأمير» هاني شاكر، وزحف سابقون، أمثال سعدون الجابر وملحم بركات وعبد المجيد عبد الله وسمير يزبك وصابر الرباعي ونوال الزغبي وأمينة فاخت وعاصي الحلاني وديانا كرزون، إلى جانب «الشحرورة» صباح. على مستوى الشاعرات والشعراء، للمرء أن يعدّ محمد الفيتوري (الذي كتب، ذات يوم، واحدة من أقذع الهجائيات ضدّ الأسد الأب!) وطلال حيدر وأحمد فؤاد نجم وعبد الرزاق عبد الواحد وجوزيف حرب ومحمد علي شمس الدين وفاروق شوشة.
وهكذا استمعت سوريا، ومعها كثر من أبناء العالم العربي، إلى وائل كفوري يشدو هكذا: «يا سوريا رشّي طيوب/ على بوابك دار ودار/ نحنا وشعبك صرنا قلوب/ تا توسع إبنك بشار»؛ ليس دون تحطيم الأرقام القياسية من حيث ابتذال اللغة وانحطاط المعنى وتفاهة المديح. ثمّ أطلت نجوى كرم: «بدنا نحافظ/ بدنا نجاهد/ بالروح البعثية/ ونسلّم بشار القائد/ رايتنا السورية»؛ ليس دون انفلات من كلّ عقال في النفاق والزلفى والمسخرة. في الشعر ارتفعت عقيرة اللبناني نجيب جمال الدين في تعظيم حافظ الأسد: «خذني إلى الشام ما لي غيرها أمل/ لم يبق يا شام إلا الشام والأسد/ لولاك ما حاربوا لولاك ما انتصروا/ لولاك ما وقفوا يوماً ولا صمدوا»! وكأنّ لسان حاله، وهو في عمود الخليل يرى نفسه شاعراً نحريراً، يطمح إلى مسابقة محمد مهدي الجواهري، القائل: «وأنتَ يا أسد الغاب الذي حلفتْ/ به الرجولةُ أن تستأسد الأُزَمُ/ يا أيها الجبل الراسي به أنفٌ/ من الرضوخ ومن أن ينحني شممُ/ يا حافظ العهد أعطاه مواثقه/ ما عاش أنّ عُراه ليس تنفصم»…

بيد أنّ القياسي الفريد، في ناظر هذه السطور، يظلّ اللبناني طلال حيدر حين شارك في حفل لإزاحة الستار عن نصب تذكاري لتخليد باسل حافظ الأسد، في شتورا، صحبة نبيه بري ورفيق الحريري إلى جانب محمد سلمان وزير إعلام النظام السوري أنذاك؛ فألقى واحدة من عصمائياته، امتزج فيها الرثاء الملحمي بالهجاء الميلودرامي، وأنين المدح بطنين القدح، ومكابدات الأشواق بإعلانات النفاق. ولقد بدأ من رثاء الراحل الباسل، ثمّ مرّ على القدس فوجد «النبي زعلان»، وكان طبيعياً أن يشتم الفلسطينيين لأنهم «باعوا أذان العصر تايشتروا بستان». كذلك كان مزاج الشاعر كفيلاً بدفعه إلى العراق، حيث كان «بو لهب ومرتو معو/ محمّل عا ضهرا حطب/ بردان عم يوقد عرب». وأمّا الطبيعيّ أكثر فأكثر، عند اللبناني البعلبكي، أن يحطّ الرحال أخيراً في الشام، على وجه التخصيص البليغ، ليجد التالي هناك: «لاقيت الأسد سهران/ جايي عا ضهر البراق/ تا يخلّص الآذان/ وجايب معو هالشمس/ تتمشى على الجولان»!
ولا يُجادل في حقّ أيّ فنان أو كاتب أو سائح يرنو إلى زيارة سوريا الفاتنة العريقة، أو في حقّ رديف يجعل الزيارة تنطوي أيضاً على الغناء أو الكتابة أو إلقاء الشعر، ولا الحقّ الثالث في ما يطلق من تصريحات وما يوظّف من رموز حين يمدح أو يشتم. ما يستوجب الجدال، في المقابل، يصحّ أن يدور حول نمطَين من المسؤولية الأخلاقية: علاقة الفنّان بالموضوع الذي يعكف على مديحه، أو هجائه؛ ثمّ علاقة الشيء بالشيء، حيث غياب الصلة أو حضورها بمثابة خيط رفيع يفصل بين الصدق والكذب، والتوجّع والتكسّب، والرثاء والرياء. وأن تلقي قصيدة في مهرجان الباسل، أو تغني على منصّة مُسخت تسميتها إلى «دار الأسد»؛ أمر لا يشوّه الحقّ والحقيقة فحسب؛ بل يُلحق الخزي بالمشارك في التلطيخ، صاغراً متواطئاً أم وصولياً متكسباً.

*القدس العربي