قد لا يقضّ هذا المقال مضجع أحد، لكن لو لم أكتبه لقضضتُ مضجعي إلى النهاية. أكتب عن فلسطين، وأنا أكتب دائماً عنها، وقد أكتب أو لا أكتب مرّة أخرى، لكن هذه المرّة تحديداً أكتب عن فلسطين التي تخصّني، وعن حقّي فيها. يقول فولتير في (كانديد): «إنّ للمآسي حقوقــــاً» ولعلّ أقلّ حقّ لنا هو أن نتكلّم عن مآسينا. ماذا يعني أن أكون كاتبة إن لم أكـــتب عن فلسطين! ماذا تعني عشرات الأبحاث، وعشرات الكتب، ومئات المقالات، وآلاف الطلبة الذين خرّجتــــهم إن لم أكن مع فلسطين، وماذا تعني الروايات التي كتبتها، والقرّاء الذين أسعدتهم بها أو أتعستهم، والجوائز التي حصلت عليها إن لم أكتب عن فلسطين! أنا أكتب عن فلسطين من أجل ما كتبته ومن أجل ما سأكتبه أيّاً كانت تلك الكتابة، ومن أجل أن أتمكّن من مواجهــــة بيــــاض الورق أو شاشة الكومبيوتر مرّة أخرى، ومن أجل أن أنظر في عيني بالمرآة فلا أفزع من نظرتهما، ومن أجل أن أمشي في الشوارع حتّى لوكانت فارغة.
أنا أكتب عن فلسطين ليس من أجل الفلسطينيين ، لا في الداخل، ولا في الشتات، ولا من أجل البيوت المهدمة أو الشهداء، ولا عن الفصائل، بل أكتب عن بيتي أنا، وشتاتي أنا، وفقدي أنا. أكتب عن فلسطين التي كانت سبباً في حياتنا الناقصة دائماً، عن ظروف ولاداتنا الصعبة، وعن ظروف نشأتنا المتقشّفة، وعن خوفنا وآلامنا، وعن دموعنا المقهورة والمتعاطفة، وقلوبنا الخائفة من الحرب والعدوان، والمشفقة على الأخوّة والإنسانيّة، وعن آبائنا المهدودين من الكدّ والاستغلال، وعن العمال والفلاحين والبروليتاريا والبورجوازية الوطنية والطفيلية، وعن نموذج المناضل المزيّف، وعن مشاكلنا الفئوية والطبقية والطائفيّة والجندريّة، وعن منظماتنا الشعبيّة وجمعياتنا وأحزابنا، وحروبنا الداخلية والخارجيّة، وعن (خرجيّة) الأطفال المبتسرة، وعيديّتهم الخجلى، وفرحتهم المسروقة، ومدارسهم البائسة وأسماعهم المثقلة بالخطب، وحناجرهم التي مزّقتها الأناشيد. أكتب عن الوقت واللغة والعلوم، والجغرافيا والتاريخ والهوية، والمحسوبيات، ودورات الصاعقة والمظليّين، والإقصاء، والسجن، والتقارير، وفروع المخابرات. أكتب إذن عن فلسطين، وماذا يعني الشعر والسرد والموسيقى والغناء، إن لم نكتب عن فلسطين وعن موقفنا الأبدي الأزلي معها! ماذا تعني نكاتنا السياسية السريّة، واستعاراتنا الساخرة، ومفرداتنا المواربة في حضرة السلطة، وماذا يعني موقفنا من الأنظمة ومن معارضاتها إن لم نقف مع فلسطين! وماذا تعني قراءاتنا الناقدة، والسرديّات والتأويل وشكسبير وفرجينيا وولف وكافكا، وماركيز وبيسوا وشتراوس ودريدا، والاحتلال والاستعمار والإمبراطورية العثمانية…وماذا تعني الدراسات الثقافية والنقد وأدب ما بعد الكولونيالية إن لم ندلّل عليها بفلسطين ! إذا مات طفل نتعزى بفلسطين، وإذا ماتت أمّ نتعزى بفلسطين، وإذا غيّب معتقل تظهر فلسطين، وحينما ينهدم بيت، وتنقطع الكهرباء والماء والدواء يكون لنا في فلسطين أسوة. هي ليست فريقاً ولا أحداً. هي يوتوبيا وديستوبيا، هي فكرة سئمنا منها بعد ان قتلناها حباً وشعارات.
أكتب عن فلسطين لا التي احتلّها الأعداء بل فلسطين الفكرة التي احتلّتني وشكّلت حياتي، وهذه الكتابة ليست للأجيال وليست لأولادي، وليست للتاريخ بل من أجلي أنا. كأنّني أكتب سيرة ذاتية، أوسرديّة شخصيّة صغرى، بل مايكرو سرديّة، كونت فلسطين أكثرَها، ويمكن أن أشرك المتلقّين في التصوّر، إذ كل من سيقرأ هذه السرديّة في أي مكان كان، في بيته، أو في خيمته، أو في لجوئه، أو في وطنه، أو في منفاه، سيكون لفلسطين سبب ما لموقعه في هذه اللحظة.
