شريف صالح: السيرك بين متعة الفرجة ومخاوفها… في المجموعة الفائزة بجائزة الملتقى

0

كان متوقعًا فوز مجموعة “سيرك الحيوانات المتوهمة” بجائزة الملتقى في الكويت، كأفضل مجموعة قصصية عربية، وهو فوز يؤكد خصوصية الكاتب المغربي أنيس الرافعي وحساسيته، كأحد المجرّبين الكبار في فن القصة العربية القصيرة.

ليس سهلًا موضعة تجارب الرافعي عمومًا، فهو لم يقدم تعريفًا إشهاريًا بأن كتابه “قصص” بل اكتفى بكلمة “سرد”، وهو توجيه يُصنف، وفي الوقت نفسه يتعالى على التصنيف.

كأن الكتاب يخبر قارئه بأنه ليس رواية، وليس أيضًا قصصًا، بل “سرد” يقع “بين بين”، لأن الرافعي في معظم تجاربه يأخذ من الرواية تلك الخطة المحكمة التي تنظم أجزاء كتابه، يبني على هيكل عظمي مسبق التجهيز بوعي وأناة.

في المقابل، لستُ مضطرًا – أيها القارئ – أن تقرأ البداية كي تقودك إلى نهاية حتمية، لأن كل مقطع مستقل بذاته استقلال أي قصة قصيرة.

ورغم الإشهار السردي، لا يرتاح الرافعي لهذا اليقين والتوجيه، بل يضيف عبارات أخرى تعريفية ملتبسة ومربكة للمتلقي مثل “حقيبة رسومات ومنولوغات”. وعندما تدخل إلى الجزء الأول تُفاجئ بتعريفات أخرى: “شذرات، تأملات، خواطر، هوامش، قصيصات، وخطابات موازية”.

إنه يلاعب قارئه، ويتهرب من التأطير الجاهز، لا يريد لك أن تقرأها رواية، رغم بنية الرواية، ولا قصة، رغم أنها كذلك، ولا سرد لأنها تأملات. ولا مركز لأن لها هوامش وخطابات موازية.

ليست المراوغة في تعدد لاالتعريفات وانفتاحها، بل أيضًا في عبارة “حقيبة رسومات”، التي رسمها الفنان محمد العامري، وهي ليست تزيينية بل من صميم التجرية، تستعيد روح كتب الأطفال من جهة، وكتب التراث من جهة أخرى.

رسوم تُضيف للتجربة السردية قيمة جمالية مضاعفة، ضمن إخراج فني أنيق لدار خطوط وظلال. فالرافعي يكتب عن حيوانات، والعامري يرسمها.

اختلاق عالم

لماذا يرتد الرافعي إلى عالم الحيوان ويروي لنا حكايات منه؟ ولماذا كتب من قبل عن “مصحة الدمى”؟

قديمًا كان اللجوء إلى الحيوانات يهدف إلى التسلية والإمتاع، وتمرير رسائل أخلاقية وسياسية، مع اتقاء شر السلطة. فما يعجز الإنسان عن قوله في أزمان الشدة يمرره على لسان حيوان.

قد يكون ذلك في وعي الرافعي، ولكن في ظني أنه أكثر ميلًا لتشييد عوالم موازية. يمسك عدسة مكبرة مثل عالم فيلسوف، ليتأمل تحت مجهره – ومشرطه – عوالم قد لا تُرى بالعين المجردة، أو يمر بها الإنسان غير مبال.

يضع إنسانيتنا أمام مرايا العوالم الأخرى، يبصرنا بأنفسنا عبر نوافذ بعيدة. يخلخل نرجسيتنا التاريخية غير المبررة ويردنا إلى حجمنا الطبيعي والمأساوي.

إن تشييد تلك العوالم يقطع الصلة بالنظرة الكلاسيكية للأدب بوصفه محاكاة للواقع، ليجعله تجربة فريدة في التشييد والاكتشاف والتخييل. يكسر الإيهام والتوحد ويقدم “شخصيات من ورق” بتعبير بارت.

لا يضيف الكتاب حيوانات حقيقية إلى غابات العالم، بل يخترع حيوانات مُفكرة تعيش لحظتها التراجيدية. ولم يقل “غابة الحيوانات المتوهمة” بل “سيرك” تلك المفردة الاجتماعية والثقافية، بكل حمولتها من ألاعيب وفرجة وآلام مخفية. فالسيرك فضاء مضمر في خلفية النصوص.

لا يتجلى تجليًا حقيقيًا، ولا كفضاء مشترك لتنافس وصراع الحيوانات، إنه أقرب إلى خشبة مسرح غير مرئية، يظهر فوقها 30 حيوانًا، ليُلقي كل واحد منها مونولوغه الذاتي، ويبيّن صوته الداخلي العميق.

مقدمة تأمّلات

ينقسم الكتاب إلى جزءين أساسيين، الأول في نحو 30 صفحة تحت عنوان “تذاكر مجانية لدخول السيرك”، يضم 120 مقطعًا مرقمًا قصيرًا جدًا، أقرب إلى تأملات ومفاتيح لفهم التجربة السردية، من تلك المقاطع نقرأ: “القصة القصيرة أن تخفي بقرة داخل قبعة ساحر”، و”سيرك داخل بيضة معاصرة، وفوق البيضة طائر رخ أسطوري”، و”يوتوبيا الكتابة: تأليف دليل ميسر لهدم سيرك الداجلين في جميع ميادين الحياة والميتافزيقا”.

