شكيب كاظم: “بدايات” أمين المعلوف… اهتمام مضن ودقيق بتراث الأسرة وتاريخها

0

غالباً ما يحيا الإنسان سادرا في نومه، والنوم هنا ليس النوم الحقيقي، بل انشغالاتنا الحياتية، التي توحي لنا بأن كل شيء في متناول أيدينا وسيبقى ماثلا أمامنا، حتى إذا ألم بنا خطب أو حادث جلل، انتبهنا إلى سخف ما ظنناه، فما من شيء يدوم، والدنيا في حركة دائبة دائمة تتغير في كل حين، لكن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
صيف سنة 1979، تصرع جلطة دماغية صاعقة، جسد رشدي المعلوف؛ الصحافي اللبناني المعروف، ترقده المستشفى ليغادر الحياة بعد نحو عشرة أيام، قتله نزف دماغي، هذا الحادث الفاجع الذي صعق ابنه أمين المقيم في باريس منذ السنوات الأولى للحرب الأهلية اللبنانية، فيركب أول طائرة مغادرة نحو بيروت كي يكون إلى جانب جسد أبيه الساكن، إلا من حركة يده بين آونة وأخرى وتنفس وئيد.
وفاة أبيه في اليوم ذاته 17 من شهر أغسطس/آب؛ الذي توفي فيه جده بطرس قبل خمس وخمسين سنة، كما أخبرته بذلك جدته نظيرة، يحرك هذا البندول الذي ظل ساكنا عقودا وعقودا؛ يتحرك بحثا عن تاريخ أسرته، وزادت جذوة تشويقه أو تعذيبه، فهو قد صرف جهدا معذبا لاكتناه هذا التاريخ، زاد في تشويقه ما فاهت به جدته نظيرة إن جده بطرس كان أديبا وشاعرا وخطيبا ومؤسس مدرسة في تلك الضيعة، التي عاشت فيها الأسرة، كانت بعيدة عن الهويات الفرعية، التي أوغرت عليه صدور المتعصبين بمن فيهم شقيقه ثيودورس، كما أن شقيقه الآخر جبرايل غادر القرية أواخر القرن التاسع عشر ليقيم في العاصمة الكوبية؛ هافانا وليؤسس فيها مؤسسة تجارية، ثم ميتة مأساوية بعد نحو عشرين سنة كثرت فيها الآراء والأقوال المتضاربة.

بحث عن صندوق الأجداد

وإذ يحاول سؤال من بقي من ذويه وأسرته، فلا يكاد يحفل بجواب واف أو شبه واف، معاتبا ذاته، كيف سمح لها أن تدع كل المسنين من ذويه يرحلون واحدا واحدا، ولم يأبه بسؤالهم واستنطاقهم؟ يفاتح أمه فتجلب له بعض رسائل جبرايل شقيق جده، الذي أقام في كوبا نحو ربع قرن، فتنفتح أمامه بعض أبواب الأمل. هذه الرسائل الثلاث، كانت قطرات زادت ظمأه، وومضة دلته على الطريق وإليه، حيث يقبع الكنز هناك، في بيت الأسرة الذي هجره الأجداد والأبناء والأحفاد، على مدى عقود وعقود، بالموت أو الهجرة والرحيل، فإذ ما عادت أجوبة من بقي من ذويه بمستوى تساؤلاته، ربما لضعف الذاكرة بسبب الشيخوخة، أو بعدهم عن الحدث، فليستنطق الأوراق والأحبار والصور الصامتة، فاصواتها – إذا استنطقت- أوثق من أصوات شيوخ الأسرة الواهنة وشيخاتها. يغادر أمين المعلوف باريس إلى ضيعة «المشرع»؛ مكان سكنى الأسرة التاريخي، وبعد بحث مضن عن قبر جده بطرس الذي ما كلف نفسه يوما زيارته، يوم كان يحيا في بيروت، يدهمه المطر والريح العاتية الصرصر، ليأخذ طريقه لواذا نحو البيت؛ بيت الأسرة المهجور.

