(مقاطع من مخطوط)
فواز قادري، شاعر كردي سوري مقيم في ألمانيا.
مجلة أوراق العدد 13
شعر
تراب ودم يتزاوجان فتطلع وردة
دم وحجر هيئة القلب
التاريخ جمر والخوف كرسي طاغية في الهاوية
الجندي خوف مقدود من صخر وخوذة
فوق رؤوس الناس
وكلب مهان يرحّب بسادته
تجار حرب يتسافدون بالعلن
دول كبيرة ودول ذيلية ومرتزقة ينبحون (أعتذر من الكلاب)
الشاعر يريد أن يكتب الحب
قبل أن تذبل وردة وحيدة منسية
أن يخلّد الحب
قبل أن تنتصر الحرب
وتغرق السفن في الرمال
يشمّ تلك الرائحة
قبل أن يفوت أوان الصِبا
قبل أن يذبل الحجر وتتبخّر الذكريات
سيرة العاشق وجع المكان
رحل العاشق وتناثر المكان
سيرة نائمة في حطام “الدير”
طفولة وضباع تعضّ وأغان تُشفي
رضع الصغير كدر الحليب وشكر الأمومة
فتى خجول لملم الابجدية من الشارع
أطلق عصافير المعاني من شراك العادة
رحل المكان وتناثر الشاعر
ألف قصيدة تقرع
تنفتح البلاد على الأغاريد والأغاني
من أين يسيل كل هذا الدم الوردي؟
دم بكارة دم رعاف دم نزيف الولادة.
**
عين عليكِ وعين على البلاد
أنقر يدك الفارغة
كعصفور أخرس
حتى يخرج الماء
أنقر حتى القاع
وأنا أرتجف من الجوع والبرد
لا صوت لي ولا “فتفوتة” خبز
ولا حبة قمح واحدة
أنقر يدكِ تتوجّع البلاد من حولكِ
البلاد التي عذّبتني بالخوف عليها
ألعاب الطفولة ناقصة معها
الضحكة ناقصة وتنتهي قبل أن تكتمل
الرقصة ناقصة ولا تتم دورة واحدة
تحزن أقدامي على قدمها الناقصة
على عينها الناقصة
على ذراعها القصيرة التي لا تعانق
الدموع وحدها كاملة
ولا تنقص في أي مناسبة حزينة أو مفرحة
تنزل دمعة من عين حجر أرمل على الطريق
ينزل نهر من عيني
دمعة لافتات المرور التي لا تشير إليكِ
وأنت تعرفين لم أبع ولم أخن
كل ما في الأمر خسرتُ وتناثرت أحلامكِ
أنا عصفورك الذي لم يتوقف عن الغناء
أرسلت الرسائل وخانت الأشرعة
أرسلت الأمواج ولم تجد أقدامكِ
أرسلت النوارس بعد أن تاهت الشواطئ
غصن الزيتون احترق في فم الطائر
ولم تعد السماء إلى زرقتها
الأرض تنكرت بالخراب
تعب عصفورك من الليل
أبحث عن عشي فيك يا إلهة المكر والخصوبة
الأغصان جرداء والأشجار لم تتوقّف عن الولولة
تركتُ علامات عند رأسكِ
وأنت تتوسّدين موجة
سرقكِ اللصوص مع الفرات
ولم أجد عينك التي تحرس
ولا البيت الذي خبّأت فيه ما تبقّى من ذكريات
لم أجد سوى حلمي الذي تعرفين
مشرّداً في النهار
وفي النوم يتوسّد حجرك اليتيم.
**
الشاعر في الظل
وألف شمس فوقه تدور
تتجاهله الحياة الأرملة
يكتب لها وفيها وعنها
يكتب ما يزيد عن حاجة المديح:
أحبّك أحب حجرك وترابك
أحبّ ماءك الجالس على شفاه الناس
انتظريني سآخذك في نزهة إلى الخلود
أدور بك من بيت إلى بيت
حتى تعود لك الذاكرة
كل الوجوه التي مرّ عليها فمك
قُبلة للريحان وقبلة للفلّ
ضحكة البساتين وثرثرة النخيل في الأعالي
رنين كؤوس العشق على الفرات
قبل أن نفتح دفتر الثورات
(الحب كان ضيفاً خجولاً
نادراً ما يشاركنا مباهجنا على الطاولة والشاعر يكتب الحب:
لا ثورة بلا حب مغموس بفوران الجسد)
خلاف ديمقراطي على منزلة الكحول
خمر بروليتاري أبيض
أم قدح ويسكي برجوازي واحد
يحتملني إلى آخر الليل
شقاوات الشباب خجولة
صداعي اللئيم الذي يعكّر المزاج
كأس واحدة تتمسك بالرفاق
مخافة أن نتناثر في السجون والمنافي
وتظل القصيدة سورة مشعّة في قرآن الحياة.
