“يا سيدنا نوح… خَلص روح من روح”، تنشد القابلة اليهودية ميمي بير، بالعربية (وربما بالعبرية أيضاً)، وهي تحمل الطفل النحيف المولود تواً. إدوارد اسم الولد، الذي سيحتاج رعاية خاصة بسبب وزنه الأقل كثيراً من العادي. وسيقدمها له، الطبيب الألماني، غرون فيلدر، يهودي آخر. “لا تسألني لماذا؟” تكتب الأم في يومياتها، عن سبب تسميته، “كان هناك الكثير من الكلام عن إدوارد، أمير ويلز. واخترنا هذا الاسم، ومع هذا فإن إدوارد البالغ كَرِهَه، وكان ليفضل اسماً عربياً”.
كان أصدقاؤه ينادونه “أبو وديع” من باب المداعبة، أما “إدواردو” فكان من اختيار الـ”إف بي آي” لتستخدمه في الإشارة إليه في ملفها عنه، وهو عبارة عن 238 صفحة، كانت حرب الكونترا في أوجها نهاية السبعينات، واسم لاتيني كان الأقرب إلى الذهن لوصف “إرهابي”.
يقدم الأكاديمي الأميركي، تيموثي برينان، في كتابه “أمكنة العقل: حياة إدوارد سعيد” (2021) المزيد من التفاصيل الشخصية عن أستاذه السابق، معتمداً على مئات المصادر واللقاءات والشهادات والوثائق الأولية: روتينه اليومي في الكتابة، ماكينة القهوة غالية الثمن التي لم يكن يسمح لغيره بلمسها، عادة تجهيزه الإفطار لزوجته كل صباح، بعض القصص الهامشية عن “موجات المعجبات”، اضطراب قلق المرض الذي عاناه طوال حياته، ملخص لرواية غير مكتملة، شغفه السري بأفلام الأكشن الأميركية، وبأفلام “مونتي بايثون” التي كان يحفظها عن ظهر قلب تقريباً، جلساته الأسبوعية مع الطبيب النفسي، قصة قصيرة وحيدة كتبها ورفضتها مجلة “نيويوركر”، موجات غضبه المتكررة، الولع بمصارعة الثيران، ذوقه المكلف في الملابس، مراسلاته الخاصة، وحتى إلى ما قبل وفاته بشهر واحد، حين نقرأ رسالة من الأكاديمي الباكستاني إقبال أحمد، يصفه فيها بمداعبة ساخرة: “ابن فلسطين، قمر فوق القدس، نور الساميين، لاجئ العالم، ظل الرب على الأرض”.
خارج المكان
يختار برينان عنواناً لكتابه يحيلنا إلى مذكرات سعيد نفسه، المعنونة “خارج المكان”، ساعياً لإعادة موضعته في الأماكن التي انتمى لها وكان في الداخل منها، لا عبر رواية شخصية، بل سيرة فكرية في معظمها، تتخللها بعض التفاصيل الحياتية. يعدّ “أمكنة العقل”، إدوارد سعيد، مع سوزان سونتاغ ونعوم تشومسكي وحنة آرندت، كواحد من أكثر المفكرين تأثيراً في الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وفي الوقت ذاته، لا يهمل دوره السياسي في النضال الفلسطيني، ونجاحه بـ”مفرده تماماً”، بحسب الكاتب، في قلب معايير السجال في الخطاب العام الأميركي، فبفضله لم تعد الصهيونية موضوعاً مقدساً بل قضية قابلة للنقد والهجوم بكل أريحية في “الأوساط المحترمة”، أو بحسب منتقديه نجح في تحويل “جليات إلى داود”.
