عشرةُ أشياء أَحبَّها أبي:
- لعب الطاولة (أو الدومينو).
- المقهى الواقع بجوار المدرسة الابتدائيّة القديمة.
- النادي الأهليّ.
- المستشفى الحكوميّ الوحيد في القرية.
- البطّيخ (وقد تاجَرَ فيه أحيانًا).
- المصارعة الحرّة (لم تتوّفّر لديّ معلوماتٌ كافيةٌ عن أبطاله المفضَّلين).
- شاشة تلفزيون سامسونج (اشتراها مؤخّرًا).
- أمّ كلثوم (هناك حكايةٌ رواها غيرَ مرّةٍ عن زيارتِها للجبهة أثناء حرب الاستنزاف، وهناك أهدتْه زجاجةَ عطر).
- الحجّ (مرّتيْن).
- موتوسيكل ياماها (في بعض مراحل حياته استبدله بدرّاجةٍ هوائيّة).
تلفزيون سامسونج
هذه شاشة تلفزيون سامسونج 32 بوصة، مغطّاة بقماشٍ بنّيٍّ مشجَّر. تخلّصَ من تلفزيونه القديم واشتراها. مازحتُه: “شاشة ذكيّة مرّة واحدة يا حاج؟!” شعّت من عينيْه ابتسامة طفوليّة.
كان يجلس ورجلاه الطويلتان ممدّدتان أمامه على الحصيرة البلاستيكيّة. يدُه اليسرى متشبّثةٌ بالريموت. أثناء تشجيعه للنادي الأهلي، كانت تصدر عنه ألفاظٌ بذيئةٌ لا تليق بسنّه. وفي حال الغضبة المباغتة، كان أبلغ ردٍّ لديه ضرطة مدوّية لا تخلّفُ رائحةً في الجوار (في مرّاتٍ قليلة خلّفتْ رائحةً حامضة). بعدها، يرفع صوتَه الخشن، ظانًّا أنّ نصيحتَه سوف تتسلّل عبر شاشة السامسونج وتصل إلى أذنَي المدرِّب الأخرق. العجيب أنّ هذا الأخير كان يستجيب بالفعل لتعليمات أبي، فيغيِّر أيَّ لاعبٍ لا يروقُ له!
في البدء، يبدأ أبي حذرًا مصغيًا إلى ثرثرةِ المعلِّق. ربّما يتظاهر فقط بالإصغاء. تدريجيًّا، بعد ضياع هجمتيْن، يشوِّح غاضبًا بيدِه اليمنى؛ هذه فرصة ذهبيّة قد ضاعت حتمًا. انفعالاتُه وهو يتفرّج تكون مرتّبةً مثلَ اجتماعٍ حكوميّ رفيعِ المستوى. مع نهاية الشوط الأوّل، تنطلق وصلةُ زعيقٍ وسبٍّ للمدرِّب. يليها سبُّ اللاعبين أنفسِهم.
أمّا الضرطة فهي ليست أكثرَ من تعبيرٍ ساخر. يظلّ محتفظًا بها، ولا يُطْلقها إلّا عندما يفقد الأملَ في المباراة، ولا أعرف كيف يتحكّم بموعد إطلاقِها (ذاتَ مرّة، تسابق مع صديقٍ له في وصلة ضراط. لا أتذكّر سبب هذه المسابقة الغريبة، لكنّها ارتقت بالفعل البيولوجيّ المقرف من مجرّد تصالح مع الذات إلى عظمة الصداقة النادرة والمنافسة الشريفة).
المقهى
حماسُ أبي الكرويّ مثلُ الصلوات: يحتاج إلى تآزُر الجماهير المؤمنين (بالنادي الأهلي). لذلك في مواعيد المباريات الحاسمة، كان يُفضّل الذهابَ مبكّرًا إلى المقهى، ليَحجزَ مقعدَه وسط جوقة المؤمنين.
كان الرفاق يأتون تباعًا، أخذًا في الاعتبار أنَّ الأكثرَ إيمانًا لا بدّ من أن يصل أوّلًا. ويكون في جعبة كلٍّ منهم رصيدٌ كافٍ من التعليقات اللاذعة التي سوف يتناوبون على إطلاقها في توقيتاتٍ مناسبة.
كانوا يبتسمون ويضحكون كأنّها تعليقاتٌ جديدة، مع أنّهم يحفظونها عن ظهر قلب.
