بعد الانفتاح السياسي في سوريا لفترة محدودة على الليبرالية الغربية ومداخلاتها في منطقة الخليج العربي، عادت لخندق المواجهة مع وكلاء هذا التوجه، وهم الإسلاميون المعتدلون، بسبب رفع سقف طموحهم من المشاركة في الحكم إلى السيطرة الشاملة على مفاتيح السياسة. ورافق هذا التحول القطعي تحول مماثل في القصة السورية، فانتقلت لطورها الثالث، ويمكن أن تسميه G3 بالاستعارة من لغة التخاطب الحديثة.
وهكذا ظهر للوجود ما يعرف باسم القصة الطليعية، وهي كائن هجين يجمع المفهوم الواقعي مع الشكل الحداثي، دون أي تحيز لأي منهما. لكن هذا لا يعني نسف الأساليب القديمة، بل التعايش في شكل تكافلي واحد أو التجاور في حقبة واحدة، كما فعل محمد كامل الخطيب الذي حقن القصة الحديثة بمضمون واقعي، وحيدر حيدر الذي تابع مع الشكل الجنوني للأسلوب، إلى درجة أهلت شخصياته للانقلاب على مستقبلها، أو للإمعان في إلحاق الضرر بالهدف المضمر والمأمول منها. بعكس حالة قمر كيلاني التي ناضلت بكل ما لديها من طاقة لتصور لنا شخصيات نسائية تواجه نفسها بكثير من الوضوح وبقدر محدود من الجرأة، وكأنها تريد أن تعبر عن نكسة نسائية بالمقارنة مع جسارة الواقعية وداد سكاكيني والحداثية كوليت خوري، وهما من جيل الخمسينيات والستينيات على التوالي.
وللأسف كان مفهوم الواقعية يعادل ما نفهمه الآن على أنه تفسير اجتماعي للطبيعة، بينما كان مفهوم الحداثة يعني إعادة اكتشاف معنى الفرد ضمن أمته وما يفرضه عليه ذلك من واجبات، وفي مقدمتها تحرير الأرض والإرادة. وعلى ما أرى أن تعدد الأشكال في الاتجاه الطليعي لم يكن دليلا على تعدد المضامين، ولأول مرة تجد تباعدا بين طرفي المعادلة، فالعلاقة لم تعد جدلية، لكن روحية. عدا عن ذلك فإن الأسباب لم تخرج من رؤية محددة للتاريخ، لكن من مقاطعة لاتجاه سياسي كان يلعب بالتاريخ ويؤدلجه لخدمة خطاب سياسي شمولي.
وعليه فإن الفرق بين الأجيال كان تعبيرا عن موقف من المرحلة وليس من فهم الجيل لتطور الأمة. فالنموذج الذي سيطر على رؤيتنا للواقع ولتحديثه قفز ليأخذ شكل وعي خاص بالمرحلة. بتعبير أوضح دخلت النمذجة في بوتقة التمايز، وتعرض الإنسان الشامل للهدم وتحول إلى إنسان أحادي في مواجهة نفسه. فشخصيات سعيد حورانية أو تكوينات صميم الشريف ونصر الدين البحرة، خرجت على علاقاتها الواضحة مع الطبيعة والمكان. ويمكن أن تقول الشيء نفسه على المخلوقات الهلامية التي صورتها غادة السمان أو وليد إخلاصي وجورج سالم. فقد تخلت عن إحساسها بالمجتمع وخصصت كامل وعيها لإدراك معاناتها الشخصية. لقد كانت القصة تتأرجح بين موقفين، إبصار ما يدور حولها، أو الإحساس بما يتفاقم من مشاعر ومفاهيم في داخلها. وبذلك تكون قد تجاوزت النزعة الإصلاحية للجيل الضائع الذي افتقد لفلسفة محددة حول فن القصة، فقد كان يشخصن أفكاره، ويرى أن الحبكة هي البديل عن البنية، وكان ارتباطه الساذج بالحكاية واستعادة مخزون الذاكرة في شكل أفعال وتصورات هو خلاصة مشروعه السردي. وربما ورطت القصة الطليعية نفسها بمثل هذا الفخ لكن مع إضافات فرضها الوعي الفني ونضوج مشروعه.
