مثلما فعلت في حياتها المتمردة، فإن الشاعرة الروسية آنا أخماتوفا (1889-1966) لا تكف بعد رحيلها، عن مواصلة تحدي الحصار المفروض عليها، والإفلات من قبضة السلطة، وإن كانت في هذه المرة تقاوم سلطة “الموت”، ذلك الذي لم تكن تهابه في حياتها “ستأتي حتماً أيها الموت/ عما قريب، أو بعد حين/ أو ربما بعد وقت طويل/ فلماذا لا تأتي الآن؟/ أنا أنتظرك”.في رحلتها الاستثنائية، عرفت آنا كيف تجمع شراراتها الشعرية الجريئة معاً لتصير كرة نار متوهجة، لا تنطفئ ولا تتجمد في الجليد السوفياتي القاسي الذي أزعجته معارضتها للثورة البلشفية والممارسات الستالينية. وعلى رغم القمع والبوليس السري والقيود والرقابة وعيشها الدائم في خطر، هي وأسرتها، في وطنها الذي رفضت مغادرته في الواقع المرعب الكئيب “لم نعد نعرف غير الدم”، فإنها أطلقت كتاباتها المدوية كصرخة نبيلة، داخل الحدود وخارجها، متجاوزة الويلات المحيطة والظروف المأساوية، والحظر الذي فرض على قصائدها وقتاً طويلاً، لتصير واحدة من أبرز الفاعلين والمؤثرين في الشعر الروسي، وفي مسار الشعر العالمي الحديث.
وبعد نصف قرن على رحيلها عن عالمنا، لا يتوقف التفجر المقترن باسم آنا أخماتوفا، المشحون دائماً بالصخب والغضب، والمتعة والإدهاش ورفض السائد، والقدرة على التعبير والتغيير وإحداث الحراك الفني والمجتمعي. ويأتي هذا التأثير المتجدد، حتى يومنا هذا، لإمبراطورة الكلمة الحرة المنفلتة، “الملكة ذات الطابع المأساوي” كما وصفها الفيلسوف الدبلوماسي البريطاني السير إشعيا برلين (1909-1997)، من خلال الترجمات التي يتوالى صدورها بلغات متنوعة لأعمال آنا أخماتوفا، وسيرتها الإبداعية والشخصية.
إضاءات جديدة
هذه الترجمات المثمرة، وأحدثها “ملكة النيفا آنا أخماتوفا – مختارات شعرية شاملة” التي أنجزتها وقدمت لها اللبنانية أماني غيث (دار النهضة العربية، بيروت، 2023)، تلقي الضوء بكثافة على الشاعرة الروسية بما تستحقه من قيمة وثقل، كما تعيد اكتشافها ذاتياً وإنسانياً كمبدعة ومثقفة ومعارضة لعبت دوراً بارزاً في تعرية الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلادها، حيث كانت تصف ستالين بشجاعة بأنه أكبر جلاد في التاريخ. وقالت في رسالة وجهتها إليه عام 1935: “أعيش هنا منذ بداية الثورة، وأصر على البقاء في هذه الأرض، حيث قلبي وعقلي. في ليننغراد، أعيش في عزلة تامة وأمرض كثيراً، وأن يعتقل الشخصان الوحيدان المقربان مني، أرى في ذلك صفعة لا أستطيع تحملها. لست أعرف بأي تهمة قد أوقفا، لكنني ككلمة شرف، أجزم لك بأنهما ليسا فاشيين، ولا من الجواسيس أو المتمردين”، بحد ما تحرته أماني غيث في كتابها.
وتتعاظم أهمية مثل هذه الترجمات، إذ لا تزال هناك جوانب كثيرة من حياة آنا أخماتوفا وكتاباتها تتطلب مزيداً من البحث والتدقيق، إذ اضطرت في سنوات القمع والقهر والملاحقة إلى حرق جزء من أرشيفها، حيث جرى إعدام زوجها الأول الشاعر نيكولاي غوميليوف بتهمة التآمر، واقتيد ابنها للسجن، كما دمر النظام السوفياتي كثيراً من الوثائق المسجلة في ذلك الوقت، وناصب الشاعرة العداء لفترة طويلة، باعتبارها برجوازية وأرستقراطية، لكونها تنحدر من عائلة تنتمي إلى الطبقة العليا، وهي العائلة التي تحفظت في البداية على كتابة آنا الشعر باعتباره تلطيخاً لمقامها. فكان ردها الحاسم على أبيها المهندس البحري غورينكو “خذ اسمك، لست بحاجة إليه!”، واختارت لنفسها لقباً أدبياً هو أخماتوفا، وهو كنية جدة أمها “أميرة مسلمة من التتار”.
رفع الستار
في كتابها “ملكة النيفا”، ترفع أماني غيث الستار عن أمور كثيرة وجوانب خفية في حياة آنا أخماتوفا من خلال المقدمة الوافية للمترجمة، إلى جانب طرحها تاريخاً إبداعياً للشاعرة من خلال المختارات الشاملة. وقد اعتمدت المترجمة اللبنانية على مجموعة ضخمة من المراجع باللغة الفرنسية، إضافة إلى المقالات والرسائل الجامعية والمقابلات التلفزيونية وغير ذلك من المصادر الموثقة. وفي هذا كله، فإن البحث عن آنا أخماتوفا لم يكن غير إبحار من المترجمة وراء الشغف: “رغبت في معرفة كيف فكرت، وعمن أو عما كتبت، وهنا بدأت رحلة البحث لأتفاجأ بشاعرة بهذه الأهمية، وبنصوص وقصائد في منتهى الجمال والعمق والتأثير، لكن قليلة جداً أو معدومة الكتب العربية التي تناولت شعرها أو حياتها نظراً إلى الدور المهم الذي لعبته في القرن الـ20”.