لستُ ضدّ هذا الكرنفال الكرويّ السعيد. فقط وددتُ لو أشعرني أبي بحماسِه لي قدْرَ حماسه كأهلاويّ. فليعتبرْني هدفًا أحْرَزَه “بيبو” في الدقيقة التسعين!
كان أبي أهلاويًّا متعصِّبًا. لذلك شجّعتُ نادي الزمالك، نكايةً فيه.
هذا العجوز قضى من سنوات عمره الخمسِ والسبعين ما لا يقلّ عن عشرين عامًا على كراسي المقهى الخشبيّة المتهالكة، بينما لم يتعدَّ ما قضاه معي أسابيعَ قليلةً نتناولُ خلالها وجباتِ الطعام (وجبةُ اللحم كانت طقسًا أسبوعيًّا مقدّسًا بعد صلاة الجمعة). كان موعدُ وجبة الغداء مقدَّسًا، في الثانية والنصف من بعد الظهر، فورَ عودته من العمل. بعدها، يأخذ قيلولتَه استعدادًا للمقهى. وبعد المقهى يعود كي ينام. عندما أسمعُ شجارَ أمّي، أعرف أنّه عاد. كان صوتُها يستمرّ غاضبًا لدقائق، قبل أن يعمَّ السكونُ، ما عدا أزيزَ الحشرات ونقيق الضفادع في ليل الريف.
ظلّت أمّي لسنواتٍ تحتفظ بصوتها الغاضب في ليالي الصيف الطويلة، التي كان المطرُ يهطل فيها على أكوام القشّ والحطب. ومع انقطاع الكهرباء، كان لصوتها إيقاعٌ مثيرٌ وأجمل. (كنتُ أظنّ أنّ أمّي تحبّ أبي في الشتاء وتكرهُه في الصيف).
أبي كان يهرب من أصواتها الغاضبة. يهرب منّا جميعًا. يعتبرنا هدفًا متسلِّلًا، ويبحث عن أهدافٍ أخرى بعيدةٍ لا نعرفها. لا يعرفها هو نفسُه.
كأهلاويٍّ عنيد، ربّما كان يعتبر إنجابَ طفلٍ زملكاويٍّ مثلي غلطةً قدَريّةً لا مجالَ لتصحيحها. على أيّ حال، كانت مشاكساتُنا الكرويّة قليلةً ومرحة.
كان يقضي معظمَ وقته في المقهى شبهِ المعتم (نادرًا ما كان يشرب الشايَ، لذلك لا أعرف مشروبَه المفضل). كنتُ ألمحُ، أثناء مروري، كتفَه اليسرى عبر نافذة المقهى المفتوحة. أحيانًا أسمع بحّةَ صوته الرنّان. صوتُ أبي لا يبتهج إلّا عندما يلعب الورقَ والدومينو. كان لديه دائمًا الوقتُ والبراعةُ لكلّ هذه الألعاب.
بسبب كراسي المقهى الخشبيّة وحماسِه الكرويّ الزائد، أصيبَ بالبواسير. كان يعود وملامحُ الخسارة قد سَوّدتْ وجهَه وعمّقتْ خطوطَ جبينِه. يضع مؤخِّرتَه العاريةَ لدقائق في طستِ الماء الدافئ. من وراء باب الحمّام الموارب، كان يندب حظَّه في الحياة. خسارةُ المباراة، مع وجع البواسير، يجعلان ندْبَه مؤلمًا ومؤثِّرًا (لا أدري أين انتهى مصيرُ الطست النحاسيّ الذي وضع فيه مؤخِّرتَه عشراتِ المرّات).
ثلّاجة إيديال
هذه هي ثلّاجةُ ايديال، تسع أقدام. خاوية. لا أزيزَ لها. صوتُ الموتور لا يرتجّ كما كان يُحدث. ما زالت كما هي، على يسار باب البيت، وأسفلَ عدّاد الكهرباء مباشرةً. اشتراها أبي أوائلَ الثمانينيّات، وظللنا لشهورٍ طويلةٍ ننتظر تسلُّمَها من الشركة حسب الدوْر. احتفلنا بوصولها كما يليق بفردٍ جديدٍ انضمّ إلى العائلة، وزيّناها بالآيات القرآنيّة، حتى لا يقتلَها تيّارٌ كهربيٌّ غادِر أو عينُ حاسد. عقب وصولها، أحالت أمي “النمليّةَ” على المعاش، وبدأتْ تحفظ كلَّ شيءٍ فيها.
