صبحي حديدي: اجتياح مدافن مصر

0

شاءت الأمريكية ماريا غوليا أن تكون بعض المفردات في عنْوَنة كتابها أقرب إلى استيحاء الحروب والغزو والاجتياح والإغارة والقنص، منها إلى الاستكشاف والتنقيب والحفر؛ فجاء العنوان هكذا: “تاريخ موجز لغزو المدافن: القنص الملحمي للكنوز المصرية”، الذي صدر مؤخراً باللغة الإنكليزية، ضمن منشورات Reaktion Books  في لندن. وليس تفصيلاً عابراً أنّ صدوره يصادف الذكرى المئوية لاكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في وادي الملوك، تشرين الثاني (نوفمبر) 1922، الحدث الأبرز على صعيد الولع الغربي (والبعض لا يتردد في تصنيفه ضمن خانة الهوس) بالآثار المصرية خصوصاً، والمصريات عموماً.

يُشار إلى أنّ غوليا أقامت في العاصمة المصرية طيلة عقدين من الزمان، ولها كتاب جميل بعنوان “القاهرة: مدينة الرمل” صدر سنة 2004 في لندن، بالإنكليزية أيضاً؛ تتلمس فيه معالم مدينة ساحرة، وترصد على نحو خاص تلك المفاتن الخافية وتوثقها فوتوغرافياً، وتقتفي عموماً أثر عبارة جمال حمدان الأثيرة: أنّ مصر بأسرها ضاحية للقاهرة. وموقفها الجوهري إزاء غزو المدافن وتصيّد الكنوز صريح بقدر ما هو نزيه، يتمثل في أنّ التاريخ شهد انقضاء ألفيات عديدة انطوت على التبدّل والتحوّل، ولكنّ الجشع والطمع والحاجة بقيت راسخة أو تفاقمت وتضاعفت بعد اقترانها بإلحاح إضاءة الماضي واستعادة فصوله وأسراره. وعلى امتداد 7,000 سنة من التاريخ الموثق، تقدّم مصر مشهد حافلاً بأنساق شتى من الحراك الإنساني، احتوتها المعابد كما يُنتظر، واحتضنتها المدافن أو بالأحرى أخفتها خاصة حين يخصّ القبر أحد أفراد الأسرة الملكية حيث الكنوز تتجاوز قيمة الآثار إلى حساب ثروات الذهب والحلي النفيسة.

لكنّ فصول الكتاب الخمسة ليست تنويعات ثاقبة على غالبية عظمى من تلك الأنساق، حيث تختلط اعتبارات علوم الآثار بالتعطش إلى الكنوز المادية، ويشترك المشروع الاستعماري في تشويه التاريخ أو تحريفه أو إعادة كتابته بما يناسب الغازي؛ إذْ إنّ غوليا لا تفوّت فرصة من دون التعمق في أساطير المصريين وعاداتهم وطقوسهم، السحيقة العتيقة بصفة خاصة، فلا تغيب عن عروضها الحوليات الزاخرة والوقائع الحافلة التي تخصّ الملوك والعروش، أسوة بسرديات المصري العادي الفقير أو الفلاح أو العابد البسيط ومفردات حياته اليومية الحافلة بدورها وعلى طريقتها، وكلّ هذا على هدي الناظم الأكبر والأعلى والأسخى: نهر النيل. ففي تصدير الفصل الخامس، الذي يحمل عنوان “بيتٌ حمّالُ قصص كثيرة”، تقتبس غوليا فقرة من حكاية الفلاح المصري الفصيح (1850 ق. م.) كي تشدد على مفارقات علاقة المصري بالأرض والعمل والتراتب الاجتماعي؛ ولكن، أيضاً، كي ترشق الماضي على الحاضر لجهة حضور النظام أو انعدامه في نطاق أشغال المصريات، وبين مراسم الدفن الفرعونية ومباذل غزو المدافن في العصور الحديثة، وما بعد الحديثة…

والحال أنّ أرض مصر لم تتوقف عن تزويد البشرية بكنوز متعاقبة، ظهرت إلى العلن وانضمت إلى التراث الإنساني الكوني عبر سيرورات تنقيب مختلفة، بعضها تولته بعثات جامعية وبعضها الآخر استعاد قسطاً من تقاليد غزو المدافن؛ والقاعدة، بذلك، تنطبق على اكتشاف خبيئة مومياءات فرعونية على بعد خمسة أمتار من مقبرة الملك توت عنخ آمون، وخبيئة في الأقصر بعد خبيئتَي الدير البحري وكهنة آمون. عُثر كذلك على مقبرة “رع حاتي”، كاتب كنوز المعبد الآتوني في مدينة منف، والتي ترجع إلى القرن الرابع عشر ق. م. في عصر الملك أخناتون والأسرة الثامنة عشرة؛ كما اكتُشف قبر فرعوني في تلّ المسخوطة يعود إلى حقبة 1315-1201 ق. م. نُقشت على جدرانه، بالحفر الغائر، رسومات دينية وجنائزية، بينها مشهد محاكمة الموتى الشهير، وهو الفصل 125 من “كتاب الموتى” الفرعوني.

هذه كشوفات تاريخية ــ آثارية بالطبع، ولكنّ تثمينها وطنياً (في مصر أوّلاً، ثمّ في أيّ مهد لأية حضارة متوسطية ثانياً) أمر واجب حيوي يتجاوز علم الآثار إلى الثقافة، ثمّ إلى السياسة كذلك… والسياسة بامتياز أيضاً! وثمة مثال فريد بالغ المغزى، جرى في فرنسا سنة 1997، حين حرص الرئيس الفرنسي جاك شيراك على أن يدشّن بنفسه الجناح المصري في متحف اللوفر، بعد إعادة تصميمه وتوسيعه وكَشْف النقاب عن قطع نفيسة جديدة أضيفت إلى المخزون النفيس القديم. لكنّ التجديد لم يكن من دون مناسبة، بل الأحرى القول إنه تمّ في مناسبة قد يصحّ اعتبارها أمّ المناسبات في العلاقات التاريخية بين البلدين: الاحتفالات الفرنسية ــ المصرية (المشتركة!) بالذكرى المئوية الثانية لوصول أساطيل نابليون بونابرت إلى الشواطئ المصرية.

لهذا فإنّ كتاب غوليا لا يعفّ عن التوقف عند الشجار الأكبر الذي يُثار عادة في ميادين استكشاف و/ أو غزو المدافن، بصدد أسئلة من هذا الطراز: هل الأوابد ملك البلد الأصلي (وحقّ متاحفه الوطنية)؟ أم ملك الإنسانية جمعاء (وبالتالي حقّ متاحف مثل اللوفر في باريس والبريطاني في لندن)؟ وأسرار الأوابد: مَن يحتكرها؟ ولماذا؟ وحتام؟ الأرجح أنه ما من شجارات آثارية أشدّ ضراوة من تلك التي تدور حول حضارات وادي النيل، وبلاد الرافدين، والساحل السوري، وفلسطين الكنعانية؛ لسبب جوهري أوّل يتصل بمقادير التقاطع، بمعنى الاتفاق أو الاختلاف والتأكيد أو التفنيد، مع “ثوابت” أرشيف فريد من نوعه، هو… التوراة.

*القدس العربي