سيد محمود: محررو الأعمال الأدبية يتمردون على دور “الكاتب الشبح”

0

يعترف محرر أدبي عمل مع دور نشر مصرية بالندم لأنه أبقى دوره في الظل ويقول: “المحرر يهب المهنة أثمن ما في الكتابة ويعطي روحه وعصبه العاري لمؤلفين آخرين، لكن من دون أن يحظى بالتقدير الملائم”.

هذا ما أعلنه الشاعر والصحافي مصطفى عبادة لـ “اندبندنت عربية” رداً على سؤال حول “مهنة المحرر” التي لجأ إليها بعض دور النشر المصرية خلال السنوات الأخيرة. ويضيف: “في حالات كثيرة كنت كمن يرتكب جريمة حين أصنع كاتباً أعرف أنه لا يمتلك الحد الأدنى من مقومات الكتابة”.

عمل عبادة طوال ما يقارب 20 عاماً محرراً مع كثير من دور النشر المصرية المعروفة، وخرج من التجربة بخبرات مريرة يؤكدها بالقول: “مهنة المحرر تعاني في مصر خللاً كبيراً”. وخلال السنوات الخمس الأخيرة تزايد طلب دور النشر المصرية لـ “وظيفة المحرر”، وزاد من هذا الطلب التراجع الحاد في سوق العمل الصحافي، الأمر الذي دفع العديد من الصحافيين إلى تلبية هذا الطلب استناداً إلى خبراتهم في تحرير المقالات والمواد الصحافية.

وحدث أن أعلن بعض هؤلاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي تأسيس شركات ومكاتب صغيرة تؤدي هذه المهمات، مقابل أجر يتم الاتفاق عليه مع المؤلفين الراغبين في العمل. وفي بعض الحالات كان يجري الإعلان عن هويات هؤلاء ويتم كشف الأدوار التي لعبوها في تحرير بعض المؤلفات التي بلغ بعضها قوائم الجوائز الأدبية الكبيرة، وهو ما بدا مثيراً للاهتمام، لأن تقاليد مهنة المحرر كما يعتقد بعضهم لا بد وأن تعتمد السرية التامة، إذ تقوم معظم دور النشر العالمية على شرط “إخفاء هوية المحرر” للاحتفاظ بدور ما يسمى بـ “الكاتب الشبح”.

ولتفسير هذه المفارقة استطلعنا آراء بعض العاملين في هذه المهنة وناقشنا مختلف أطرافها.

مصطفى عبادة

تجربة إيجابية

يقول الصحافي عمر قناوي الذي كان من بين أسماء تم الإعلان عن أدوارها في تحرير كثير من الأعمال الأدبية، إنه “من واقع تجربتي التي بدأت قبل عامين، لا تقتصر وظيفة المحرر على مجرد التأكد من الضبط اللغوي والبناء السليم للجمل والعبارات، بل تتوسع لتشمل التأكد من المعلومات الواردة في النص إلى جانب التدخل في الصياغات لتحقيق أعلى درجات البلاغة الممكنة، وذلك بالتشاور مع المؤلف”.

ويشير قناوي إلى أن مهارات الصياغة تتباين من مؤلف لآخر، فهناك كتاب مثلاً تكون لديهم الأفكار الجيدة، لكن قدرتهم على بلورة هذه الأفكار داخل النصوص تكون محدودة لضعف مستوى لغتهم أو لتراجع متابعتهم السياسية، مما يستلزم التحقق من الوقائع والمعلومات التي يكتبونها اعتماداً على الذاكرة وحدها”. ويكشف قناوي أن العلاقة بين المحرر والمؤلف “لا تمضي من دون وساطة الناشر، فهو رمانة الميزان”.

وتتباين درجات تقبل المؤلفين أو المترجمين لدور المحرر، فبعضهم يرحب ويسعى إلى التعاون مع المحرر آملاً بنص أفضل، بينما لا يتقبل بعضهم الآخر أية تدخلات. ويرى قناوي أن كثيراً من المؤلفين لا يجد غضاضة في الإشارة إلى جهد المحرر، في حين يفضل آخرون ألا يعرف أبداً أن هناك محرراً تعامل مع النص وقام بمراجعته والتدخل في صياغته النهائية قبل أن يدفع به إلى المطبعة.