ومما يحسب لهذا المشروع أنه حرر المضمون من خطاب مسبق الصنع، فقد أهاب بالشخصيات أن تكون منفتحة على واقع حقيقي غير مزيف، وهو واقع تلعب فيه عدة مراكز للقوى، منها خطاب أنسنة الاتجاه الشمولي، مقابل خطاب يتكفل بتحرير الأفراد من عبودية الأفكار، لكن بعد تجزئة وعي الفرد بهويته. جدير بالذكر أن صلابة شمولية الوعي بضمان سيطرته على الجوهر الطبيعي لم يقدم خلاصا حقيقيا، لكنه ألغى دور المسؤولية الخاصة. وهو ما يمكن أن تتابعه بوضوح في أعمال خالدة مثل مجموعة «الأبنوسة البيضاء» 1976 لحنا مينة، فقد كان يبرر ذنوب البسطاء لأنهم ضحايا لمجتمع الغابة البشرية الظالم، ولظرف الإزاحة من المكان والاقتلاع من جو الألفة والتكامل مع البيئة. وربما كانت هذه الميول أوضح في أعماله الضخمة ومنها «بقايا صور» 1975 و»المستنقع» 1977، وأضيف «القطاف» 1986 مع أن صوت علبة البروباغاندا كان فيها أعلى. وتستطيع أن تربط خطابيات كوليت خوري في مجموعتها المبكرة «قصتان» 1972 وهيجان غادة السمان في نصوص «ليل الغرباء» 1967 بهذا المنحى وإن انعكس الاتجاه. فحنا مينة يضع أبطاله فوق الطبيعة، بينما اختارت كوليت وغادة أن تكون الشخصيات في عزلة تامة، منقطعة عن الطبيعة، ومفصولة عن المجتمع، ومكتفية بإدراك رحلة وعيها الذاتي.
وإذا كان معنى رحلة يفترض الحركة، فهي حركة دوران في المكان، كل شخصية تدور حول محورها بحركة لولبية، كلما اخترقت شريحة من بنية الذات تتابع لشريحة تالية، إلى أن تصل لآخر حد يعزل تمام العري عن تمام التستر. ويرافق هذا الدوران اهتزازات عنيفة يتبعها تصدع وتجزؤ واضمحلال للجوهر الواحد. وإذا استعملنا مفردات برديائيف: إن تاريخ حبكة حنا مينة هو نفسه جغرافيا غادة وكوليت، كلاهما يتابع شريحة واحدة من تبرير المعرفة، لكن هذا لا يساعد على التخلص من مشاعر الخوف والقلق أو مشاعر العزلة.
وهو ما حاولت القصة الطليعية أن تتجنبه من خلال توحيد الأضداد. إنما لم يسعفها التناقض المحتم ببن السالب والموجب، ولذلك هبطت من مستوى ظاهرة يمكن تعميمها إلى مستويات حالات خاصة تتصف بالمرض والانحراف وغياب رؤية لحل ناجع. ويمكن أن تلاحظ في «الأزمنة الحديثة» 1974 لمحمد كامل الخطيب رؤية كاريكاتيرية للفاجع الإنساني الشامل، أو تراجيديا سقوط النموذج بلغة برديائيف أيضا، حتى أن دون كيشوت وتابعه سانشو يتأقلمان مع واقع المرحلة التي خرجت من إنكار التاريخ الموضوعي، ويقدمان المبرر لتجزئة الرؤية، فالقصة لا تعدو في هذه المجموعة على أن تكون تجميعا مختزلا لمونولوج تصويري.