فلسطين تمتّ بنسب لمدارسنا البائسة، ومعلّمينا الفقراء، ولحفر الشوارع، ولأمراض ضغط الدم، والنوبات القلبيّة، واليتم، فماذا يعني ألاّ ترتدي عروس في مدينة الرقّة، على بعد ألف كيلو متر، فستاناً أبيض، وأن تتزوّج على (السكّيت) لأنّ الدنيا قايمة قاعدة في فلسطين، وماذا يعني ألا يحضرأب ولادة بكره، لأنّه مطلوب (عسكري احتياط) في لبنان بسبب فلسطين…
بالمناسبة، لم أتعرّف إلى فلسطين لا من محمود درويش، ولا من إدوارد سعيد، ولا من (أبو سلمى) أو نزار قباني أو غيرهم، فلكلّ منهم فلسطين التي حددها بحيثيّات حياته ومرحلته التاريخيّة وعلاقاته. أنا تعرّفت إلى فلسطين بالوسائل التي ذكرتها أعلاه، وبمجهودي الشخصي، وبالبحث والاستقصاء والمخيّلة، ويمكن أن أستدل عليها مثلما أستدل على قبر أمي المفقود، ومثلما يُستدل على اليرقان من صفار العين.
فلسطين امتحان حقيقي، وليس من من حقّنا أن ندرس هذه الدراسة كلّها ثمّ نسمح لأنفسنا بأن نرسب في امتحان الفكرة. تكمن جماليّة الفكرة في أنّها طليقة وحرّة من التجسّد، والحرية لا تعلمها الأنظمة ولا المعارضات ولا القراءة ولا العائلة ولا تضحيات الآخرين، ولا الأحزاب، ولا الإديولوجيا… والحريّة ليست مشروطة، أومرتهنة، أو مملاة.
الحرية تتعلمها هكذا وحدك، من التأمّل في البحار، والجبال، وصغار العصافير، ومن صفعات الجبابرة والمفسدين في الأرض، ومن عيون النساء المظلومات والمكلومات، ومن طوابير البشر على أفران الخبز ومراكز توزيع الغاز، ومن انحياز إدارة المدرسة لأولاد المسؤولين والأثرياء، ومن مخبر يكتب فيك تقريراً كيدياً بقروش ليسدّ رمق أولاده الجياع، ومن انكسار المهاجرين أمام بوّابات السفارات، ومن رعبهم أمام بوابات سفارات الأوطان، ومن مرضى السرطان وهم ينتظرون حصّتهم المؤجّلة من العلاج الكيماوي، ومن خلايا الجسد المتآكلة وهي تستسلم للموت راضية مرضيّة. هذه الفكرة الحرّة هي فلسطين، الفكرة التي تحدّد موقفك من العائلة، وشكل علاقتك العاطفيّة، وعدد أولادك، ودفتر تموينك، وموقع قبرك. هذه هي فلسطين التي لا يعرفها لا روسّو، ولا فرانز فانون، ولا يعرفها الفلسطينيون أنفسهم، ولا الإسرائيليّون ولا الأميركان ولا العرب، وأنا حين أكتب عنها فإنّني أحترم طفولتي وشبابي وليترات الدماء التي تبرعت بها مع كل وثيقة رسمية، وحين لا أكتب عنها اليوم هذا يعني موقفاً ضدّ نفسي، وضدّ تاريخي الشخصيّ، وضدّ فكرتي، وضدّ صورتي الواضحة في المرآة.
هذه ليست فلسطين المحتلّة المتعارف عليها، هذه فلسطين التي احتلّتني وكوّنتني، ووقفت بيني وبين تصوراتي عن الله وعن الجنة والنار، والتي حملتها لا كحقيبة سفر بل كبيت السلحفاة، واحتملت من أجلها الاستعلاء والاستبداد والادّعاء والتلفيق، وهذه الفلسطين لا أقبل بتطبيعها مع أعدائها لا من قبل ولا من بعد، وأؤمن بحصتي فيها إيمان العجائز، فهي ليست فلسطين التاريخية، ولا السياسية، ولا المقاومة، ولا الدينية، ولا الحجّة ولا العثرة، ولا شرقها أو غربها أو ضفّتها أوقطاعها. كل ما أريد أن أعرفه هو فلسطين التي يجب أن تتحرر لأن الفكرة التي لا تتحرر تفقد المعنى. أعرفها كما يعرفها طفل غرّ في الصف الأول الابتدائيّ واجه اسمها في نشيد كتاب القراءة، وأكتب عنها اليوم تحديداً كي أعرف كيف أكتب عن غيرها، وكي لا تغيب عن وجداني الفكرة أو يضيع المعنى.
أمّا بعد، فأختم بحكاية (سينيكيّة) حكاها لي أبي مؤخراً، أبي الثمانيني الذي حرمت من لقائه تسع سنوات بسبب لا تغيب عنه فلسطين:
حدثني أنّه في العام 1967 بعد أيّام من صخب نكسة حزيران، كان ذاهباً إلى الحلاّق في تورنتو،إذ كان لديه موعد عمل مهمّ. كانت الأخبار كارثيّة لشاب عروبي أنجز دراسة الماجستير في أوهايو، ووجد فرصة عمل ثمينة في كندا.
خرج محبطاً ومنهكاً، فسلّم رأسه لحلاّق الحيّ الإيطاليّ الذي سأله لم هو على هذه الشاكلة من الإهمال والإرهاق! فبدأ يبث همّه بث الغريب للغريب، ويحكي، والحلاق الإيطالي الذي هرب من عقابيل الحرب العالميّة الثانية يقصّ شعره ويستمع، أبي كان يخبّر الحكاية من أوّلها بحماس ورؤية تحليليّة، وسند تاريخيّ جغرافيّ، موضّحاً موقفه من العدوان والحرب والهزيمة والروح القتالية والخيانات… وحين أنهى هزّ الحلاق رأسه ليترك أبي ذاهلاً أمام استعارته البليغة، قال الحلاّق: إذن يابنيّ ملخّص الحكاية DOGS EAT DOGS / كلاب تأكل كلاباً!
*القدس العربي