قراءة في رواية سيناريو لسليم البيك
نور عباس
ناقدة سورية
مجلة أوراق- العدد 17-18
أوراق النقد
يمكننا تقسيم مضمون هذه الرواية الصادرة حديثاً إلى ثلاثة مراحل نصية:
المرحلة البصرية:
تبدأ الرواية في سياق مكاني محدد وهو المقهى، ويتميز هذا المكان بأنّه مكان وظيفي، خدمي، متجدد بشرياً، إذ يحتضن أفراداً متمايزين، مدة زمنية محددة، ليُستبدلوا، تباعاً، بأفراد آخرين، وذلك بصورة تلقائية طبيعية، وقد يحدث أحياناً أن يرتبط شخص ما، نفسياً، بهذا المكان، فيغدو تواتره عليه مستمراً، ويتحول عنده إلى مكان ارتيادي ثابت نسبياً.
وقد التقى في هذا المكان شخصيتان: كريم، وشخصية _ سنعرف اسمها لاحقاً_ شارلوت، هاتان الشخصيتان متمايزتان، فكريم شخصية طارئة على السياق المكاني العام، فهو ذو خلفية لجوئية متراكمة، أوصله التراكم اللجوئي الممتد إلى فرنسا، وشارلوت هي ابنة المكان العمومي، إذ لم تختبر الحركة اللجوئية التي اختبرها كريم.
ويتميز هذا اللقاء، بدايةً، بأنّه لقاء تواصلي، بصري، متأثر بهندسة المكان، فكريم كان يحاول التقاط تفاصيل شارلوت، بصرياً، من دون أن تنتبه لهذه الحركة البصرية المراوغة التي تحاول التقاطها،
إلا أنّ التوزع الهندسي للشخصيتين داخل المكان منع كريم من التقاط الصورة البصرية لشارلوت التقاطاً كاملاً من دون أن يثير انتباهها، لذلك كان لا بدّ له من أن يتموضع، مكانياً، في سياق أبعد قليلاً يمكنه من رؤية شارلوت بصيغة غير مجتزأة.
ويحضر أيضاً عنصر هندسي آخر ضمن الفراغ المكاني ألا وهو الحاجز الزجاجي, الذي يفصل الحيز الداخلي للفراغ عن الحيز الخارجي، هذا الحاجز الزجاجي لم يكن يراقب كريم من خلاله حركة الذوات المجهولة المتحركة خارج الحد الزجاجي، بل كان يراقب أيضاً حركة شارلوت المُنتقلة من فضاء المكان الداخلي إلى فضائه الخارجي لتسير مثل أي ذات مجهولة في السياق العمومي، والمُنتقلة أيضاً انتقالاً عكسياً من الفضاء العمومي الممتلئ بالآخر إلى فضاء المقهى الداخلي الأكثر حميمية.
تتحول الرواية إلى مستوى آخر عندما ينقل كريم هذه العلاقة البصرية البدائية بينه وبين شارلوت من المستوى الواقعي إلى المستوى التخييلي، إذ سيقرر إدخال شارلوت إلى مذكراته اليومية، وجعلها تعيش معه، نصياً، حياة موازية للحياة العلائقية السطحية ضمن المقهى.
إلا أنّ هذا القرار اصطدم عند كريم بعدم معرفته لاسم شارلوت ، فهو يعرف تفاصيلها الشكلية، وطريقة جلوسها، ومشروبها المفضل، لكنه لا يعرف هويتها الاسمية، لذلك كان لا بدّ له من أن يسألها عن اسمها, فهو لا يريد أن يبدأ نصه التخييلي باسم متخيل، بل يريد أن ينسج حياة تخييلية لذات لها هوية اسمية واضحة.
إنّ هذه العلاقة البصرية التواصلية المنتقلة إلى المستوى النصي التخييلي وضحت لنا إشكالية مهمة في حياة كريم، فمنذ وصوله إلى فرنسا كانت له علاقات عدة مع نساء مختلفات، ولاسيما كلارا، إلا أنّ هذه العلاقات كانت فقط على المستوى الجسدي من دون أن تمر بالمستوى العاطفي، لذلك بقي لديه جانب مهمش، حاول ملأه من خلال رغبته بإقامة علاقة مبنية على الجانب العاطفي، وكانت شارلوت هي الفتاة التي من الممكن أن تكون بالنسبة له موضوعاً لعلاقة عاطفية وجسدية.
قد يظهر أنّ اختيار كريم لشارلوت بوصفها موضوع حب ممكن الحدوث اختيار اعتباطي؛ إلا أنّ هذا الاختيار هو اختيار داخلي منظم، نابع من منطقية خاصة كامنة في البنية النفسية الداخلية لكريم.
فهذه المرحلة النصية من الرواية يغلب عليها: تفعيل القيمة البصرية التواصلية، وتخفيض أكبر قدر من التواصل اللغوي السمعي، وبروز الرغبة في نقل الآخر غير القادر على التواصل السمعي اللغوي معه إلى حياة نصية تخييلية موازية، وحضور إشكالية الحب: الجسد, المحركة أساساً لتفاعلات كريم مع شارلوت.
مرحلة المصادفة المُغيّبة مؤقتاً:
تبدأ هذه المرحلة في الرواية عندما يقرر كريم اللحاق بشارلوت للتواصل معها، متجاهلاً رغبته الدفينة في أن يكون هذا اللقاء التواصلي المباشر مبنيّاً على المصادفة؛ إذ تحضر مقولة المصادفة حضوراً جوهرياً في البنية العميقة لنفسية كريم، فهو يرغب بعلاقة حب مبنية على المصادفة النموذجية مكتملة الشروط، وموازية لقصص الحب المتمحورة حول اللقاء التصادفي في الأفلام، إلا أنّه تجاوز، هنا، هذه الرغبة، وقرر القيام بحركة محورية لكسر الحاجز التواصلي المباشر بينه وبين شارلوت.