أثناء جلوس أبي، تكون شاشةُ السامسونج أمامَه، والثلّاجةُ خلفَه. كانت دائمًا عامرةً بألذّ أصنافِ الفاكهة، خصوصًا البطّيخ الذي لا ينقطع طوال موسم الصيف.
لا أدري من أين ولا كيف كان يشتري كلَّ هذه الأشياء ويخزّنُها، على الرغم من غلاء المعيشة بعد ثورة يناير. لم يحْدثْ أن طلب منّي قرشًا واحدًا! على العكس: فوجئتُ به في آخر زيارةٍ وهو يوقفني أمام البيت ويعطيني رزمةَ نقود. دسّها في جيبي وهو يُقْسم عليّ. كان المبلغ عشرةَ آلاف جنيه. مبلغٌ كبيرٌ جدًّا بالنسبة إليه. لا بدّ من أنّه قضى وقتًا طويلًا في تحويشِه. ما أثار دهشتي أنه أعطاني إيّاه في لحظةٍ كنتُ فيها أفكّرُ فعلًا في شخصٍ أستلفُ منه خمسةَ آلاف جنيه.
هل شعر باحتياجي إلى المال؟ هل كان يقدِّم إليَّ اعتذارًا عن تاريخنا المشترك الطويل المرتبك؟ الموقف كلُّه ظلّ عاطفيًّا وغامضًا.
الشفّاط ماركة فريش
هذا هو الشفّاط، ماركة فريش. ما زال في الكوّةِ العلْويّة، أعلى نافذة المطبخ. ذرّاتُ الغبار وخيوطُ العنكبوت تغلّفُه بالكامل. يومَها، خشيتُ على أبي، وهو يقوم بتركيبه لتنقية هواءِ المطبخ من روائح الطهو. أسرعتُ بإمساك الكرسيّ الذي كان يتأرجح تحت ثقل جسدِه. صوتُ ليلى مراد يصلنا من الصالة: “يا عاشق الورد وحسنه.. دا الورد مايِلْ على غصنه.. ما تهنّي قلبَكْ بمحاسنه.. حبيبي.”
ساعدتُه في التقاط المفكّ والمسامير، وتجميعِ قطعِ الشفّاط البلاستيكيّة. بدأ في الضغط عليها، ودفعها داخل الإطار الخشبيّ.
لم يَدُر بيننا أيُّ حوارٍ إلى أن انتهى من عمله. كلُّ ما تبادلناه من كلامٍ طوال حياتنا أقلُّ ممّا يقوله مذيعٌ في مباراة كرة قدمٍ واحدة!
في المطبخ طاولةٌ صغيرةٌ مطليّةٌ بلونٍ أخضر. طلاها بنفسه، وركّب لها أربعَ عجلاتٍ معدنيّةٍ صغيرة. بل هو ركّب عجلاتٍ لكلّ طاولات البيت ومقاعدِه، منذ أن باتت حركةُ أمّي ثقيلةً جدًّا، ولم تعد ركبتاها تتحمّلان بدانتَها. وبذلك تسنّى لها تحريكُ الأشياء بسهولةٍ في غيابه.
كانت يداه الخشنتان أمهرَ من يديّ. الفِلاحة تخشِّن اليدين، والسفَرُ يرقّقُهما.
كلّما أجرى تحسيناتٍ في البيت، عيّرتْه أمّي ساخرةً: “أقرع ونزهي!” ذلك لأنّه كان يبغددُ نفسَه وينزِّهُها ولا يحمل للدنيا همًّا. (بالمناسبة: أبي لم يكن أصلع، بل ظلّ يحتفظ بشعرٍ رماديٍّ خفيف، يحيط بصلعته الصغيرة ويداريها). ربّما ظنّ أنّ هذه التحسينات العشوائيّة سوف تغرينا ـ نحن أولادَه وأحفادَه ـ بأن نعودَ من البلاد البعيدة ونعيشَ معه في بيتنا مرّةً أخرى.
