هذا الصّباح
أعبُرُ جسْرَ الأحرار مشيًا
فوق جثثِ الأحرار،
تحت شمس بغدادَ كوكبِ النسْيانِ الأقدم
شارعُ الرشيد كاتالوغٌ حيٌّ لكلِّ أصنافِ القُمامةِ
خاصّةً المُستوردة.
بعد عِدّةِ محاولاتٍ فاشلةٍ للهرب
أعادوا الرّصافي إلى قاعدةِ تمْثالهِ
شارعُ المُتَنَبّي،
سوقُ الورّاقين العبّاسي يبيعُ الأنبياءَ والفلاسفةَ والشعراءَ
بحفْنةِ دنانيرَ ورقِيّةٍ.
شاشة الآيفون مصباحٌ يَحمِلُ
وجْهكِ في يدي.
أتذكّرُ يوجين الإغريقيَّ
الّذي كان يطوفُ شوارعَ أثينا نهارًا
وفي يدِهِ مِصباحْ.
*
لا تُضاءُ دجلة إلّا بالأجنحة،
لا أقصدُ النّوارسَ طبعًا
ولا حتّى الغيابَ.
عندما يتوارى آخرُ السّابلةِ تَحُطُّ
نافذتي كطَائرٍ خُرافيّ على الشطِّ،
اللّيلُ يسْحَبُ دجلةَ مِنْ سريرهِ إلى سَريري
تقول لي النيلوفرات
نادو تكتبُ أنَّ النهْرَ يَصْخَب فيها
فأخْرُج عن ضَفّتيَّ
تلك اللّيلة كانت بغداد تبعُدُ أربعينَ عامًا عن سُرّتها
عندما صَعَدَتْ أسوارَ اللّيل العبّاسيّ لترى
قمرَها وتصيحَ من وراءِ سِنيّها،
بغداد لي..
خرج دجلةُ لملاقاتها بعيدًا عن قتْلاهُ وملاحمِهِ
وعُشّاقهِ وسَيّافيه،
خرجَ بإهابهِ الأسطوريّ ليُصغي إلى شهْرزادَ
التي لم تَحْبُلْ بها بغداد.
*
بدأ عدٌّ عكسيٌّ لألفيّةٍ جديدةٍ من اللّيالي،
سَتُصْغي شهرزاد إلى شهريار
يصوغ لها كلَّ ليلةٍ قلادةً من أغاني وحكايا
البحّارِ الأزرقِ الّذي أضاعَ وجْهَهُ في الماء
يُجرجرُ اللّيالي تحتَ شُرفتِها
يرفعُ لأجلها جبالَ الحِكْمةِ الشّرقيّةِ
ويفُكُّ طلاسمَ الرّمالْ
ولمّا يزل شهريارْ.
بطاقة بريدية من بيروت
في مُشاكسةٍ مع البحرِ
خَلَعْتُ سِتْرتيَ المُبْتَلّةَ
تَرَكْتُها على كتفِ صخْرةٍ
لا تكُفّ عن ركْلها موجةٌ بعِنادٍ طفوليّ،
ترْقُبُني نَوْرَسةٌ جائعةٌ لا تصْلُحُ أنْ تكونَ شاهدًا
ضدَّ البحر والعاصفةُ تسْحلُ النهارَ من شَعْرهِ،
تُعنِّفُ ابْنَتَها بيروت.
شَمسٌ باردةٌ تُدْلي قَدَميْها في جوفِ يومٍ كبئْرٍ جافٍّ،
هذه المدينةُ أعرفُها لا تَذْعُنُ لقصاصٍ
ولا تجْلُسُ على كُرْسيّ اعترافٍ إلّا عاريةً.
الموسيقى تُهرْولُ في الريح مثل طفْلة تَنْثُرُ شَعْرَها المبلولَ،
عراءٌ ميتافيزيقي يَتَفَجّرُ من قُبْلةٍ بين عاشقَيْن تحت المطر
يُصيبُ الشارعَ بالقشعريرةِ،
أدخلُ مقهايَ على الشاطئ لا مائدةَ سوى البحر،
أصدقائي الراحلون تَحَلّقوا حولي.
قلتُ مضى زمنٌ
قالوا كان ذلك مع الأسئلة
قلتُ والماضي
قالوا سمَكةٌ في بحر
قلتُ ويحكُم وأنا
قالوا نراكَ على صدفاتِها أحيانًا
غيومٌ أليفةٌ تُمَشّطُ شَعْرَها جهةَ الجبالِ الشرقيّةِ الصاعقة
التي تَفْطرُ جبينَ الأفقِ تَتَدَرَّبُ على شطرِ الوقتِ إلى زمنينْ،
ماضٍ وآخرَ ماضٍ
*
فلّاحونَ ينحتونَ المدرّجاتِ الشاهقةَ تماثيلَ لعُصورٍ خَلَتْ
ساسةٌ مخذولونَ يقرُضونَ الساعاتِ مثل عوانسَ مُؤرّقة فوق أسرّةٍ برونزيّةٍ
باردة
رأيتُ أحدَهم يذرُعُ ساحةَ الشهداء جيئةً وذهابًا
أملًا في لقاءِ شهيد
ومُتَسوّلينَ يسْتجْوبونَ الله
مثل شَرِطةٍ تُمسكُ بلصّ.