وحتى لا أترك المجال لإساءة الفهم تكون الفكرة هي الماضي والأسلوب هو الحاضر، ويصبح النزاع بين مكونات البنية. ويقودنا ذلك إلى عزل العناصر وتجزئة الوعي. ولعل قصص «الوعول» 1978 لحيدر حيدر أكثر وضوحا من هذه المقاربة. ومع أن بنيته تتطور بمستوى واحد، ولا يوجد أي مفاجآت بعلاقة المكونات مع الفراغ العازل بينها، تعاني شخصياته من انكسار عميق، وتنقل لنا طبيعتها المريضة لدرجة الفصام، فهي موجبة من وجهة نظر الثورة على أسباب الركود والفساد. لكنها سالبة من وجهة نظر بناء المستقبل، وبطله المشهور «الأزرق» يستبدل عنف السلطة بعنف التمرد على النظام، وإذا قدم لنا الطغيان السلطوي بصور منفرة، فقد قدم لنا عنف بطله الإيروتيكي بشكل إخصاب ورغبة ومتعة طوعية، رغم أنه دون ضمانات ولا يمهد له تخطيط أو اتفاق، وبكل بساطة كان يوظف الصدفة لتحقيق طفرة في العلاقات. ولا يغيب عن ذهني رمزية اللون الأزرق الخبيث، فهو لون السماء والبحر، ومكان لميتافزيقا الروح وبؤرة للمخاطر. وفي الحالتين هو نفي للوعي البشري الذي ينتسب للحياة البرية بشكل أساسي. ولا أنسى أن الأزرق هو لون الدم الفاسد والوشم الذي يترك ندبة على الجلد البشري (الكتابة على الجسد). ولعل كل تجربة القصة الطليعية تدخل في هذا المضمار، فهي كتابة على جدران البيت نفسه. وكان علينا أن ننتظر حتى نهاية هذا المخاض ليعيد فن القصة اكتشاف ذاته، ويعيد كتابة تجربته الثورية والناقدة، ويحسم نقاط الاختلاف، قبل أن يرتب المكونات ضمن شبكة من العلاقات الجديدة التي لا تلغي نفسها.
وتستطيع متابعة هذا الاتجاه في كتابات جيل 1990، وهو الجيل الذي شهد بداية سقوط اتفاقيات سايكس بيكو ودخول مشهد سياسي دولي جديد كان أول مؤشر عليه نهاية وعود البيروسترويكا وصعود الروح الوطنية الجديدة في شرق أوروبا. وإذا كان لا بد من مثال للتوضيح أذكر قصص مجموعة «حلب على نهر السين» 2016 لهنرييت عبودي، فهي مؤالفة بين الذاكرتين الاجتماعية والفنية. الحد الأول ينبش أعماق العقل الجمعي والتاريخي، والثاني يرفع الراية البيضاء ويستسلم لفروض التواصل وقوانين الواقع. ويكفي أن هذه القصص تلغي شكل الشخصية التصويرية، وتستعيض عنها بما يقول عنه باختين الفعل الجمالي. فهي تجميع لأفكار مستمرة أو إسقاطات ضبابية على سطح واضح. والشيء بالشيء يذكر لم تحلق الظواهر الطليعية لمستويات غير مسبوقة إلا في الأدبين الروسي والإسباني (وشقيقاته- في أمريكا اللاتينية). وفي الذهن الإضافات المهمة لكارلوس ثافون، بالتزامن مع المخاض المهم لكل من فلاديمير سوروكين وفكتور بيليكين. ولاسيما في مجال أسطرة الواقع الروحي للفانتازيا الطبيعية. فالتبديل بين المحاور وتحرير الواقع التاريخي من شروطه الوضعية شاركا على نحو حاسم بتحقيق رؤية أعمق عن الممكن، أو ما أود أن أسميه المستقبل. ويلتقي مشروع هذا الثنائي مع تصورات ما بعد التفسير الطليعي للواقع في سوريا. الطرفان ينظران للأسلوب على أنه جوهر الروح الوطنية سواء كان هذا الأسلوب من ذاكرة الأجيال السابقة أو من ذاكرة متحولة، لكن تعبر عن المبدأ الروحي لتلك الأجيال.
*القدس العربي