قبل أكثر من عشرة أعوام، عادت المخرجة السورية هالة العبد الله إلى دمشق في زيارة قصيرة. وهناك توجهت إلى منزل المخرج عمر أميرالاي، الذي ربطتها به علاقة صداقة طويلة وزمالة عمل سينمائية. لم يكن في خطتها أن تشرع في التصوير، خصوصاً أنها كانت بلا معدات ولا طاقم عمل، أرادت فقط أن تخبره برغبة راودتها لوقت طويل في عمل فيلم وثائقي عنه. لكن، ولسبب ما، بدا صديقها مستعداً ساعتها.
يبدأ الفيلم الوثائقي”عمر أميرالاي: الحزن والزمن والصمت”(2021)، بسلسلة من الكلمات، تلقيها مخرجته هالة العبد الله بصوتها، في ما يشبه التداعي الحر: ثنائيات متناقضة، “الملتزم” و”اللامبالي”.. وتنويعات على معانٍ متقاربة، وإن كانت لا تعني الشيء نفسه، “ملتزم” و”مبالي”، تمهد تلك المقدمة إلى ما سيطلق عليه أميرالاي نفسه، تسمية الاعتراف، وما ستشير إليه العبدالله على أنه وصية منه ورسالة منها إليه.
ما الذي يشعر به المخرج حين يغادر موقعه خلف الكاميرا، ليصير أمامها؟ أي علاقة جديدة تنشأ بينه وبين سلطة العدسة، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين الآخرين؟ يملأ حضور أميرالاي الهادئ، الشاشة، بابتسامته الواثقة في تواضع، وتعابير وجهه البشوشة والمتأملة، إلا أن ارتباكاً متبادلاً لا يمكن أخفاؤه يطفو على السطح. يصرح أميرالاي بشعوره المفاجئ بالهشاشة، أي كيف يصبح هو المفعول به هذ المرة. أما كاميرا العبد الله، بحركاتها المفاجئة وكادراتها غير المنمقة في البداية، فتشي بقدر من التوتر، أو ربما بعدم احترافية متعمدة، أريحية تسحب الجميع بهدوء إلى الاستسلام لمفاعيل كاميرا محبة وحميمة.
لا يحدث الكثير في الفيلم، أو هذا ما يبدو عليه الأمر، يجلس أميرالاي أمام الكاميرا الموجهة إليه من زاوية منخفضة قليلاً، ويسترسل في الحديث قليلاً عن شعوره بالاغتراب بحكم النشأة، بفهمه للهامش، أي أن تكون جزءاً من شيء، لكن خارجه في الوقت نفسه. ببساطة لا ينقصها العمق، يتحدث عن قناعاته بخصوص السينما، وكيف تحولت مع الزمن، من الجماليات الماركسية، والكاميرا التي تطلق 24 طلقة في الثانية، إلى فهم للوعي لا يرفض الذاتي، ولا يعتبره طفيلياً. مع ذلك، يحتفظ أميرالاي ببعض من طوباويته، ويجد في الذاتية وتقاطعها مع السينما الوثائقية، طريقة لكشف واقع آخر. فخلافاً للسينما الروائية، حيث يتقمص الممثلون أدواراً، يتوجه الوثائقي إلى أفراد واقعيين، تعمل الكاميرا معهم للكشف عما وراء أدوارهم في العالم الحقيقي. تخلق السينما هنا علاقات جديدة بين موضوعاتها وصنّاعها، والمشاهدين أيضاً. فهل هذا ما كانت تفعله كاميرا العبدلله؟
ما يبدو كوثائقي جيد عن المسيرة المهنية لمخرج معروف، يبدأ في الانزياح ببطء إلى وجهة أخرى، الستارة التي تركز عليها الكاميرا، بتردد كل حين وآخر، تشرع في الكشف عن بعض مما خلفها. عاد أميرالاي من باريس إلى دمشق قبلها بعامين، لرعاية والدته المسنة التي تعاني الخرف. لا تمسك العبد لله بزمام الأمور دائماً، فأميرالاي الراغب في توثيق هذا الاحتضار، وغير القادر على تحمل ألمه، يدفع صديقته القديمة إلى القيام بالمهمة، ويدعوها للتصوير، لتقف الكاميرا من بعيد فتلتقط شبح الجسد المسجي والمنطفىء. يسأل أميرالاي العبدلله، إن كانت تستطيع التعرف على الأم، هل هي المرأة ذاتها التي عرفتها في الماضي مفعمة بالحياة؟ ويعيد السؤال عن نفسه، هل سيأتي أحدهم يوماً لتصويره في خرفه الأخير، فلا يتعرف عليه أحد حينها؟ وكأن أميرالاي يحث العبدالله على توثيق احتضاره الخاص، الواعي فيه (وليس به) لحسن الحظ، والمفعم بشعور بالواجب وبأسى على إفلات الزمن.
في تحول آخر، تكشف نوبات الهلاوس التي تصيب الأم، العلاقة المأزومة بينها وبين أميرالاي في الماضي. علاقة يحكمها الهوس بالتملك والاستئثار، وتسعى لإفساد علاقاته العاطفية. في واحدة من تلك النوبات، تستيقظ الأم في منتصف الليل فزعة، وتحاول الخروج إلى الشارع للبحث عن ابنها الذي هُيئ لها أن الأمن ألقى القبض عليه. يمحو الخرف الذاكرة والإدراك، فلا تستطيع حتى التعرف على ابنها أو تحديد الوقت، لكن الفزع من السلطة هو ما يظل محفوراً بعمق على حواف الموت. لماذا ترك أميرال باريس إذاً، عائداً إلى سوريا المخيفة تلك؟ إلى سوريا التي منع نظامها أفلامه واحداً بعد الآخر؟ هل كان السبب هو أمه فقط؟
رويداً رويداً، يظهر لنا وكأن نوعاً فريداً من الالتزام هو ما يحرك كل شيء، التزام طوباوي وشخصي، يقف في منتصف الطريق بين الوفاء والعناد. الأم التي تعاود الذهاب إلى مكان عملها فيما تطوقه دبابات انقلاب بعد آخر، أفلام أميرالاي التي يصر على إنتاجها على مدى أربعة عقود على الرغم من الرقابة، العودات إلى دمشق مع الرعب، تكريس نفسه لرعاية الأم في ما يشبه التضحية الكاملة، بل وحتى فيلم العبد الله عنه المفعم بالحنان،.. كلها صكوك لهذا الوفاء.
على خلفية ضجيج الحفّارات المزعج في الخارج، يسال أميرالاي صديقته بوجه مستاء ومستنكر: بتحبي دمشق؟ كان هو من ألح على العبدالله مراراً أن تعود للاستقرار فيها، وهو من شجعها على شراء بيت فيها. لا تجيب هي على السؤال، لكنها تعود مرة واحدة وأخيرة إلى دمشق، حتى تحضر جنازته، لتودعه ولتودع، من دون أن تدري، وطناً ستصبح غير قادرة على الرجوع إليه. فقبل أسابيع من اندلاع الثورة السورية، رحل أميرالاي فجأة بعد وفاة والدته بفترة قصيرة. وكأنه انتظر حتى يفي بالتزامه الأخير.
*المدن