عثوره على صندوق الأجداد

«اجتاحني، رغما عني، إحساس دافئ بالراحة بعد إقفال باب بيت أسرتي، لم يكن الليل قد هبط، وتسلل ضياء وردي شاحب عبر الواجهة الزجاجية الكبيرة في غرفة الجلوس». «بقيت جالسا غير مكترث للبرد والرطوبة».
«كنت أظن أنني لن أطيق العيش يوماً بعيدا عن هذا البلد، بعيدا عن هذه الضيعة، بعيدا عن هذا البيت». «تبدد ضياء السماء، فتذكرت موضع اللوحة الكهربائية».. وكدت استغرب أن التيار لم يكن مقطوعا، ثم توجهت إلى غرفة أهلي، وفتحت الخزانة التي أشارت إليها أمي .. شرعت بإخراج الرسائل القديمة، قرأت.. مدونا بحرص على مفكرتي. أنا الذي جئت باحثا في هذا المكان عن مفتاح لبابي، رأيت ألف باب بدون مفاتيح تنتصب أمامي، ماذا عساي فاعلا بهذه الكومة من الأوراق القديمة؟ بعد ثلاثة أيام عدت إلى باريس، وانتظرت في المطار ريثما يظهر صندوق أجدادي».
لقد علمنا صعوبة المهمة التي قرر أمين المعلوف تنفيذها في دراسة تاريخ الأسرة وتشعبها، لذا فإنه اقتصر على نحو مئة وخمسين سنة الأخيرة من تاريخهأ، وإذ استقرأ هذا الكم الهائل من الوثائق والرسائل والخطب والأشعار التي كان جده بطرس، يحرص على تدوينها يوميا، فوجد من المحال الإلمام بكل شخوص هذا التاريخ، وهذا مما ينطبق على واقع الحال، فقرر دراسة مثابات شاخصة من تاريخها، وقد وجدت من خلال قراءتي لكتاب «بدايات»، الذي كتبه الروائي والباحث اللبناني؛ فرنسي الجنسية أمين رشدي بطرس المعلوف، بالفرنسية وأمضى أربعين شهرا في كتابته، وانجزه في ديسمبر/كانون الأول 2003 وكتبه في أماكن عدة: باريس، بيروت، هافانا، كيرميرسييه وترجمته نهلة بيضون، وتولت دار الفارابي في بيروت نشر طبعته الثانية سنة 2013، وجدت أنه وقف طويلا إزاء جده بطرس الشاعر الخطيب، المؤسس لمدرسة يتعلم فيها الصغار، الذي يرتدي الملابس الحديثة، وهو حاسر الرأس، وحتى الصلاة التي كان يؤديها الطلبة، كانت عامة لا تفرق بين طوائف المسيحيين، ومن اعتزازه بلغة قومه العربية، فقد ألزم طلبته بتلاوة الصلاة باللغات العربية والتركية والإنكليزية والفرنسية، واضعين في الحسبان، أن مدرسته هذه «المدرسة الشرقية الباسيلية الكاثوليكية» التي كان يسميها «المدرسة العمومية» ، إنما تأسست سنة 1914، أيام الدولة العثمانية، تصرفات جده بطرس هذه وغيرها، جعلت بعض المغرضين يتهمه بالالحاد، لأنه لم يعمد أبناءه، وهو يدافع عن نفسه إزاء هذا الأمر، إنه يترك أمر اعتناقهم أي دين أو مذهب لحين بلوغهم سن الرشد، فيختارون هم الوجهة التي يشاؤونها، أو لا يشاؤون!

فجماعة المؤمنين حسب رأيه، يجب أن لا تكون عشيرة ينتمي إليها المرء منذ الولادة، بل لابد من البحث، والتأمل والقراءة والمقارنة، ثم الانتماء بحرية إلى عقيدة إيمانية يختارها المرء انسجاما مع مبادئه، كانوا يعرفون غرابة أطواره، الناتجة عن ذكائه المفرط، وأخيراً يعلنون مستسلمين: هذا هو بطرس وهذه طباعه!

