في وقت مضى، قرأت كامو، لا تزال لرواية «الغريب» تلك اللمعة الحارقة، لم تخب بعد، سيرورة زمن بطيء، سكون مبهم، شمس حارة حارقة، وطنين وذباب وزرقة بحر لا تعني شيئا، ثم إن أمه ماتت في الملجأ الذي لم يزرها فيه إلا لماما، لا يبدو عليه الحزن، ربما اللامبالاة أصدق كلمة، أمسك بندقيته وصوبها ببرود، قتل الأعرابي البريء، الذي لم يره يوما، لا لسبب، سوى أنه يشعر بالملل من شمس البحر الحارقة.
أقرأ اليوم كامو من جديد، أدخل عالمه، عالما موحشا تعسا، أرى فيه الإنسان يجول وحيدا ضائعا، في عالم مليء بالعبثية واللامعقول. أعترف أن عبثيته استفزتني، أثارت لديّ الفضول، أردت بقوة استقراء هذا العالم، ليس سهلاً الدخول إلى عالم متخم بالغموض والشك والألم، غير أنه ممتع وثري، غني بعوالم الإنسان الجوانية، يجيب على كثير من الأسئلة التي ترافق الوجود الإنساني.
توقفت عند رواياته: «الغريب» «الطاعون» «السقطة» وفي جميعها، كان العالم يبدو دائما تحت سطوة هائلة من الملل والوحشة، متشحا بغلالة سوداء، ينكمش فيه الإنسان داخل ذاته، محاصرا بالبؤس واللاجدوى، وربما يقود إلى الجريمة أو الانتحار.
فهل ينتحر الإنسان إزاء كل هذا العبث! وكيف يواجه هذا الشقاء الإنساني غير المحدود؟ لماذا هذا العالم العبثي اللامعقول؟ هل هو الزمن القاتم وفقدان الأمل وبداية أزمنة اليأس؟ استيقظت البشرية غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، على عالم مهول بالبؤس، والخزي والعار والموت والفقر والمجاعة والقتل، وظهر فيه الفرد وحيدا ضائعا يبحث عن مآل، في ما حل بالعالم من دمار. هذا السقوط المرعب للإنسان، مهد الطريق لزمن متخم بالإحباط، وظهور فلسفة وجودية، تعبر عن يأس الإنسان في البحث عن أمل آخر وهو «الفلسفة العبثية» كان ألبير كامو أبرز رواده. جولة قصيرة بين فلسفته ورواياته ندرك عمق ما أنتجه:
«أسطورة سيزيف» 1942 و«المتمرد» 1951، كتابان يوضحان فلسفة كامو، فلسفة تقوم على فكرتين رئيسيتين هما، العبثية والتمرد، إذ يتخذ من أسطورة سيزيف رمزاً لوضع الإنسان العبثي في الوجود، وسيزيف هو هذا الرجل الذي قدّر عليه أن يصعد الجبل حاملا صخرته إلى قمته، هذه الصخرة التي ما تنفك تسقط متدحرجة إلى السفح، فيضطر إلى الصعود بها من جديد، وهكذا دواليك، وللأبد. يرى كامو في هذا المشهد، صيرورة حياتنا، الإنسان الذي قدر عليه الشقاء بلا جدوى، وقُدّرت عليه الحياة بلا طائل. فهل ينتحر؟ لا.. هو ضد فكرة الانتحار
يجيب كامو على هذا السؤال، في كتابه «الإنسان المتمرد».. لا! ليس الانتحار، الحل هو في التمرد على اللامعقول من الحياة. فكرة الكتاب الأساسية تدور حول التمرد، اعتراضاً على نوع معين من الظلم والعبودية وإبطال هذه القوة المستبدة عليه.
الكاتب يعّرف التمرد، ثم يضرب لنا عدة أمثلة عليه، منذ بداية الخليقة حتى وقتنا هذا، وبعدها يفسر لنا بعض المناهج والمصطلحات الفلسفية، حيث جعل ألبير كامو نفسه شخصية فنية تحمل الكثير من الأبعاد منها الناقد والمحقق والمؤرخ والفيلسوف والمحلل السياسي والاقتصادي، هذا هو الإنسان المتمرد، في رؤية كامو، إنه الإنسان الذي يقول لا.. إنه دون كيشوت جديد، يصارع طواحين الهواء.. يشعر بالسعادة، لأنه يتمرد بالأمل، لا بد من أن يصل إلى قمة الجبل في النهاية، وفي كل هذا يعيش حياته وحريته وألمه وثورته كما يرغب.