شهادةُ تقدير
على اليسار، بين الثلّاجة وشاشةِ السامسونج، بابُ غرفته. في الجانب القبليّ للبيت. ليس هناك سوى عدّةِ بطاطين، وسجّادةٍ رديئةِ الصنع فيها حروقُ سجائر. ثمّة مروحةٌ معدنيّةٌ كبيرةٌ كانت تطنّ في السقف. على أجنحتها البيضاء خراءُ ذبابٍ كثيف (خراءُ أجيالٍ من الذباب لأنّها لم تنظَّفْ طوال ربع قرن) على الجدار المطليّ بجيرٍ متآكل، شهادةَ تقديرٍ لتفانيه خمسةً وثلاثين عامًا في وصفه “كبيرَ العمّال” في المستشفى الحكوميّ (سبعة شهور وأربعة أيّام لم تُضمّ إلى مدّة التفاني التي شكروه عليها).
لن يسعدَني أن تنتهي حياتي الوظيفيّة في منصب “كبير العمّال.” سأصابُ بالاكتئاب إنْ لم أجدْ شيئًا أعلّقُه في غرفتي سوى شهادة تقديرٍ يتيمة. والأسوأ من ذلك أن أقضيَ أيّامي على فراشٍ كريه، أراقبُ دورانَ مروحة السقف بأجنحتها المطرَّزة بخراء الذباب (أجيال من خراء الذباب كما قلتُ لكم).
في إطار شهادة التقدير نفسه، صورةٌ ملوّنةٌ لي في المراهقة، وأنا بشورت البحر في رأس البرّ. أبي كان يخافُ من البحر وزبدِ الموجِ المدوّي. عندما وقعت النكسة، ومع دويّ طائراتِ العدوّ، أسرع رفاقُه إلى عبور القنال سباحةً. أمّا هو، فاحتمى بجدار مسجدٍ منتظرًا مصيرَه.
أكثرَ من مرّةٍ دعوتُه إلى قضاء الوقت معنا في رأس البرّ. كان يأتي، وبغرابة أطواره يُلقي التحيّةَ علينا، ثم يُقبّل أولادي ويعطيهم الحلوى والنقودَ، ويستأذن للصلاة في مسجد السوق الكبير، ولا يعود.
كيف يأتي إلى المصيف ولا يذهب لرؤية البحر؟! ما الداعي إلى تحمّل مشقّةِ المواصلات من أجل دقائقَ لا معنى لها؟!
ليس في ذاكرتي أيُّ صورةٍ له بـ”الشورت” وهو يلهو معنا ـ أنا وأخوتي الأربعة ـ وسط الأمواج. ربّما لهذا السبب التقطتُ عشراتِ الصور مع أولادي ونحن شبهُ عُراة.
صورٌ بلهاءُ أستغربها أحيانًا، لكنّها عزيزةٌ على قلوبنا. كأنّنا حبسنا السعادةَ الأبديّةَ في داخلها.
الشال الأبيض
هذا هو الشالُ الأبيض معلّقًا على مسمارٍ وراء باب غرفته. كان يضعه حول رأسه عندما يذهب لرفع الأذان. لا يضعه دائمًا، لأنّه لا يميل إلى أيّ زينة. لم يكن من أولئك الفلّاحين الذين يخجلون من الخروج حاسري الرأسِ في جلبابٍ بسيط.
في أوائل المرحلة الإعداديّة، شجّعني خادمُ المسجد على رفع الأذان في مكبِّر الصوت (ظللتُ ألخبط وأردّد “حيَّ على الفَلاح” بالنقص والزيادة). بعدما أُحيل أبي على التقاعد، تفرّغ لرفع الأذان خمسَ مرّات كلّ يوم. خشونةُ صوته وحماسُه الزائد يوحيان أنّه يعلن الحربَ، بدلًا من دعوة الناسِ إلى بيت الله. هكذا أصبحَ، بالألفة ومرورِ الأيام، مقيمَ شعائر في مسجدٍ صغيرٍ بناه أحدُ الجيران بالقرب من بيتنا.
لا أريد أن أفعلَ مثله، فأعودَ إلى رفع الأذان بعد التقاعد.
صفعني ثلاثَ مرّات، إحداها كانت بسبب هربي من صلاة الجمعة. من يومها، عقدتُ نيّتي على ألّا أصفعَ أولادي أبدًا، وإنْ لم يصلّوا الجمعة. كنتُ أفضّل أن يُتركَ عقابي لله لأنني لم أنسَ صفعتَه لي.