يمكن بطبيعة الحال تجاوز مقدمة التأملات هذه، والولوج مباشرة إلى جسد النص.

جسد النّص

يعتبر الجزء الثاني أساس التجربة، ويضم 30 مونولوغًا لثلاثين حيوانًا منها: القرش، التمساح، الحوت، البومة، الضبع، النمر، القرد، التنين، وآخرها: البقرة. وكل مونولوغ بمتوسط صفحتين مع الرسوم.

هذه الوجازة تكثف وتصفي التجربة الحيوانية الأزلية في موقف أو حالة أخيرة أو لحظة استبصار بالمأساة. دون أن ينسى الكاتب استعراض ثقافته وخبرته المعرفية بكل نوع يكتب عنه.

بهذا المعنى يجدد اتصاله بميراث الكتابة العربية عن الحيوانات، كما هي الحال عند ابن المقفع والجاحظ والدميري، ويضمن مؤلفه سطورًا تاريخية ومعرفية ولغوية وهوامش إذا لزم الأمر.

مع الفارق أنه لا يريد توصيل حقيقة علمية ـ وإن وجدت ـ ولا فائدة لغوية، بل يؤسس لتخييل سردي. بقدر ما يؤنسن حيواناته ويمنحها صوتًا، فإنه يُحيون الإنسان ويكشف عالمه الغريزي البشع. فكل حيوان سرده ـ بطريقة ما ـ هو إنسان ما. حالة سلوكية جديرة بالتأمل والفضح.

فالبومة المزينة على حائط تغادر تمركزها على الجدار لتلتهم الحيوانات الأليفة ثم تعود إلى مخبئها. ألا يفعل بعض البشر شيئًا مثل ذلك؟

إنها تأملات في الحيوان، بقدر ما هي تأملات في روح إنسان العصر الحديث وفضح حيونته، لدرجة أن الوحوش الكواسر تبدو جديرة بالتعاطف أكثر منه.

أماثيل

كرّر الرافعي في العنونة مونولوغ كذا… مونولوغ كذا، جريًا على نسق التأليف العربي القديم، وأضاف للحيوانات أسماء تبدو لاتينية مثل: مونولوغ القرش: “رينكودون تيبوس”، وهو استعراض ثقافي أو مسحة غموض شكلية، لأننا لو حذفنا تلك التعريفات اللاتينية فلن يتأثر النص.

وحدّد مفردة “المونولوغ” كشرط جمالي ناظم لكل العناوين، في اختيار طبيعي ومفهوم ما دام كل حيوان يتحدث عن نفسه، وحياته، ومأساته. يتداعى تداعيًا حرًا، بمنطق الطير والدواب والفرائس.

لكنها ليست مونولوغات حرة فحسب، بل أماثيل- جمع أمثولة – أي أقاصيص رمزية، تقول شيئًا آخر كامنًا وراء كل حكاية. وهذا تقليد متتبع في الخرافات وقصص الحيوانات من أيام إيسوب.

أماثيل الرافعي التخيليية ليست لعظة أخلاقية، ولا مضرب مثل جامع مانع، بل هي للتفكر. ليس ثمة خلاصة وحكمة جاهزة ينتهي بها كل نص، بل تفكر مفتوح يتباين بشأنه القراء.

فالشرطة التي تحقق في مقتل الحسناء الشقراء وتحلل جثتها، وتجمع الأدلة، لن تتوقع أبدًا، أن التمساح المختبئ في لوحة معلقة قد التهمها. فلا عيب في الأقفال ولا بصمات. مع ذلك أثبت الطبيب الشرعي في تقريره بأنها “تعرضت لعملية نهش كل من ساقها وذراعها”.

في نهاية المونولوغ يعترف التمساح بجريمته: “أجبرت على النزول بنفسي من داخل اللوحة الزيتية المستطيلة المعلقة فوق سرير نوم الحسناء الشقراء، كي أتذوق نوعًا وطعمًا آخرين من اللحم الشهي وغير الحيواني بالمرة”.

هل قصد النص أن يخبرنا أن الوحش حتى لو كان صورة، لا يفقد طبيعته الوحشية أبدًا؟ هل يخبرنا عن قوة التعويذة، والرعب الكامن في الصورة؟ فنحن ثقافة تمائم، تؤمن بحماية الكلمة والطلسم المخبوء في الملابس وتحت الوسائد.

أم أنه يكشف عن امّحاء الحدود بين الواقع والخيال، وتداخل العوالم مثلما يروى أن إمبراطورًا في الصين كان يسمع خرير الماء في اللوحة!

إنها نصوص مفتوحة على حرية التخييل والتأويل.

نهاية لاعب سيرك

بعد سرد مونولوغاته الثلاثين، يعاود الرافعي اقتباس منهجية التأليف العربي في وضع خاتمة بعنوان “كيف يمكن إغلاق السيرك”، عبارة عن صفحة واحدة، يحكي فيها أن الكاتب الإيطالي الشهير دينو بوتزاتي لم يمت ميتة طبيعية بسرطان البنكرياس، بل لأنه أمضى ثلاثة عقود في كتابة ورسم كتابه “حيوانات سحرية” وتتبع حيواتها المفترضة، فخرجت حيواناته والتهمته وهو قابع وراء آلته الراقنة من نوع “ريمنغتون”.

فكل كاتب بالضرورة هو منشئ “سيرك” ولا ينتهي السيرك المتخيل إلا بموت من تخيله.

*النهار