*
سائقُ التاكسي البيروتي العريق
يحرُصُ أنْ يشرحَ لي تأريخَ الأمكنة،
دخلنا نفَقًا قرب البحر قال: كان هذا مقبرةً
قلتُ: لم تَتَغَيّرْ إلا وِجْهَتَهُ
اقتربنا أكثرَ قال: هذه الأرض كانت تحت الماء
قلتُ: احذروا إذًا الأرضُ لا تعرفُ العومَ
رأينا آثارًا لأحواض وحُجُراتٍ ونافورات
قال: هذه حمامات رومانية احتجبتْ
قلتُ: هيَ مقاصفُ روما العارية اتّشَحتْ بالتراب
بعد أن دخلها الأعراب.
*
في ” كوستا الحمرا “
شُعراءٌ يُشيّدون قصائدَهم شواهدَ لأضرحةٍ آتيةٍ
أو يُجرجرونها وراءهم كأسلحةٍ في معاركَ دونكيشوتية
شعراءٌ حطّابو غاباتٍ يتبادلونَ فيها الأدوارَ مع الأشجار
غرقى
في قطراتِ ندىً
رئاتٌ تَسْعُلُ
ذُكورةٌ تدُسُّ
إحليلِها كأنْفِها في ثُقوبِ الكلام.
*
نساءٌ
نساءٌ
شفاهٌ حمْراء كجراحٍ مُثْخَنَةٍ
مُصْطافون أعراب لا ينظرون جهةَ البحر
إلا لرؤيةِ الحُوْرِ التي تسبحُ في خليج الآيات
والله يا حبيبتي
لا يَرُدُّ طلبًا لأحدٍ من أبنائهِ
الموتى.
بطاقة بريدية من القاهرة
الجملُ البلاستيكيّ الموشومُ بالخرزِ الصينيِّ
يتأهّبُ لعبورِ الصحْراء من على رصيفٍ في “سيّدنا الحُسين”
لا يُعيرُ اهتمامًا للعجلات المعدنيّةِ
تَخْطُفُ أمامَهُ بأقدام الكاوتشوك السوداء
كاليعاسيب الجبّارةِ ولا حتّى للمآذنِ
لا يتوقّفُ نعْيُها لقوافل الراحلينَ
السابلةُ تَتَدافعُ على مدخل الجامعِ
مَشْهدٌ لحفْلةٍ تَنَكُّريّةٍ يُحْييها مُتسَوّلون من سُلالةٍ غريبةٍ
يُنشدونَ قُبورًا شبَقِيّةً.
طفولةٌ كهِلةٌ ترْمُقُهُ شزرًا لا تَجْرؤ على مُصافحته.
عيناهُ المُسَمّرتانِ في اللا اتّجاه ذراعانِ تَتَعلّقانِ بحبْلِ نجاة
رقَبَتُهُ الطويلةُ تُذكرني بالناقةِ البيضاءِ
التي كانوا يذبحونها ليلا في أُم دَرْمان
رقبةٌ تبدو أطول وهيَ منفصِلةٌ عن الجسدِ
أتذكّرُ آينشتاين؟
حولها الاطفالُ يرقُصون والكبارُ يُكَبّرون.
*
نادو
هلْ رأيتِ جسدَ بعيرٍ بلا رقبة؟
إنّهُ يشبهُ خارطة الجزيرة العربيّة
آهٍ يا جملي
أعرفُ أنّكَ وحْدَكَ من يُصْغي لي الآن
ولهذا سنمضي معًا
ستَدُلّني على صحْرائي
سَتَعْبُرُ بي جبالا وأجيالًا
تَحْدونا التهاليلُ والتلاواتُ والأذكارُ
التي تجهَدُ فوق جُثْمانٍ طولُهُ أربعةُ عشرَ قَرْنًا
سَتَجُرّني من عينيَّ مثل نجْمةِ الراعي في هذا الليلِ اللانهائيّ..
ليلٌ لا تُضيئُهُ إلا الديدانُ التي تلْمعُ أجسادُها عندما تَجوعُ
فتهفو فوقها الفراشات مفتونةً بالضوءِ لتَلْتَهِمَها.
مُخطئ من يظنُّ أنّ الأوطانَ شئٌ آخر
غير خيامٍ تَحْتَشِدُ فيها ديدانٌ بشريّةٌ جائعة.
آهٍ يا جملي
خارطةُ الرحيل تَتَّسعُ
الأقطارُ تَتَصاغَرُ والجهاتُ لا تَكْفي.
*
واعلمْ يا جملي
لن أكونَ صحْراءَكَ
والرحلةُ القادمةُ هي الوصول
لا تَظُنَّ نَفْسَكَ غيمةً
وأنت تعبُر في بلاد المحْلِ والجفاف
ولا يَخْدَعَنَّكَ السّياحُ
الّذين ينظرون إليك من حكايا الجدّات
فهم لم يرَوْ سواك
يظُنّونَ أنّك صامت وأنتَ تَهذي
تَذَكّرْ أنَّ سنامَكَ هذا
أعلى القمم
هم يَعْرفون ذلك
لا أنتْ
*الترا صوت