لعلهم لا يبتعدون عن الحقيقة كثيراً أولئك الذين يعتبرون أن العثور على المدخل المناسب للقصيدة هو المفتاح الأهم الذي يتعذر من دونه الولوج إلى متنها. لا بل يذهب أحد الشعراء إلى الاعتراف بأن نصْف الجهد الذي يبذله في كتابة قصيدته، ينحصر في سطرها الأول، فيما تتوزع بقية السطور نصفه الآخر. أما السبب في ذلك فيعود إلى المخاض الصعب الذي يعيشه الشعراء أثناء الانتقال من مرحلة الإيقاع المبهم والغمغمة اللغوية المشظاة، إلى خانة الإفصاح التعبيري، الذي تتوقف على بيته الأول، سائر الأبيات والمقاطع اللاحقة. والحقيقة التي يعرفها الشعراء أكثر من سواهم، هي أن المرحلة الفاصلة بين التهويمات الضبابية الأولية للإلهام، وبين تمظهر هذا الإلهام في اللغة والصورة والإيقاع، هي من أكثر مراحل الإبداع الشعري صعوبة وتمنعاً ووقوعاً في دوامة الحيرة، قبل أن يرسو الشاعر على بر مناسب للتأليف.
على أن المكانة الأبرز للمطالع هي تلك التي جسدتها على نحو خاص القصائد العربية الخليلية، حيث يمكن للأبيات أن تُقرأ بشكل مستقل وبمعزل عن السياق العام للنصوص، وحيث يكتسب المطلع قيمتين متلازمتين وبالغتي الأهمية. فهو يملك باعتباره الحجر الأساس في عمارة القصيدة، أو الجملة الموسيقية المفتاحية التي يقوم عليها اللحن، أن يحدد للأبيات التي تليه مساراتها الإيقاعية ونبضها ومساحة توترها، كما يملك من جهة ثانية قدرة موازية على الاستقلالية والانفصال عما يليه. وقد أدرك النقاد العرب الأقدمون، الأهمية البالغة التي تكتسبها المقدمات والمطالع في حث المستمع أو القارئ على متابعة الأجزاء الأخرى من القصيدة أو صرفه عنها، فذهب أبو هلال العسكري إلى القول «أحسِنوا معاشر الكتاب الابتداءات، فإنهن دلائل البيان». وأكد حازم القرطاجني على المعنى نفسه، مركزاً على أهمية الاستهلالات والمطالع باعتبارها «الطليعة الدالة على ما بعدها، والمتنزلة من القصيدة منزلة الوجه والغرة».
وقد يكفي في هذا السياق أن نستعرض مقدمات المعلقات السبع، وبمعزل عن المفاتيح النمطية للاستهلالات الموزعة بين البكاء على الأطلال، واستدعاء الأطياف الغاربة للنساء والأماكن، لندرك مدى الجهد المبذول في صياغة تلك المقدمات التي تحولت مع الزمن إلى جزء لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية، من مثل افتتاحية امرئ القيس «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلِ»، وافتتاحية طرفة بن العبد «لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمدِ»، ومثلهما افتتاحيتا عمرو بن كلثوم «ألا هبي بصحنك فاصبحينا»، وعنترة بن شداد «هل غادر الشعراء من متردمِ». وما تجب ملاحظته هنا لا ينحصر فقط بالنبرة الرثائية الحزينة التي تسم تلك المقدمات، بل بتحول الشعر برمته إلى سؤال وجودي ملح حول ماهيات الحياة والموت والحب وانزلاق الأماكن والأزمنة، فضلاً عن تميز عنترة بطرحه في المطلع لإشكالية التجاوز والتكرار في عملية الإبداع الشعري، وهو السؤال نفسه الذي أعاد بورخيس صياغته بعد قرون عدة، حين اعتبر أن لا جديد يُذكر تحت شمس الكتابة، وأن كل نص يكتبه المتأخرون قد تمت كتابته من قبل، بشكل أو بآخر.