بطرس الذي ترك الحرية لأولاده لاختيار ما يشاؤون وأطلق عليهم أسماء عامة لا تفصح عن هوية ما:» فخر»،» ضمير»،» رجاء»، «انتصار»، أو كمال» وكمال هذه آخر العنقود، سماه‍ا تيمنا بكمال أتاتورك، قرر أن يسمي ابنه كمالا، لكن المعضلة أن الوليد جاء بنتا! بطرس العنيد لا يتراجع عن قراره، وما الضير إذا جاءت بنتا لنسمها «كمال» والتي ستكون عونا لابن أخيها أمين المعلوف في تنفيذ مشروعه هذا، ومن ثمّ تحوله إلى كتاب رائع وجميل، أسعدتنا قراءته وافدنا منه الكثير.

رحلة إلى أمريكا

لقد كان جده بطرس يبدو مستقرا وراضيا بالعيش في بلده، لا بل حاثا الناس ولا سيما الشباب منهم على المكوث في بلدهم وخدمته والعمل على رقيه وتحضره، من خلال الدرس والعلم، لكنه كان يحيا ألما ممضا أخفاه في حنايا الروح، لذا فإذ رسخ في أذهان ذويه إنه سافر إلى كوبا إنقاذا لأخيه جبرايل من محنة ألمت به، وتعلم الإسبانية أثناء الرحلة في الباخرة، يوم لم تخترع الطائرات، ووقف مدافعا عنه في المحاكم وكسب القضية، لكن الباحث المدقق أمين المعلوف، الذي استقرأ كل هذا العدد الهائل من وثائق الأسرة، يصل إلى نتيجة مفادها أن جده، كان يكتوي بتباريح عشق؛ لقد كان هائما بامرأة تسكن الديار الأمريكية، التي يذكر عنها شيئا، ولم يذكر اسمها، وهي استنتاجات ذكية تعززها هذه الشذرات التي يبوح بها جده، لا بل يصل إلى نتيجة مهمة من خلال تفحص وتصفح هذه الأوراق، مفادها أن جده ما وطئت قدماه الأرض الكوبية، بل ذهب تنفيذا لرغبة آنية جامحة لمغادرة هذه الحياة الراكدة، لكنه فوجئ بالحجر الصحي والمعاملة غير اللائقة مع المهاجرين، هو الشاعر مرهف الإحساس، ولعله ما رغب في العمل تحت إمرة أخيه الأصغر المندفع في جمع المال وحبه. بطرس المعتد بذاته عاد إلى بلده، والعود أحمد، ليختلق تلك الفرية؛ الأكذوبة التي انطلت على الأسرة وصدقتها، هو المعروف بالصدق والسلوك الحسن.

المعلوف يزور قبر جبرايل به‍افانا

وإذ كانت رحلة الجد إلى تلك الديار البعيدة غير موفقة، فإن الحفيد الذي قرر كتابة تاريخ للأسرة من خلال الوثائق، والكنز؛ الصندوق الذي احتواها يقرر السفر إلى كوبا، وهافانا تحديدا، بحثا عن أقنوم مهم من أقانيم الأسرة، وأعني جبرايل شقيق جده، الذي غادر الضيعة أواخر القرن التاسع عشر، ولينشىء مؤسسة تجارية سماها «lavarda» ويشتري دارا فخمة بنتها الحكومة الكوبية سنة 1914 للجنرال مكسيمو غوميز الذي أضحى قائدا لقواتهم الثورية ضد الإسبان، وأسس الجمهورية الكوبية الفتية، لكنه بسبب عدم حمله الجنسية الكوبية، عامله الثوار معاملة إنسان اعتيادي! ليحيا عزلة مؤلمة. جبرايل، أو غابرييل بالإسبانية يشتري دار غوميز هذا، لكن هذا العم الأعلى شقيق الجد، كثير الطموح، يصرع في حادث سير، ظهر يوم 21 يونيو/حزيران 1918، وإذ تأكد من تاريخ الوفاة، فقد طمع في معرفة صدى الحادث في الصحف- من خلال زيارة المكتبة الوطنية في هافانا- مشيدا بالتعامل الحضاري لمنتسبيها، ويقرأ في الجريدة الصادرة ذلك اليوم وصفا مسهبا لحادث سقوط سيارة عمه السنيور غبراييل من الجسر نحو النهر، كما يتمكن من زيارة قبره في مقبرة كريستوف كولمبس.