**
سيرة الدمعة الأولى
أنا وحدي وهذه الغربة الموحشة
أبحث عن الصغير
بأصابع من خبز وخوف
بأياد من برد وضياع ترتجف
وحدي والدنيا هاوية أمامي
وأشباح الليل سيدة حتى في الفراش
ما يفعل الصغير
يرقّ ويرتجف بلا عصف
يُوجع قلب الدنيا
قبور مفتوحة في عينيه
سماؤه طيور وزرقة وأحلام
يتمسك بما لا يرى
بالمدى غير المرئي ويطير.
سيكتب الصغير سيرة من؟
أبواه هاربان من العسكر على الحدود
يكتب سيرة الدمعة الأخيرة
سيرة الضحكة الأولى
الحب الأول بخجله وقبلته الجارحة
سيرة الفقر والكدح الغاشم
سيرة القبور التي مرّت عليه في الأحلام
سيرة الزهور التي تقفز إلى يديه
سيرة النوم الذي يلاحقه في الطريق
سيرة الأرصفة التي تشبه الوطن
سيرة الحذاء الجديد
سيرة البيت والبلاد.
أنت تجننينه أيتها المدينة المتخاذلة
كم مرّة سرد عليك سيرة الصغير
من أوّل انفجاره الكوني إلى آخر دمعة
تكلّم وتكلّم وأنت تبتسمين
كأنك لم تصدّقي كل هذه التواريخ والحرائق
حياة طفل على عكاز خرافة
الطفل الأيّل الوسيم يقفز هاوية تلو الأخرى
قبل أن يعثر على القصيدة
أدمن البكاء في الظلام
وشوّفك الجروح الكثيرة في قلبه الصامد
وحكى لك سيرة جرح من أثر الحزن
جرح بطعم الفقر المرّ
جرح بطعم قبلة أولى
جرح يخجل عن ذكر السبب
جرح مرشوش عليه سمّ الهزيمة
جرح غائر حتى الذكريات
وأنت تتفرّجين ولا تُظهرين شيئاً
كأنّك لم تشاركيه الحليب
ولم تلملمي الأحلام الهاربة من رأسه
تركتكِ فيكِ وخرجتُ وأنا مطمئن
ولم أعرف أن بعض الحب يخون
حزمة من الورد تهصر العطر عليك
والدنيا برد وصقيع
خفتُ عليكِ منكِ
وأنتِ تتغيّرين والوقت يمشي إلى الوراء
الأمر خارج المعقول
ولا تستوعبين أي طارئ
وكأنك لم تمسحي دمعه
ولم تكّلميه عن الحب
قبل أن يكبر وتفرّ أيائل الأحلام.
**
سيرة شاقة بعرق الجسد
غليان الروح على الأسفلت الذائب
بدموع تخرج من كل مكان
سيرة عرق نازل من مسام المتعبين
سيرتي تشبه سيرة كل الخسارات
سيرة الأبواب المفتوحة في وجوه الناس
سمل أعين الظلام بالأمل
سيرة الطيبين بأكفّ مبسوطة
سيرة العصافير في ضحكاتها
تملأ فراغ الصباح بالغناء
لا شأن لي بالثعالب والشباك
معجزتي أنني نجوت بقلبي من الكراهية
التحايا على فمي شفّافة والقبل
أنا فقير الترّهات والثرثرة
أحمل لافتات بلا لعنة واحدة
الزهرة رسالتي الخرساء
والريح بياني الصريح إلى الجهات
الفرات فراشي والموجة وسادتي
معلق من أهدابي على رغيف الخبز
أسبق الموت بقفزي السريع إلى عربة الحياة.
**
مثلي لا يعوّل على الزمن ولا يخاف
سنوات عشرون مثل خطوة الصغير
أنا رمشة فارقة بين عالمين
البلاد التي أغلق عينيّ عليها كل ليل
والبلاد التي تفتح عينيّ كل صباح
لست في سباق مع شهريار
ضحكة الراوي الغائب أنا
ودهشة شهرزاد في سوق شعبي في دمشق
حين تراني بحملي الثقيل
من الشوق والأغاني والرثاء
تبحث عن وقت فائض من أجلي
قبل أن تنتهي الليالي
تكلّم الشاعر عن عشيقاته في الطفولة
وعن دورهن في حكاية أخرى
وكم من حورية ينوي الكتابة عنها
قالَ للبنت التي تحاول الغناء:
“حاذري من الدخول في القصيدة”
حاذري أن يكتبك الشاعر
لن تعودي بعدها إلى الطفولة مرّة أخرى
ظلي بعيدة عن رمال ربعها الخالي
قبل أن يخطفك جنيّها القادر
وانتظري حتى تمرّ قوافل الغناء
هودجكِ من ديباج أصفهان
على ناقة من نوق العصافير
شردت من مهر عبلة في الفلاة
في ألف ليلة وليلة جديدة.