ورغم تبدل الظروف وطرائق العيش في العصرين الأموي والعباسي، حيث الشعراء بمعظمهم باتوا ملتحقين بالبلاطات الرسمية المختلفة، أو منخرطين في الحياة المدينية الجديدة التي فرضت على الشعر موضوعات وأساليب مغايرة لأساليب الأقدمين، فإن مطالع القصائد لم تفقد دورها التقليدي وجاذبيتها السابقة، لا بل اكتسبت بفعل تطور الأدوات والمفاهيم، المزيد من التوهج والزخم والدلالة. وهو ما يمكن الاستدلال عليه بمطالع عديدة لأبي نواس، من مثل «دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ»، أو «لا تبكِ ليلى ولا تطربْ إلى هندِ»، أو «ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمرُ». ولن يكون أبو تمام بدوره بعيداً عن المطالع المماثلة التي تجمع بين قوة السبك وكثافة المعنى الحكَمي، من مثل «لا أنت أنت ولا الديارُ ديارُ»، أو «إذا جاريتَ في خُلقٍ دنيئاً\ فأنت ومن تجاريه سواءُ»، فضلاً عن استهلاله الشهير في فتح عمورية. وإذا كان الأمر ينسحب على معظم الشعراء العباسيين كالبحتري وابن الرومي والمعري والشريف الرضي، فإن المتنبي كان أكثر الشعراء العرب اشتغالاً على مفتتحات قصائده التي بدت أشبه بمدخرات معرفية ثمينة مستخلصة من تجارب الشاعر القاسية، ومن تأملاته العميقة في أحوال النفس ومعنى الوجود الإنساني، وهو ما أتاح لها أن تنحفر كالأوشام في ذاكرة العرب الجمعية. وإذا لم يكن بالمستطاع تعداد هذه المطالع، فيمكننا الإشارة إلى بعضها على الأقل، من مثل «لكِ يا منازل في القلوب منازلُ»، أو «كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا»، أو «أطاعن خيلاً من فوارسها الدهرُ»، أو «على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ»، أو «لكل امرئ من دهره ما تعودا»، وكثير غيرها.
ولم يكن الأمر ليختلف كثيراً في العصور المتأخرة، حيث كان عدد غير قليل من الكلاسيكيين الجدد يعمل على إحياء التقاليد الفنية العريقة للقصيدة الخليلية، ويحاول ما أمكن أن يعيد إلى تلك القصيدة بعض وهجها القديم، قبل أن تدفع رياح الحداثة العاتية بذلك الوهج إلى الخفوت النسبي. لا بل إن التعويل على مفتتحات القصائد العمودية قد تضاعفت وتيرته في القرن المنصرم، حيث عملت التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى، ومعها الحركات القومية والاستقلالية، إلى إحياء الدور القديم للشعر، وإيلائه بالتالي مهمة التحريض والتحشيد الدعائي. وهو ما سنجد تمثلاته الأبرز عند البارودي وشوقي والزهاوي والرصافي وبدوي الجبل وسليمان العيسى، كما عند الجواهري الذي بدت بعض مطالعه أقرب إلى المشهديات الملحمية منها إلى أي شيء آخر، كقوله في قصيدة عن تونس:
رِدي يا خيول الله منهلكِ العذبا
ويا شرقُ عدْ للغرب واقتحم الغربا
ويا شرق هل سر الطواغيت أنها
فُويقك أشلاءٌ مبعثرة إرْبا
كذلك سينعكس هذا النفس الملحمي عند الأخطل الصغير، وبخاصة في رثائيته الشهيرة لأحمد شوقي، التي يستهلها بالقول:
قف في ربى الخلْد واهتفْ باسم شاعرهِ
فسدرة المنتهى أدنى منابرهِ
وامسحْ جبينك بالركن الذي انبلجتْ أشعة الوحي شعراً من منائرهِ
إلهة الشعر قامت عن ميامنهِ وربة النثر قامت عن مياسرهِ
