صالح الرزوق: الحب والسياسة في روايات عالية ممدوح

0

تهتم عالية ممدوح بالشخصيات النسائية، وتسقط عليها كل مواصفات الرجل الشرقي. وغالبا ما تكون المرأة هي الفارس والرجل هو المطية، أو أنه مجرد إنسان ضعيف بلا مضمون. مثل مصعب بطل «الولع» الذي يغمض عينيه أثناء القيام بواجبه الزوجي في السرير. بينما هي تفتحهما على آخرهما لتشاهد تخبطه فوقها، وكأنها غير هيابة من هذا الولوج. ويدفعها ذلك في النهاية لتسأل نفسها: هل أنا رجل حقا؟. ولو تابعنا مع بقية التفاصيل سنكتشف بالتدريج وجود مثلث غرامي. أطرافه مصعب وزوجتاه هدى وصبيحة. فقد كانت هدى تعتقد أنها حين تطبع قبلة على شفتي زوجها إنما تقبّل، في حقيقة الأمر، شفتي ضرتها. وهذا لا يعني أن المرأتين تتشاركان هذا الرجل، لكن هما تفترسانه، وتنظران له كقيمة غائبة، أو في أفضل الأحوال كوسيط لممارسة الحب المثلي. وهذه نقلة نوعية بالمثلث الغرامي الذي وضعت أسسه الرواية الفرنسية. ولنأخذ دوبوفوار كمثال. كانت الخيانة الزوجية في رواياتها تأخذ شكل غرام بين الحضارات لاكتشاف فرص ومنافذ إضافية للحياة. بينما أخذ الحب المحرم عند عالية ممدوح شكل محاولة لتدمير الواقع البيولوجي، بمذبحة ارتكبتها النساء ضد الذكور. ولا أرى نتيجة لهذا السيناريو غير الطموح باستعادة المرأة المقدسة لعرشها. وطبعا لن تجد وراء هذه التخيلات أي رغبة بالخيانة، وإنما رغبة بالاستيلاء على الزوج وربما نحره. وإلى هذه اللحظة لم أسمع بكاتبة عربية تغدر بالرجل مثل عالية ممدوح، حتى إن رائدات الحداثة (ذوات الأظافر الطويلة: الثلاثي غادة السمان وليلى البعلبكي وكوليت خوري) لم يحتكرن العالم من أجل جنس وجندر المرأة. كانت أعمالهن المبكرة حافلة بالميول الانتحارية والطيش وتجاوز الحدود. وبلغة أبسط هن إصلاحيات وليبراليات، لديهن اهتمام معرفي بمشكلة الجسم الناقص، أو الجسم الحاضن بقوة الطبيعة لعضو التذكير (الإيلاج والحمل). فالابن والابنة كلاهما عضو ستدخل به المرأة هذا العالم، وتملأ فراغاته بإضافاتها. أما عالية ممدوح فهي تلغي المحرم وتبيح الطوطمية المثلية. وفي أعمالها آلهات يحتكرن كل أدوات الخصوبة، ومن بينها الرجل الذي يؤدي دوره بعملية إزاحة رمزية. وبهذا المعنى يقول الأب لابنه زياد: أمك أنجبتك لأنها أرادت تحقيق أنوثتها.
وتخاطب وداد (ثالث زوجة لمصعب) نفسها في لحظة اعتراف: هدى من ربتت بيدها على كتفي وشعري وليس مصعب. واستعمال رمزية اليد، في هذا السياق، لا يخلو من اندفاعة لاشعورية للتنويه بالاحتلام يدويا أو اكتفاء المرأة بنفسها وبصورها لتبلغ منتهى اللذة. بينما يأخذ الرجل دور حاضنة لأدوات الإنجاب فقط. حتى فعلية الإنجاب، وقبله الحمل، يكون من خصوصيات المرأة، ويقف دور الرجل عند مستوى لمسة الدبوس أو التلقيح. وهل هناك ما هو أبلغ من هذه الإهانة؟