بطرس يقرر الزواج

وإذ يقرر بطرس هذا الذي ستشاء المشيئة إلالهية أن يكون جدا لأمين المعلوف، يقرر بطرس الزواج بعد تردد ولأي، وبعد أن أشرف على الرابعة والأربعين من عمره، وحزم أمره بعدم قبول العروض التي أغدقها عليه أخوه جبرايل بالالتحاق به في هافانا، الذي حظيت أعماله التجارية بالنجاح، فإنه يذهب إلى قريبه خليل طالبا يد ابنته نظيرة، هكذا فجأة مما يربك خليلا ويحرجه، فهو لا يراه جديرا بابنته، فضلا عن عدم إيمانه وهذا ما تصرح به صوفيا زوجة خليل، ولكي يتفادى إحراج قريبه، قرر خليل الذهاب الى بيروت حيث تدرس ابنته نظيرة، سائلا رأيها في عرض الزواج هذا؟ فلم تقبل نظيرة عرض الزواج الذي تقدم به بطرس، ما يفرح أباها الذي صارح بطرس بهذا الرأي؛ رأي نظيرة، لكن المفاجأة من غريب الأطوار بطرس هذا، التي ما كانت تخطر على بال، إنه يرغب في مقابلة نظيرة، واذ التقى بها عند انتهاء السنة الدراسية وعودتها للضيعة، فوجئت الأسرة بقبول نظيرة عرض بطرس الزواج منها، لتكون جدة لأمين المعلوف! ولتنجب منه ستة أبناء كان أكبرهم يبلغ السنة الحادية عشرة من عمره، يوم توفي أبوهم بطرس، وأصغرهم في الشهر الحادي عشر، لتكرس نظيرة جهودها كلها لتنشئتهم النشأة الصحيحة، تعلما وتأدبا وتخلقا!
لعل من النافل الحديث عن الجهد المضني الذي بذله الروائي والباحث أمين المعلوف، الذي أدار إليه الأنظار منذ أول عمل روائي « ليون الأفريقي»، الذي ظل يؤكد أن ما تركه جده من قصائد ورسائل وخطابات لن يطويها النسيان، وكأن جده كان ينتظر فردا من الأبناء أو الأحفاد كي يزيل وعثاء الزمن عنها، وبلورة تاريخ لهذه الأسرة ذات الإرث الأثيل في لبنان ودنيا العرب «كان يفكر بالشخص المحدد الذي هو أنا، أنا الذي أبصرت النور بعد ربع قرن على وفاته، ولكن كان يرجو أن يفعل ذلك أحدهم.. إن الآثار الوحيدة لحياته أصبحت الآن بين يدي، ومن غير الوارد أن أدعه يموت طي النسيان».
لي ملاحظة  على ترجمة نهلة بيضون، فقد وجدتها تكثر استخدام لفظ « بالكاد» وليس لهذا اللفظ وجود في لغة العرب، والإمكان الاستعاضة عنه بصيغ « لا يكاد» أو «لم يكد» أو «يكاد أن لا» وغيرها من الصيغ المناسبة. وردت بالكاد نحو عشر مرات بدءا بالصفحة 31 وحتى الصفحة 459.
النزيف ص17 وصحتــــها، النــــزف يحمد عقباه. ص63 وصحيح اللفظ تحمد لأن العقبى مؤنثة. استنفذت ص76 بدل الذال دالا. وطأ بقدميه أرض كوبا. ص92 وطئ قد خط مفرقه. ص181 وخط كان رجلاً اخرقا. ص388 أخرق، لأنه ممنوع من الصرف والتنوين على وزن أفعل فعلاء.

*المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here