كما أن الحديث عن المطالع اللافتة لشعراء الأوزان الخليلية المعاصرين، لا يستقيم بأي وجه دون التطرق إلى تجربة سعيد عقل، بصفته أحد أمهر المشتغلين على الهندسة الجمالية للشعرية العربية. ومن البديهي في هذه الحالة أن يحول صاحب «كما الأعمدة» مطالع قصائده إلى ما يشبه الاحتفاء الكرنفالي بلغة الضاد، الذي يجمع بين الأنا المتعالية والبلاغة المْحكمة والجرس الإيقاعي التطريبي. وهو ما نلحظه في العديد من المطالع، من بينها قصيدته التكريمية للكاتب الروسي شولوخوف، التي يستهلها بالقول:
ولدتُ سريري ضفة النهر، فالنهرُ
تآخى وعمري مثلما الوردُ والشهرُ
وكان أبي كالموج يهدرُ، مرة
يدحرِجُ من صخرٍ، وآناً هو الصخرُ
وقد علماني الحق، ما الحق؟ دُفْعة كما السيلُ عنه انشق واخضوْضر القفرُ
سيكون من الطبيعي في هذه الحالة أن يتحدث بعض المتعصبين للتقاليد الشعرية الموروثة، وفي معرض انتقادهم اللاذع لمغامرة الحداثة الشعرية، عن افتقار هذه الأخيرة إلى ذلك الرنين الافتتاحي الباذخ للمطالع الشعرية الكلاسيكية. وإذا كانت هذه الملاحظة غير بعيدة عن الصحة، فليس لأن الحداثة لا تولي مطالعها ومفتتحاتها أي عناية تذكر، بل لأن مفاهيم الكتابة الشعرية نفسها قد تبدلت، بحيث بات يُنظر إلى القصيدة كبنية تعبيرية وجمالية متكاملة، لا كوحدات وأجزاء لا تجمعها سوى وحدة الوزن والقافية، كما كان الحال في معظم القصائد الخليلية. هكذا لم يعد المطلع يختزل القصيدة أو يشكل عنواناً لها. كما أن ضرب مفهوم البيت التقليدي لم يعد يسمح للسطر الأول بأن يشكل وحدة مستقلة عما يليه من السطور، بل بات متصلاً بغيره اتصالاً وثيقاً، وفق مقتضيات المعنى والدلالة والسياق النصي. ومع ذلك فإن من العسف ومجانبة الحقيقة أن نتحدث عن أفول المطالع وضمورها التام في الشعر العربي الحديث، بخاصة في جانبه المتعلق بقصيدة الشعر الحر. ذلك أن حفاظ هذه القصيدة على البنية الإيقاعية الأساسية للشعر العربي، مع هامش واسع من المناورة والتنوع، أتاح لبعض مطالعها غير الخاضعة للتدوير، أن ترسخ في أذهان القراء وتتحول كالمطالع القديمة إلى ما يشبه الأيقونات الجمالية، أو الأمثال السائرة. وهو ما ينطبق على العديد من مفتتحات القصائد الحديثة، مثل «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب التي يندر أن تغيب عن بال أحد من قراء الشعر ومحبيه، ومطلعها:
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعة السحَرْ
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمرْ
عيناكِ حين تبسمان تورقُ الكرومْ
وترقص الأضواءُ، كالأقمار في نهَرْ
أما في قصيدة النثر فقد كاد هذا النوع من المطالع يتراجع بشكل مطرد إلى حد الضمور التام. فإذا كانت البنية الفنية والإيقاعية لبعض قصائد الشعر الحر، تتقاطع إلى هذا الحد أو ذاك مع الأنساق المتوارثة للشعرية العربية، مفسحة في المجال لنوعٍ من المطالع الاستهلالية قابلٍ للرسوخ في ذاكرة القارئ، من مثل «سجل أنا عربي» لمحمود درويش، و«لا تصالح ولو منحوك الذهب» لأمل دنقل، فإن الأمر يختلف تماماً مع قصيدة النثر، التي تنهض فوق أرض مغايرة على مستوى الترابط والتكثيف وخفوت الصوت والانكباب على المنسيات. ولعل أطرف المواقف وأكثرها حراجة بالنسبة لشعراء الحداثة، هو ما يحدث حين ينبري أحدهم، للطلب منه عن براءة أو خبث، أن يسمعه مطلع إحدى القصائد التي فرغ للتو من كتابتها. إذ كيف للشاعر أن يتخلص من ورطته تلك، وهو يعلم أن لا مجال للفصل بين أجزاء قصيدته، بل هناك نص متسق وغير قابل للتجزئة. وقد يكون الوضع أكثر صعوبة بالنسبة له، إذا كانت قصيدته مؤلفة من سطر واحد، هو ذاته المطلع والمتن والخاتمة!
*الشرق الأوسط