وفي روايته «السقطة» أسهب كامو في تحليل سطوة غول العبث. نشرت لأول مرة في عام 1956، تعتبر آخر عمل متكامل له، تسلط الضوء على مشاكل الضمير الإنساني في العصر الحديث، تدور أحداثها في أمستردام.. وتتكون الرواية من سلسلة من المونولوجات الدرامية، على لسان «قاض تائب» حيث يكشف سيرة حياته إلى شخص غريب، يجلس معه في بار، يتحدث فيها عن نجاحه باعتباره محامي دفاع، عن قضايا الأرامل والأيتام والفقراء، يصور نفسه، بأنه كان يعيش بشكل خالص من أجل خدمة الآخرين «إن هذا يعني إنجازا أكثر من مجرد المطامح العادية التي يرنو إليها الأشخاص العاديون، ويعني السمو إلى القمة العليا حيث الفضيلة». لكنه يعترف بإخفاقه في القيام بأي محاولة لمساعدة امرأة، رآها في إحدى الليالي وهو يعبر الجسر، تحاول أن ترمي بنفسها من أعلى الجسر، لقد سمع صوت اصطدام الجسم بالماء. لم يتحرك، لم يفعل شيئا، تابع طريقه، ويعلل ذلك بسبب البرد والصدمة، حتى إنه لم يلتفت لمعرفة ما يجري.
«كان صوت الصراخ قد تكرر عدة مرات، لشخص يغرق، ثم توقف فجأة. وحين سكن الليل فجأة، لاح الصمت الذي تبع ذلك وكأنه صمت أبدي، وأردت الركض لكني لم أتحرك بمقدار بوصة. وكنت أرتعد، أعتقد كان ذلك بسبب البرد والصدمة. وقلت لنفسي عليّ أن أسرع، وشعرت بضعف لا يقاوم يسيطر عليّ. لقد نسيت ماذا كان تفكيري آنذاك. فات الأوان، كان هذا أبعد من المستطاع.. أو أنه كان شيئا من هذا القبيل. وكنت ما أزال أصغي بينما كنت واقفا بلا حراك، ثم مضيت في طريقي، ببطء، تحت المطر، ولم أخبر أحدا بذلك».
كان ذلك إنذارا بسقوطه من أعلى قمم مجتمع باريس الارستقراطي إلى عالم أمستردام المظلم الكئيب والمليء بالرذيلة..
«الطاعون» رواية كلاسيكية وجودية، نُشرت عام 1947، بنيت على جائحة الكوليرا، التي اكتسحت مدينة وهران الجزائرية عام 1849، تطرح الرواية عددا من الأسئلة المتعلقة بطبيعة القدر والحالة البشرية.
يعمل ريو على مكافحة الطاعون، لأنه طبيب ببساطة ووظيفته التخفيف من المعاناة البشرية. لا يفعل ذلك من أجل أي غاية دينية عظمى، أو كجزء من نظام أخلاقي سامٍ، هو رجل عملي، يفعل ما يجب فعله دون أي اعتراض، لكنه يعرف أن مقارعة الموت أمر لا يمكنه الفوز فيه أبدا.
يحضرني هذا السؤال، هل اليوم شبيه بالأمس؟
حيث يبدو فيه العالم قرية صغيرة، تبحر كأسطورة غامضة، مجللة بالسكون والكآبة، غزتها حروب وأزمات ودمار، وسيطر عليها وباء أعمى، ظهر فيها الإنسان ضعيفا وحائراً، وقد اخترق كبريائه وعنجهيته، فيروس غير مرئي، ومهما كانت حدة التناقض وافتراض الأسباب، بدا فيه نزيل الحلم الإنساني، مسربلا بالعار مقموعا بالعجز، تلاحقه لعنة شهوة الامتلاك الجامح، وفي لحظة يتذكر بعده الإنساني. فيبكي،
فانتازيا مرعبة، لكنها حقيقية
فهل هناك من يحمل الصخرة على ظهره، ويصعد بها الجبل ولو تدحرجت آلاف المرات، لإعادة الأمل والأمان إلى العالم؟
هذا هو عالم كامو، كما تراءى لي، من خلال قراءتي المتواضعة، عالم غني، زاخر بالألم والعمق الإنساني، يحمل في طياته أسئلة الوجود الكبرى، هل استطاع الإجابة عليها؟ في رأيي لم يفعل، من الصعب أن يفعل، ربما يكمن الجواب في احتمال آخر، بسيط وعفوي، هو الإيمان واليقين.
العجيب في الأمر أن هذا الرجل، الذي قضى حياته، يتحدث عن الألم والموت والعبث والتمرد والعدم، أن موتا طارئا سريعا عبثيا وعاديا، كمن له في طريق عودته إلى باريس، قضى به، ابتلعته تلك العتمة الظالمة التي طالما تحدث عنها، وهو في ريعان شبابه وقمة عطائه.
(القدس العربي)