موتوسيكل الياماها
هذا موتوسيكل الياماها أو بقايا الموتوسيكل مُلقاة تحت السلّم الخرسانيّ، ومقيّدة بسلسلةٍ حديديّةٍ غليظة. في هذا الموضع نفسه، كان لأمّي فرنٌ بلديّ. كان وجهُ أمّي رائعًا وهي غارقةٌ في العَرق والدُّخان. لا أتذكّر متى هُدِم الفرن. لم يكن يُسْعدنا شيءٌ مثلُ رائحة خبز الصاج والبطاطا الحلوةِ المشويّة.
لحظةَ استعداد الراديو لبثّ برنامج فؤاد المهندس “كلمتين وبس،” ينطلق أبي فوق موتوسيكل الياماها إلى المستشفى، مخلِّفًا سحابةً من الضجيج والعادم الرماديّ القاتم.
لا أكرهُ مكانًا في الكرة الأرضيّة كلّها مثل المستشفى، ورائحةِ الأدوية والديتول وعلبِ البول والبراز. كيف قضى أبي نصفَ حياته عاملًا فيها؟! ظلّ سنواتٍ طويلةً المسؤولَ الأوّلَ عن فحص كافّة أنواع الجراثيم في بول فلّاحي القرية وعيالِهم، وفي برازِهم. كان لديه ما يشبه الحبوبَ الصحّيّة، يلفّها في ورق، ويعطيهم إيّاها، لعلاج كلّ الأمراض.
فشلتْ كلُّ محاولات رفاقي تدريبي على ركوب الموتوسيكل في غفلةٍ عن أبي. كان أبرعَ منّي في هذه النقطة. وكان ينطلق وهو يشقُّ هواءَ البلدة بصدره المشعر شبهِ العاري. وسامةُ وجهه الذي يلفحُه الهواءُ تذكّرني بالممثّل صلاح ذو الفقار (أكثر وسامةً منّي). أمّا بنيةُ جسده، ففارعةٌ وعريضةٌ مثل عبد الناصر. كان يحبّ عبد الناصر.
لا أفهم كيف يحبُّ المرءُ رجلًا تسبّب في بقائه على جبهة الحرب والموت قرابة عشر سنوات! أليس الاستمتاعُ بعلبة آيس كريم، والتمشيةُ على النيل، أهمَّ من محبّة الرؤساء؟!
نبرةُ صوت أبي كانت معدنيّةً وعاليةً وخشنة، أقوى من صوت عبد الناصر نفسه. فإنْ كنتَ قادمًا من أوّل الشارع، فسوف تسمعُه بوضوح. صوتُه كان ملْكًا للشارع كلِّه. أمّا ضراطُه فهو حصريٌّ للأسْرة (الضراط كان ملمحًا شخصيًّا، لكنّ هذا لا يعني أنّه كان على مدار الساعة، بل ظلّ ضمن المعدّلات الطبيعيّة لدى معظم البشر).
آخر مرّة ركبتُ فيها الموتوسيكل خلفه كنّا في طريقنا إلى جنازة أحدِ أبناءِ عمومته. (هذه أهمُّ نقطة مشتركة بيننا، فنحن نفضّل مشاطرةَ الناس أحزانَهم على مشاركتهم أفراحَهم). اعتدنا ـ نحن الاثنيْن ـ أن نهْربَ من الأعراس بأيّ حجّة، وألّا نتردّدَ في السيْر في الجنائز الكئيبةِ والبطيئة، وإنْ لم نعرفْ أصحابَها. لكنّني لا أحبُّ أن أشاهدَ جثّةَ ميت، ولا أن تجمعَني به غرفةٌ واحدة (رؤيةُ الموتى تحتاج إلى إيمانٍ لا أملكُه).
أمّا أبي، فهو صاحبُ خبرةٍ عظيمةٍ في تغسيل الموتى وتطييبِهم بالمسك والكافور. العشرات من أقاربه، انفردَ بأن يكون آخرَ مَن يلمس أجسادَهم أثناء لفّهم في الأكفان البيضاء.