ويمكن أن تقرأ في الرواية أكثر من 10 سطور في الصفحة 31 وفيها تغزل قل مثيله بيد المرأة وإمكانياتها المدهشة: كاللذة والرشاقة والجمال. وفوق ذلك كله الحقيقة. وتغتنم هدى هذه الفرصة لتقول: هناك ممر سري بينك وبين جسمك. ادخليه وحدك. وتتكرر هذه الفيتشية كثيرا في كتابات النساء. ومن أحدث الأمثلة على ذلك قصة «الأيدي» لريبيكا غولد. وهي هجاء لأنظمة المشرق الديكتاتورية. إن اليد أحيانا أفصح من اللسان كما تقول هدى لبثينة في «الولع». ثم هي أداة الكتابة، أول تعبير عن القانون الأوديبي المعكوس، لأن النص موجه من امرأة لامرأة، وليس لكل القراء.
تبقى عدة نقاط من مجال المعرفة العلمية (أو ما يعرف باسم النضال السياسي). لا تخلو رواية لعالية ممدوح من إضفاء هم إيديولوجي (وحزبي أيضا) على الشخصيات. فالذاكرة سياسية وبقية الجسد مجرد استطراد، أو تشريح لها وانتقاد وإعادة معايرة. ولا تنفرد عالية ممدوح بهذا الاتجاه. فكل كاتبات جيلها متورطات بالسياسة أو أنصاف سياسيات، بعكس رائدات الحداثة (جيل 1960 وما قبل) فقد غلب على ذلك الجيل واحد من اثنين.
– الخروج على كل المعايير أو رفض كل شيء بروح عدمية متهورة وعصابية وتدميرية. وكان نزوع التخريب يلحق بكل شيء من نظام الأفكار وحتى أسلوب الكتابة.
– أو رثاء نتيجة جهود النهضة والتنوير. وبتعبير أدق رفع راية التمرد على ألعاب الحداثة المقيدة، والدعوة لإصلاح الحداثة والحد من الانجراف مع كل شيء وافد وغريب.

وإذا كانت البدايات ذات طابع شكلاني وذاتي أو تكتفي بالدعوة للإصلاح، فإن جيل عالية ممدوح تدميري، وحتى لو أنها أنكرت هذه التهمة، أو غطت على النشاط السياسي بكلام عن أحوال الأمة والمجتمع، حيث يتحول النقد لشكل من أشكال الانتقام، ويتخلله الندم الذي يسبب الشعور بالعجز والسقوط. لقد كانت الشخصيات في كلا الحالتين مثل المناورات العسكرية، تستهلك الذخائر القديمة والمشرفة على الفساد فقط. ويسمي نسيم بطل رواية «التشهي» ذلك: بالنوم والمضاجعة خارج جميع النصوص. ثم يقول عنه بلغة فصيحة لا تحتاج لتفسير: إنه موت باللذة، وأفضل بما لا يقاس من الموت بالسياسة.
وهكذا يتساوى الماضي بلا معقوليته مع الحاضر. كلاهما شجرة لا تطرح الثمار. ومثلما كانت نتيجة النضال هي التخريب وهدر الطاقات، كذلك هي الانتقادات الموجهة لتلك الفترة، فقد كانت تجري بشكل معارك على السرير. وطبعا نحن لا نتوقع أن تنتهي بالحمل والولادة. وبهذا المعنى تقول عالية ممدوح نفسها في حوار مع منى شوليه: أنا كاتبة حسية. وباعتقادي إنها في كل أعمالها تهرب من ألعاب النضال إلى ألعاب الحب (كما لاحظ الدكتور حسين سرمك حسن في دراسته: الولع المميت). وهذا التعايش بين النقائض لا يعطي للواقع وجها وقناعا، أو لا يحوله لسيف له حدان، إنما يعبر عن حالة الشك واللاأدرية التي يعاني منها المثقف العربي، وبالأخص الشك بالأرض.. هل هي قيمة مرادفة للذات؟ أم أنها جزء من عالم يختفي ولا يمكن إدراكه؟ وأقرأ هذا السلوك بالشكل التالي: حينما تموت غريزة حياة الأفكار، تحيا غريزة موت الأسلوب. وهكذا تتحول الرواية لمجموعة تناقضات كل منها تثبت وتلغي. وربما كانت رواية «التشهي» أوضح من غيرها في هذا المضمار لأنها تتبنى بنية الأخوة الأعداء. فالأخ مخبر يعمل على نفي أخيه والاستئثار بحبيبته.. وذلك بطريقة تذكرنا بموقف قابيل الإجرامي من أخيه هابيل للتقرب من الإله. وكأن الرواية تريد أن تؤكد أن العدالة ليست حقا طبيعيا، بل هي شيء مكتسب، مثل موضع البنية من النوع الفني، أو الكلمة من اللغة. إنها مفتوحة من طرف على تعالي الطبيعة، ومن طرف على رغبات الأنا والعبارة الأخيرة لفوكو.

*القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here