ستكون نتيجة هذا اللحاق المفاجئ غير المخطط لقاء تواصلياً، ترافقياً، عبورياً، ممتداً من المقهى إلى القرب من منزل شارلوت، من دون أن يؤدي هذا اللقاء التواصلي إلى ما يرغب به كريم، إذ كان يريد التقرّب من شارلوت والدخول إلى منزلها، إلا أنّ عناصر المصادفة النموذجية لم تكن متحققة كاملة، إذ كان المنزل مُناراً مما يعني أن صديقة شارلوت في المنزل، وبالتالي لا يمكن لكريم أن يحقق ما يرغب به من هذا التواصل العبوري.
ستنقطع شارلوت عن الكافيه، تاركة كريم في خضم سيناريوهاته التي سيؤلفها عن معنى هذا الانقطاع وأسبابه، سيمتد هذا الانقطاع فترة زمنية طويلة نسبياً، وسيفقد كريم الأمل في عودة شارلوت، موضوع حبه المأمول تحقيقه، لذلك سيغادر المقهى وينقطع عنه، إذ غاب العنصر الجوهري الذي يربطه بالمقهى (شارولت).
هذا الانقطاع المزدوج, أي انقطاع شارلوت وغياب الفعل التواصلي الممكن معها، وانقطاع كريم عن المقهى أحدث فجوة فراغية في حياة كريم، في خضم هذه الفجوة سيتعرف على ريما، فتاة قادمة إلى باريس من حيفا، تلك المدينة التي لم يختبرها كريم واقعياً، والمرتبطة عنده بتصورات ذهنية عن ماهية الحياة فيها، هذا اللقاء مع ريما كان لقاء تصادمياً، إذ لم يفضي إلى إمكانية تواصل فاعل وحميمي بين الشخصيتين.
ومن هنا فإن هذه المرحلة النصية من الرواية يغلب عليها: التغييب المفاجئ لبنية المصادفة المتعلق بها كريم نفسيا، حدوث فعل تواصلي عبوري تلاه غياب غير مفسر حرك السيناريوهات المتخيلة في ذهن كريم، وبروز فجوة فراغية أدت إلى فعل تواصلي غير نموذجي مع ريما.
المرحلة الثالثة: في العودة الصدفوية
تتمحور هذه المرحلة حول مبدأ المصادفة؛ فبعد أن استسلم كريم لغياب شارلوت وابتعادها، ستحدث مصادفة جديدة في السينما، إذ سيلتقي هناك مع شارلوت. فما كان غير محقق في المرحلة السابقة؛ أي اللقاء الصدفوي التلقائي، سيحدث في هذه المرحلة، معيداً البنية الصدفوية النموذجية إلى سياقها الطبيعي المأمول.
سيعرف كريم، في أثناء هذا اللقاء، أن غياب شارلوت عن المقهى لم يكن غياباً مقصوداً للابتعاد عن لقائه، بل كان بسبب رحلة قامت بها مع صديقتها، وأنها، بعد عودتها من الرحلة، ارتادت المقهى، وانتبهت إلى غيابه، وافتقدت وجوده.
هذا اللقاء الصدفوي سيوصل كريم إلى ما كان يرغب به، أي علاقة جسدية مع شارلوت لها جانب عاطفي ومختلفة عن علاقته السابقة مع كارلا. كما سيفضي به إلى سلسلة من اللقاءات الصدفوية العفوية مع صديقة شارلوت وريما؛ إذ ستكون ريما التي دخل معها في أثناء المرحلة السابقة بعلاقة تعارفية صدامية على معرفة بصديقة شارلوت.
فغدا كريم محاطاً بثلاث نساء، هذه الإحاطة ستدخله بمقارنة بين علاقته هو بالمكان وعلاقتهن به، فهو عاش تراكماً لجوئياً ممتداً, أوصله إلى فرنسا، وهذا التراكم أثر في علاقته بالمكان، وتعريفه لهويته المكانية الخاصة، فهو فلسطيني لكنه لم يختبر مكانه الأول المفترض، بل اختبر مكان اللجوء, أي المخيم في سوريا، لكنه ليس سورياً ايضاً, ذلك على الرغم من اختباره للمكان السوري بوصفه لاجئاً فلسطينياً، هذه العلاقة بالمكان لم يجدها عند شارلوت وصديقتها المنتميتان تلقائياً لسياقهما المكاني، وكما لم يجدها عند كلارا التي تعيش في فرنسا، أي في بلد غريب عنها، ولكنها تمتلك سياقاً مكانياً محدداً اختبرته وتعرف تفاصيله، ويمكنها العودة إليه، ولا يجدها أيضاً عند ريما الآتية من حيفا والرافضة العودة لها والمختلفة نظرتها للمكان عن نظرة كريم.
ومن هنا فإن هذه المرحلة النصية في الرواية تقوم على مبدأ: اللقاء الصدفوي النموذجي المعوض عن اللقاء السابق، وإشباع إشكالية الجسد: الحب، وظهور إشكالية العلاقة بالمكان من خلال اللقاء الصدفوي مع شخصيات عدة لها علاقات مكانية مختلفة.
فالرواية تتكون من هذه المراحل النصية الثلاثة، واضعة إيانا أمام ذات فقدت علاقتها التطورية بالمكان، وانتقلت إلى سياق مكاني غريب، فتجعلنا نشاهد إشكالياتها مع الحب: الجسد، ونذهب معها في علاقتها البصرية المراوغة مع الآخر، ونتحسس تعالقاتها مع المكان ورؤيتها لاختلاف علاقتها المكانية عن علاقات الآخر.