أثناء عودتنا من الجنازة لم يقل سوى كلمةٍ واحدة: “ياالله حسن الختام!” ظلّت هذه العبارةُ عالقةً بلسانه، بينما لم يَحْدثْ أن نطقتُ بها مرّةً واحدة. عُدنا صامتيْن مثلما ذهبنا. أردفني خلفه مباشرةً، ملتصقًا بظهره العريض، بينما ذراعاي تطوِّقان خصرَه المترهّلَ وهو يقود الموتوسيكل متحاشيًا أشعّةَ الشمس. جعيرُ الماكينة العالي فرض علينا الصمتَ. آنذاك رأيتُ، عن قربٍ، تطابُقَ مظاهر الشيْب بيننا: هو في آخر الشيْب، وأنا في أوّله. أقدامُنا مستطيلة ومتطابقةُ الشكل في مقاس الحذاء نفسه. استطالةُ الوجه نفسُها. كأنّنا صديقان وقد تشابهنا بمرور الزمن.
أعترفُ أيضًا بتشابهنا في التودّد إلى النساء اللطيفات. ليس بالضرورة أن تكون نيّتُنا سيّئةً، بل لأنّ قضاءَ وقت مع امرأةٍ لطيفةٍ أمرٌ رائعٌ دائمًا. (اعتقدتُ دائمًا أنّ الممرِّضات اللواتي يجلسن معه بالساعات، في استراحة المستشفى، كنّ يُطْلِعْنه على أسرارٍ فاحشة).
أبي كان يحبّ الغرباءَ ويبتهج لوجودهم. لذلك كان يصرُّ على ضيافتهم ولو بكوبِ ماءٍ باردٍ يقيهم حرَّ أغسطس. تكون تلك فرصتَه كي يتسامرَ معهم عن أحوال البلاد. أنا مثله كان يروقُ لي ـ في طفولتي ـ أن يحتضنَ بيتُنا أقدامًا متعبةً لعشرات الغرباء؛ بل إنّ بعضَهم قضى ليلتين معنا في مندرة الضيوف. (أحدُهم أصبح مليونيرًا من تجارة الذهب ولم يفكّر في زيارتنا بعد ذلك).
اعتدتُ في الأعياد زيارةَ القرية فقط للاطمئنان على أبي. كنتُ أراه في جلسته، بجسده الضخم والصديريّ والسروالِ الأبيضِ الداخليّ، وبجواره كيسُ الأدوية التي يتناولها في لامبالاةٍ كأنّها حلوى الفستق. كان يدفع جسدَه بصعوبةٍ كي ينهضَ ويضمَّني في حضنه. أصبحنا نتعانق في حضنيْن قويّيْن، وهو ما لم نكن نفعله من قبل.
الهاتف الرماديّ
هذه هي عدّةُ الهاتف البلاستيكيّة بلونها الرماديّ. لم أنتبهْ إلى أنّها مازالت منسيّةً في الزواية على الأرض، منذ أن دخل الناسُ عصرَ الموبايل (كلُّ غراميّاتي الأولى كانت بفضل هذه العدّة الرماديّة). طلب أبي إلغاءَ الخطّ لأنْ لا داعي لدفع فواتيره، لكنّه لم يشترِ لنفسِه أيَّ موبايل.
كنّا نتبادل اتصالاتٍ متباعدةً عبر موبايل أمّي أو أختي الصغرى. أستطيع أن أحصيَ كلَّ كلماته: “الأولاد بخير؟ وأنت بخير؟ ربّنا يسترها معكم…” هو لم يغادرْ قريتَه إلّا بسبب النكسة التي أبقته على جبهة القتال عشرَ سنوات، وأنا لم أحاربْ. هو لم يسافر إلى الخليج كي يجلبَ لنا دولاراتٍ مثل كلّ الآباء، وأنا قضيتُ ثلثَ عمري في الخليج. عاش حياتَه كلَّها في قريةٍ نائية، وأنا عشتُ معظمَ حياتي في القاهرة. لم يكن لديه حسابٌ في البنك ولا شاليه في الساحل الشماليّ، وهذا ما حرصتُ عليه أنا أيضًا.
لا أظنُّ أنّنا جلسنا في يومٍ ما واتفقنا على أيّ شيءٍ محدّد. لم يطلبْ منّي مثلًا أن أقلِّدَه. لم يطلبْ ألّا أقلّدَه. لم يقل لي “اعتبرْني قدوتَكَ في الحياة،” لكنني جعلتُه قدوتي. اجتهدتُ كثيرًا ألّا أفعل كلَّ ما فعل… وأن أفعلَ كلَّ ما لم يفعل.
