يوصف الباحث المصري إسماعيل مظهر (1891-1962) بالمفكر التنويري، إذ كان قريبا من أفكار يعقوب صروف، منشئ المجلة التنويرية المعرفية «المقتطف» وأول رئيس تحرير لها، وآلت إلى إسماعيل مظهر رئاسة تحريرها، بعد أن تولاها قبله فؤاد صروف؛ ابن أخ يعقوب، فضلا عن قيامه بنقل كتاب «أصل الأنواع» لدارون إلى العربية سنة 1918، وأثار نقله عاصفة من التأييد والرفض، انعكست نتائجها عليه، إذ استغل بعض الماديين نشر الكتاب، وما ورد فيه، لتعزيز أفكارهم المادية المرتابة الملحدة، وعلى رأسهم شبلي شميل.
ومن الجانب الآخر قاد الحملة المضادة جمال الدين الأفغاني، الذي كتب فيه رسالته المعنونة «في الرد على الدهريين»، الذين يصفهم أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتابه «المِلَل والنِحَل» بالقائلين بالدهر أو الزمان، الذي هو السبب الأول للوجود، وإنه غير مخلوق ولانهائي، وقد ورد ذكرهم في القرآن الكريم: وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، ما سبب له بعض الإحراج، الأمر الذي دفعه لتأليف كتاب عنوانه «ملقى السبيل. في مذهب النشوء والارتقاء» لمناقشة ما أورده شبلي شميل والأفغاني، صدرت طبعته الأولى سنة 1326. وأرى أنه ما كان راغبا في هذه الزوبعة، شأنه شأن الشيخ علي عبد الرازق صاحب كتاب «الإسلام وأصول الحكم».
وقد مرّ إسماعيل مظهر بارتياب وشكوك وتساؤلات إزاء معتقدات الدين، لكنه تخطاها نحو شبه اليقين، تؤكد هذا دراسته المعنونة «معتقد أبي العلاء المعري في الدين والخالق»، وهي إحدى الدراسات التي احتواها كتابه «تاريخ الفكر العربي»، الذي نشر أول مرة سنة 1928، حيث أشار إسماعيل مظهر إلى هذه الحيرة في المقدمة التي صدَّر بها كتابه «ملقى السبيل. في مذهب النشوء والارتقاء» قائلا: عانيت في اجتيازها أشد ما يعانيه كل من تعمد مثل هذه الأسفار الطويلة، من مشقات يتلقفها فيه الشك بعد اليقين، ويقرضه فيها اليقين شيئا من الطمأنينة والهدوء، بعد أن يعنته الشك وتقتله الرِيَب». وقد أثارت في نفسه هذه الموجة من الشك قراءته لكتاب «فلسفة النشوء والارتقاء» لشبلي شميل، الأمر الذي دفعه لترجمة كتاب «أصل الأنواع» لدارون.
تأثيرات عنصرية
وأنت تقرأ كتابه «تاريخ الفكر العربي»، تتعجب إذ ترى فيه نزعات عنصرية ونزغات، تقسم البشر وفق توصلات تلمودية، قام بنشرها المستشرق المجري اليهودي (شلوتزر 1781) وتقسم شعوب الأرض إلى ثلاثة أصول، تبعا لثلاثة من أبناء نوح وهم: سام وحام ويافث، فهو يعلي من شأن الآريين الحاميين، على حساب أبناء عمومتهم الساميين، بل لم يبق لهم فضيلة، ساحبا الأمر – أيضاً- على العرب، تلمس ذلك من خلال قراءتك لدراسته للشاعر مهيار الديلمي، لا لسبب إلا لأنه ديلمي فارسي، بل ينعى على الدارسين والقراء العرب، إنهم لم يدرسوا شعره ويتذوقوه، لا لشيء إلا لأنهم ساميون، وأنهم لا يستطيعون الوصول إلى الفرق بين شعر تجود به سليقة مستمدة من خيال آري، وآخر تخرجه سليقة تستمد من خيال سامي الأصل، والفرق بين العقل الآري بكل توابعه، مباين جهد المباينة للعقل السامي: فالفرق بينهما جلي في المدنية التي أخرجها كلاهما.. «أتخيل أن هذا سبب من أخطر الأسباب التي من أجلها لم يستسغ العقل السامي شعر مهيار ولا شعر ابن الرومي».