من اللمحات الشخصية مثلاً التي يكشف عنها كتاب “ملكة النيفا”، ما تحكيه آنا أخماتوفا، من أن أهلها لم يحضروا زفافها، عندما تزوجت الشاعر نيكولاي غوميليوف، بسبب أنهم “يرون أن ابن الغوميليوف لا يليق بابنة الغورينكو!”. وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 1912 تلد آنا ابنها ليف وسط جو من الشجار مع زوجها، وقد قررا بعد ذلك الانفصال بينما كانت آنا تنتظر ولادة طفلها، وكتبا قصائد عن المعارك الزوجية، ولكن الطلاق يقع بين الشاعرين وطفلهما ليف عمره خمس سنوات، وتكتب آنا قصيدة “كان غيوراً وحنوناً… لكنه قتل عصفوري الأبيض”!
وتقدم أماني غيث الشاعرة آنا أخماتوفا بوصفها المرأة التي قدرت في أصعب فترة من التاريخ، في حقبة من الصمت وإبادة المثقفين، أن تكتب أهم دواوينها وتبكي في قصائدها الموتى من رفاقها ومواطنيها وتؤرخ نصف قرن من الدم “هي التي بفمها الصغير نقلت صرخات 100 مليون مواطن روسي”. وتكشف أنها “قد أحبت كافكا وبروست، وكرهت تشيخوف وفكتور هوغو (الوجداني)، وحفظت فرلين وأبولينير عن ظهر قلب، وعتبت على نظرة تولستوي الذكورية لبطلته آنا كارينينا، كما أخلصت طوال عمرها لبوشكين… ولشدة ما كانت تهوى مصر، فقد صدرت لها ترجمات عدة عن الشعر المصري القديم”.
وفي ما بين عامي 1920 و1922، يمكن وصف حياة آنا أخماتوفا بأنها مأساوية، حيث الفقر والجوع والظلام “لم يبق سوى الحمى، الجوع، الرصاص، والغرف المطفأة”. ومع تفاقم موجات الاعتقالات والمداهمات، تحدثت آنا بقوة عن الجواسيس والمخبرين، وسمتهم “الغربان السود”، ووصفت صوت أحذيتهم، والرعب الذي حاولوا أن يحدثوه، وتوجهت للمضطهدين وأبناء الشعب قائلة، “رغم كل شيء، أنا صوتكم”. وفي عام 1946، بعد أن اشتد انتقاد المؤسسة الرسمية لها، باعتبار أن “شعرها منحط، بلا أيديولوجيا”، تسرع آنا بحرق مجموعة من قصائدها وأوراقها كي لا تهدد حياة ابنها، وهي تردد “أنجبت ابناً للمعتقل”. وعندما يموت ستالين عام 1953، تصف فرحتها لأصدقائها بقولها “استيقظت أكثر من مرة هذه الليلة من فرط سعادتي”.
الشعري والنضالي
أحدثت كتابات آنا أخماتوفا ثورة في الكتابة التجديدية، ومضت الشاعرات يقلدنها كصاحبة مدرسة شعرية نسوية رائدة، إلى درجة أنها قالت “لقد علمت النساء كيف يتكلمن، لكني لا أعرف كيف أسكتهن!”. وقد مرت تجربتها الشعرية بمرحلتين أساسيتين، الأولى في بداياتها حتى عام 1925، وكانت مرحلة الكتابة حول موضوعات شخصية وعاطفية مع الالتفات إلى الطبيعة، كما في قصيدتها “أغنية عن الأغنية”، عام 1916 “مثل نسمة باردة في بدايتها/ سأولد ثم أحترق/ ثم أسقط في قلبك/ مثل دمعة مالحة”.
أما المرحلة الثانية، فقد استمرت حتى رحيلها، حيث سيطرت عليها النزعة النضالية والاجتماعية ونقد الواقع الروسي في حس إنساني ورؤية جمالية. ويأتي “قداس جنائزي”، عملها البارز في نهاية الثلاثينيات، ليمثل صورة ناضجة لهذه المرحلة التي تنفتح فيها ذاتها المكلومة على الشأن العام والهم البشري الممتد من الأرض إلى السماء “أمام حزن كهذا، تنحني الجبال/ وأمام حزن كهذا، يتوقف النهر الكبير عن الجريان/ في أروقة السجون إقفال قاسية/ وخلف الجدران، جحور يدفن فيها عذاب مميت/ في داخلها هناك من يفتقد النسمات المنعشة، ومن اشتاق للشمس والحنان/… / كنا نصحو كأننا ذاهبون إلى قداس مبكر/ ونعبر العاصمة المتوحشة/ نستقبل فيها الجثث، والشمس المنخفضة، وضباب النيفا/ بينما يغني الأمل العاري من بعيد”.
وفي سنواتها الأخيرة، في الستينيات، تميل قصائد أنا أخماتوفا إلى قدر أكبر من النقاء والتجريد، والتحلل من المناسبات والإشارات المباشرة، حيث يهدأ مع امتداد العمر صوت النار في الذاكرة، ويبدأ الإصغاء الشعري المتعمق إلى همس الرماد والأدخنة “بدلاً من التمنيات بعيد سعيد/ هذه الريح القاسية والجافة/ ستحمل إليك رائحة التعفن فقط/ ودخان قصائد تشتعل/ كنت قد كتبتها بيدي”.
*اندبندنت