لا أكرهُ أبي ولا أسمحُ لنفسي بأن ألومَه. فقط لم أكن أريد أن أصبحَ مثلَه، ولا أن تصبحَ حياتي نسخةً أخرى من حياته. مهما كان الأصل نفسُه سيّئًا، فستكون النسخةُ المقلِّدةُ أسوأ.
أفكّر كثيرًا في النقطة التي انتهى إليها وهو يجلس بالصديريّ والسروال الداخليّ، يتابع مباراةَ الأهلي والزمالك، إلى أن يأتي موعدُ الصلاة، فيذهب لرفع الأذان، ثم يعود لمشاهدة المصارعة الحرّة، وبجواره كيسُ الأدوية، وليس في رأسه سوى ذكرياتٍ مشوَّشةٍ عن حربٍ بعيدة، وعدّةِ نكاتٍ تبادلها مع ممرِّضاتٍ ومريضاتٍ عابرات، على الأرجح ميتات الآن.
لا أريد لحياتي أن تنتهي عند نقطةٍ مماثلة. لهذا السبب كنتُ أحْفر بأظفاري مسارًا آخرَ لحياتي. أريد أن أفلتَ بأيّ ثمن من ظلّ أبي، وإنْ لم يُلْزمْني به أساسًا.
كان يقاوم ثقلَ جسده أثناء السير. أفضِّل في شيخوختي أن تحتفظَ مشيتي بما يشبه خفّةَ الغزال، وأبذلُ جهدًا كبيرًا كي أبقى نحيفًا، وإنْ كنتُ أظنّ أنّ أجسادَنا ـ بمرور الزمن ـ هي التي تروِّضنا، لا العكس.
صالةُ البيت من الداخل كانت معتمةً ورطبة. الشاشة السامسونج مغطّاةٌ بقماشٍ بُنّيٍّ مشجَّر. الثلّاجة لا يصدر عنها أيُّ صوت (ليس فيها بطّيخٌ ولا زجاجاتُ مياه؛ فقط كيسُ أدويةٍ منتهيةِ الصلاحيّة). موتوسكيل الياماها هناك، أسفلَ السلَّم، مثلُ هيكلٍ عظميٍّ لحيوانٍ معدنيٍّ نفق منذ عشرات السنين. خراءُ الذباب في كلّ مكان: على بياض الثلّاجة، وأجنحةِ المروحة، وإطارِ الشفّاط.
كنتُ أتنفّس بصعوبةٍ وأنا أدور في البيت، وقد خلا من صياح أبي. ليلى مراد لا تغنّي “يا عاشق الورد وحسنه.. دا الورد مايل على غصنه.” بصعوبةٍ تحملني قدماي من التعب والحرّ. كأنّ البيوت أيضًا تموت، قلتُ لنفسي.
عدتُ إلى الغرفة التي كان ينام فيها. السجّادة المحروقة ورائحةُ التراب. شهادةُ الشكر والتقدير. داخل إطارها الذهبيّ، مقابلَ صورتي وأنا بشورت البحر، حُشرتْ صورةٌ أخرى بالأبيض والأسود لأبي في زيّ الحرب مع أحدِ رفاقه، وهو شابٌّ نحيلٌ بشفتيْن غليظتيْن. كنتُ قد سألتُه مرّةً عن اسمه، فقال إنّه لا يتذكّره. ربّما كان يعرف اسمَه، ولسببٍ ما قرّر أن يخفيَ حكايتَه عنّي. فكّرتُ: هل أنزع صورتي من الإطار، أمْ صورةَ أبي مع صديقه المجهول؟!
تأمّلتُها بين أصابعي في الضوء الخافت الآتي من نافذةٍ صغيرةٍ تُطلّ على زريبةٍ مهجورة. شابّان غريبان في زيّ حربٍ قديمة، وعلى وجهيْهما ابتسامةٌ شاحبة. أحدُ الشابّيْن كان أبي، وكان الآخر مجهولًا (على الرغم من أنّه عاش يُطلّ علينا في منزلنا لنصف قرن). كان مكتوبًا على الصورة من الخلف بختمٍ واضح: “الدقّي ـ استديو رفعت. فبراير 1969.”
وضعتُ الصورة في جيبي ثم أغلقتُ البابَ مغادرًا.
من وراء ظهري سمعتُ ضرطةَ أبي القويّة تدوّي في الصالة المعتمة. لا بدّ من أنّها تلك الضرطةُ المرحةُ التي لا تخلّف وراءها رائحةً حامضة.
*الآداب