شادي لويس: آني إرنو: الخيار الآمن لنوبل ضد “الأدب الحقيقي”

0

“أغامر بتفسير الكتابة: هي الملاذ الأخير لمن خان”، بذلك الاستشهاد من جان جينيه، تفتتح آني إرنو واحدة من أكثر رواياتها شهرة، “المكان”. الخيانة كما تطرحها هنا مزدوجة. أوّلها في مسار الترقي من مقام “الناس البسطاء” الذي ينتمي والداها إليه، صعوداً إلى البرجوازية الصغيرة. هذا ما يدور حوله نص “المكان”، على الأقل على السطح، وكأنه تعليق أدبي على نظريات “هابيتوس” بيار بورديو السوسيولوجية. أما الخيانة الثانية فهي الموضوع المفتاحي في الحقيقة، المدخل الذي يتيح للقارئ الولوج إلى استراتيجيات إرنو الكتابية، “الكتابة البيضاء” كما تصفها هي. تكتب هي عن خيانتها العائلية، ذات الطبيعة الطبقية، لكنها، في الوقت ذاته، تحول الكتابة نفسها إلى فعل خيانة ضد طبقتها الجديدة، وهي تتنكر لرأسمالها الثقافي، كمعلمة للأدب، ومنتمية للطبقة الوسطى، تتحدث الفرنسية القياسية، لا لهجة الأقاليم التي تحدثها أجدادها.

ذلك التنكر في أحد وجوهه، فعل تكفير عن المسافة التي وقعت بينها وبينهم في فترة المراهقة، “المسافة الطبقية”، والهدف هو “رد الاعتبار لنمط حياة يُنظر إليه على أنه أدني” ولنمط لغة، حديثاً وكتابة. لذا، وحين يختص السرد بحياة متقشفة وخاضعة للضرورة كحياة والدها، تقول هي “لا حق لي أن أنحاز للفن”، فيكون المتاح أمامها “كتابة مسطحة تأتيني تلقائياً”، “كتابة محايدة، بلا حنين، وبلا تواطؤ مع كاتب مثقف”. وبفض هذا التواطؤ المفترض في كل نص ثقافي، تكتمل خيانتها، بغية إعطاء صورة سليمة لـ”رجل عادي”. لكن، في أي محل تضع هي هذه الصورة؟

تهجر إرنو الأدب “الحقيقي” (علامات التنصيص للكاتبة)، الممثَّل في أبيات هنري دي رينييه، وتطوع بدلاً منها لغة تقريرية، بلا “جُمل كبيرة وعبارات جديدة” وبلا “جُمل أسلوبية تخلق المسافة بيننا”، وذلك في سبيل “مهمة أخلاقية وسياسية”. إلا أن هذا ليس كل شيء، فتلك اللغة التي تكتب بها، ليست تلقائية حقاً، ولا هي لغة “الناس الطيبين” كما توحي لنا، بل هي “اكتشاف ينتمي للتحليل الاجتماعي والجماليات معاً”.

“فعل الكتابة هنا، ربما لا يختلف كثيراً عن حركة شك الإبر”، في أحد تعليقاتها الشارحة في روايتها القصيرة، “الاحتلال”، تعيد إرنو تفسير الكتابة، كأذى شعائري وكنوع من هوس، مثل امرأة تثقب عروسة ورقية في طقس من سحر الفودو، بضغينة تجاه غريمة مجهولة تحظى برفقة عشيقها السابق. فكما لا تخجل من الطبقي، لا تستحي من تعرية نفسها كامرأة، مسكونة بأعمق أشكال الألم واللذة والاضطراب والشهوة. في أحد مقاطع، رواياتها “التيه”، ترسم مشهداً للجنس الفموي، هو الأكثر وصفية ومباشرة وكثافة. وفي افتتاحية “الاحتلال”، تتركنا مع عبارة متقشفة، لكن لها مفعولاً أقرب إلى السحر في مدى حميميتها، “كانت حركتي الأولى عند الاستيقاظ صباحاً، الإمساك بقضيبه المنتصب، جراء خلوده للنوم”.

أما في عملها الأكثر اكتمالاً، “الأعوام”، فهي تفعل ما فعلته دائماً في السابق، لكن بطريقة أكثر إحكاماً وبطموح ملحمي، بجمع تلك القصاصات من السيرة الذاتية والعائلية، الممتدة من الاحتلال النازي القصير لفرنسا وأهوال حرب الجزائر، إلى ثورة 68 وما بعدها، حتى استهلاكية القرن الجديد، لترسم مساراً لانزياحات السياسة والثقافة والاجتماع في بلدها، بعين ترى التاريخي كشأن سوسيولوجي، والاقتصادي كأساس لحركتهما.

لكن هل ما تكتبه إرنو أدب حقاً؟ أم سيرة ذاتية، أو “تأملات ذات رنين أنثروبولوجي” كما يصفها إسكندر حبش، مترجمها إلى العربية؟ في عدد من لقاءاتها الصحافية، ترفض إرنو تصنيف أعمالها في خانة “التخييل الذاتي”، فما تكتبه هو سيرة ذاتية محضة. في الإنكليزية، رفض ناشرون ونقاد ومديرو مكتبات، لوقت طويل، الاعتراف بأدبية عملها، ووضعت كتبها على رفوف “غير الخيالي”.

بعد سلسلة من الفضائح، تسعى نوبل لخيارات آمنة وصائبة سياسياً، وإن كانت لا تخلو من مغامرة صغيرة. مثل منح الجائزة للبيلاروسية سفيتلانا اليكسيفيتش بأدبها الوثائقي، وبوب ديلان بأغانيه، يبدو اختيار إرنو هذا العام تأكيداً على سلطة نوبل في ترسيم حدود الأدبي وتوسيع رقعته. لكن تلك المغامرة تظل رمزية، وفي أضيق الحدود. فإرنو، بالإضافة إلى تمتعها باعتراف النقاد والمؤسسة الثقافية، هي واحدة من أكثر الكتّاب جماهيرية في فرنسا ومدارها الفرانكوفوني.

*المدن