في حين لا يترك مناسبة إلا ويُطَفِف من كيل المتنبي، ويقلل من شأنه لأنه عربي، وزيادة في غمط أهمية المتنبي في التراث الشعري العربي، فإنه يقرنه بشعراء من الدرجة العاشرة، بل أحدهم لم أسمع به وهو (صرد) قائلا: «لماذا يظل المتنبي قبلة المتأدبين في كل آن، ولا يذكر اسم مهيار الديلمي أو اسم ابن الرومي مرة، إلا بعد أن يذكر شعراء أقل منهما في الأدب منزلة وأدنى منهما في الشعر مكانة، كديك الجن وصرد وأبي الشمقمق، ألوفا من المرات». وما اكتفى إسماعيل مظهر بذلك، بل لابد له من أن يقتبس أبياتا في الفخر قالها مهيار مفاخرا بأهله:
قومي استولوا على الدهر فتى
ومشوا فوق رؤوس الحقب
عمموا بالشمس هاماتهمو
وبنوا أبياتهم بالشهب
وأبي كسرى علا إيوانه
أين في الناس أب مثل أبي
ويعود كرة أخرى للنيل من المتنبي، مقارنا بين أبيات مهيار المفاخرة هذه، وبيت المتنبي
أحارب خيلا من فوارسها الدهر
وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبر
منتقصا من شاعرية المتنبي، معليا من شأن مهيار الديلمي وقومه، الذين مشوا فوق رؤوس الحقب». وهنا يغفل الباحث إسماعيل مظهر الفروقات الفردية، مرجعا التألق والنبوغ إلى عنصر الفرد ورسّه، وهذا لا يأتلف مع مقررات البحث العلمي، واضعين في الحسبان شغف الباحث بالعلم ونواميسه، لكنه يتخلى عنه، حين توجب عليه اهواؤه التخلي عنه.
وإذ يدرس الشاعر بشار بن برد، فإن الباحث العلمي التنويري إسماعيل مظهر، لا يفرط بهذه المناسبة، وليؤكد أفكاره التي وقفت إزاءها في سالف حديثي، فهو لا يعرف في العربية سوى ثلاثة شعراء، لشعرهم في أذنه نغم وحده ولمعانيهم مرمى بذاته، بل يكادون يخرجون من الحيز الذي شغله شعراء العربية، إلى حيز لم يلجه من قبلهم ولا بعدهم شاعر نطق بالضاد، وإني لأحسده على هذه اليقينية التي لا يتسرب إليها رِيَب، ودائما يكون اليقين الثابت رديف البلادة، بلادة العقل.
أما من هم هؤلاء الشعراء الثلاثة؟ فهم: مهيار، وبشار، وابن الرومي، ولماذا شغف بهؤلاء حبا؟ فلأنهم – كما يقول- بعيدون عن العقلية العربية، فكانوا نسيجا وحدهم في الشعر والشاعرية، فإن مهيارا وبشارا كلاهما فارسي، وابن الرومي بعيد عن الدم العربي بعد السماء عن الأرض، ولا خفاء في أن عقليتهم الفارسية عقلية تتمشى فيها أصول الآريين، الذين غزوا الهند ودوخوا الممالك القديمة، فإذ ينعى إسماعيل مظهر على العرب الفتوح، وأنا هنا لست بمدافع عنها، فقد ارتكبت فيها المرتكبات، يتحول المفكر التنويري، إلى داعية للغزو وتدويخ البلدان، وهكذا يكون الدرس العلمي، وهكذا يكون التنوير الذي أراه تنويرا خلبا عشناه أيام العسكرية.
مهاجمة عقل الساميين
بعد أن يعرج على دين ماني بن فاتك، الذي هو أحد نواتج الفكر الآري، مؤكداً أنه لا يبالغ إذ قال، إن العقلية الآرية لا تنتج إلا هذا، فهي تؤمن أولاً بالحواس، ومن طريق الحواس تحاول الاندماج في الطبيعة، ويعاود مهاجمة العقل السامي، فهو وهاج براق وثاب إلى الغيبيات، متهافت على العلم، بما لا يستطيع العقل الصرف أن يعلم منه شيئاً. وإني إذ أعجب من يقينياته المؤدلجة، فكذلك أستغرب هذه الشمولية، التي تجعل من الساميين- على افتراض تصديق هذه الأحبولة- عقلا واحدا متماثلا، مع أن عقول أبناء أسرة واحدة لا تتشابه أبدا ولا تتماثل، خاضعة للجينات والمورثات الحاملة الشيفرة الوراثية، التي يعمل العلم جاهدا على فك شيفراتها، والتي تختلف اختلافا بينا بين فرد وآخر.
وينقل لنا أخيرا آراء أربعة من الباحثين المصريين في شاعرية بشار هم: أحمد حسن الزيات، عباس محمود العقاد، طه حسين، وأحمد ضيف، فلا يرى في حديث الزيات جديداً، ولعله جامل العقاد، خوفا من سلاطة لسانه وباشط قلمه، فأشار إلى واقعية آرائه، لكنه عاد إلى النغمة ذاتها؛ نغمة الآرية التي لم يستطع العقاد الوصول إلى الجوهر الكامن في وراثة بشار الآرية من أجداده الفرس، واصفا طه حسين بأنه لم يفهم من نفسية بشار شيئا، لأنه واقع تحت تأثير الشعراء الساميين المحببين إليه، ولأنه لم يقف على الفرق بينهم وبين الشعراء الذين تجري في عروقهم الدماء الآرية، وإن نقد أحمد ضيف يشبه نقد أي ناقد في القرنين الأول أو الثاني للهجرة.
هذه الآراء المجافية للعقل التي يدلقها علينا الباحث إسماعيل مظهر؛ الموصوف بالتنويري، وظل يتأرجح بين الشك واليقين، وما أراه غادر هذا التأرجح، إنما توضح أن الإنسان مهما ادعى التسامي عن صغائر الأشياء فإنه لا يلبث أن يرتمس في قاع الجهالة، ومخالفة حقائق الحياة.
*المصدر: القدس العربي