الطرق التي أثر بها عمل سعيد العام في بحثه الأكاديمي والعكس، وتلك الأمكنة الفكرية التي جاءت منها تلك التأثيرات، هو موضوع الكتاب الرئيس. من كتابه الأول عن جوزف كونراد، يرصد برينان دور سعيد الجوهري في تقديم أفكار ما بعد البنيوية الفرنسية، وأفكار ميشال فوكو وجاك دريدا وجيل دولوز تحديداً، إلى الأكاديميا الأميركية، ليقوم “بوضع الأدب الإنكليزي في مواجهة الفلسفة القارية”. مشروع سعيد لإصدار كتاب عن جوناثان سويفت لم يكلل بالنجاح، بسبب تورطه المتزايد في العمل السياسي بعد العام 1967، وبدلاً من ذلك نشر كتابه “البدايات” (1975) الذي شكل مانفيستو لدور المثقف في المجال العام، وللعلاقة بين السياسة والخطاب، ليضع فيه الكثير من أفكاره عن سويفت بشكل غير مباشر. أما “الاستشراق” (1978)، كتابه الأهم، ففيه لا يفتتح سعيد فقط حقلاً أكاديمياً شديد الاتساع، هو دراسات مع بعد الاستعمار، بل أيضاً ينجح في إثبات العواقب السياسية للعلوم الإنسانية، في جعل الناقد الأدبي، لا الصحافي أو السياسي، هو المسؤول عن دراسة التمثيل، والأقدر على كشف قوة وكثافة ومرجعية الخطاب. وبعد أقل من عامين، وخلال أزمة الرهائن الإيرانية، يكتب سعيد كتابه “تغطية الإسلام” (1980) مطبقاً بنيته النقدية على مجال الإعلام هذه المرة، مستشرفاً في وقت مبكر جداً وبوعي شديد الوضوح، أنماطاً لتمثيل الإسلام والمسلمين، تظل مهيمنة حتى اليوم.
لا أؤمن بتسييس الفصل الدراسي
لكن إنتاج سعيد الغزير، وتنقله بين الكتابة الأكاديمية والنصوص الموجهة للعامة، واتساع مدى موضوعاته التي تجاوزت الأدب والسياسة والفلسفة، إلى الموسيقى والفنون التشكيلية، لا يجب أن يغيب عنا أنه كان أستاذاً جامعياً قبل أي شيء آخر، وأستاذاً في الأدب الانكليزي على وجه التحديد. فأهم ما يكشفه عنه “كل الأماكن” هو ذلك الوجه تحديداً، أي الأستاذ الجامعي، ابن المنظومة الأكاديمية الأميركية، والذي وإن كان أكثر المبشرين حماسة بدور الأكاديمي في صياغة الخطاب العام، فإنه لم يسمح بأن تكون غرفة التدريس الجامعي ساحة للسياسة، واضعاً حدوداً حازمة بين السياسي في الدور البحثي للأكاديمي، وبين اللاسياسي في ممارسته اليومية داخل الصف الدراسي. فأثناء الفورة السياسية في الستينيات، حاول بعض الطلبة مقاطعة محاضرته، وكان رد فعله بحسب برينان، “الصف هو آخر مكان لشن حرب ضد الدولة… على الرغم من العدالة الواضحة لقضية الطلاب، فلا ينبغي تعطيل الحياة الفكرية”. وبعدها بأعوام طويلة يقول سعيد بطريقة أكثر وضوحًا: “خلال ثلاثين عامًا من التدريس، لم يسبق لي أن درّست صفاً عن الشرق الأوسط. أنا لا أؤمن بتسييس الصف الدراسي”.
ينجح “أمكنة العقل” في الكشف عن تلك التقاطعات والانقطاعات والمسافات الشاسعة بين كل المواقع والأماكن والجغرافيات والتقاليد الفكرية التي انتمي لها سعيد وتحرك بينها بلا هوادة، وكذا التوترات والتناقضات والاحتكاكات التي ترتبت عليها في مسيرته وإنتاجه. حاول برينان في كل هذا أن يكون محايداً ومنصفاً قدر الإمكان، موجهاً الكثير من النقد لأستاذه السابق كلما وجد ذلك واجباً، وإن لم يخفِ هذا دفقات من المحبة تسري في الكتاب من أوله إلى آخره.
*المدن