ويضرب صاحب كتاب “خبرني العندليب” مثالاً في حال إيجابية عاشها مع الروائية غادة العبسي خلال عملهما معاً على تحرير روايتها “كوتسيكا” التي تم نشرها في دار المحروسة خلال العام الماضي ويقول: “لم تجد المؤلفة غضاضة في الإشارة إلى دوري معها في تحرير الرواية وظلت تعلن ذلك من دون حساسية”.

مهنة غير مجزية

بعيداً من العالم العربي يعرف القراء المحترفون وخبراء النشر أسماء محررين عملوا مع دور نشر عالمية مثل “راندوم هاوس” و”بنغوين ” و”بلومزبري” و”فرانكلين” أو “غاليمار” و”آكت سود” وكثير من هؤلاء كتبوا مذكرات حول تجاربهم، بينما فضل آخرون العمل في الظل التزاماً باتفاق معلن مع دار النشر التي يعملون معها.ويرجع الروائي علاء فرغلي تنامي الطلب على مهنة المحرر خلال السنوات الأخيرة إلى تأكيد الدور الذي لعبته الجوائز الأدبية في خلق أجواء تنافسية ومعايير للجودة لم تكن شائعة في السابق، وبالتالي أصبحت جودة التحرير من بين هذه المعايير التي تم اعتمادها.

وإضافة إلى وجود سوق بملامح جديدة، يكشف فرغلي وجود سيولة في سوق النشر أوحت بسهولة مهنة التأليف وسمحت بالتجرؤ على مهنة الكتابة بصورة لم تحدث من قبل، وقد أغرت المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي بعضهم لاحتراف الكتابة اعتماداً على عدد المتابعين. وحاز فرغلي جائزة نجيب محفوظ التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة للرواية، وكان من بين الأسماء التي أعلنت احترافها مهنة التحرير الأدبي. 

يقول فرغلي: “المحرر يختلف تماماً عن الكاتب الشبح الموجود في الغرب، فالأخير يحصل على الفكرة من صاحبها ويقوم بعملية التأليف والصياغة وكتابة مذكرات سياسيين أو فنانين ورجال أعمال، في حين يقوم المحرر الأدبي بالمساعدة في تطوير النصوص وتقديم مقترحات فنية لتحسين جودتها، وليس خلقها من العدم وبالتالي فهي مهمة إرشادية”.  

كرم يوسف

مهنة غير مجدية

ويعترف صاحب “وادي الدوم” بأن تجاربه في التحرير حفلت بمختلف أشكال الإثارة، “طالعت مسودات لمؤلفين يملكون أسماء رنانة في سوق النشر ومعظمهم من بين المؤلفين الأكثر مبيعاً، لكني أصبت بعدها بنوبات فزع، فكثير منها تضمن أخطاء بديهية ولم ترق إلى مستوى أعمال الهواة، وهو ما جعلني أشكك في صحة انتسابها لمؤلفيها من الأصل”. وفي أغلب الحالات التي عمل فيها على تطوير النصوص رفض فرغلي أن يظهر اسمه كمحرر، مؤكداً أنه مارس المهنة للحصول على أجر إضافي، لكنه سرعان ما تبين أنه غير مجز ولا يعادل الجهد المبذول في مهنة تستهلك كثيراً من الوقت.

ويمارس الشاعر محمد خير وظيفة المحرر منذ سنوات، لكن اسمه لم يظهر للقراء إلا في رواية واحدة حررها لمصلحة دار “بلومزبري” العربية قبل أكثر من 10 سنوات، وكانت للروائية الفلسطينية سوزان أبو الهوى. ينحاز خير لـ “إخفاء هوية المحرر” ويفضل أن يبقى في الظل، فأساس التعاقد هو التعامل مع دار النشر وليس لمصلحة الكاتب، ولذلك ينصح دور النشر بالإعلان عن هيئة التحرير التي تعمل معها، ويرى خير أن إعلان هوية المحرر يمثل ضغطاً على الأطراف كافة.

 ويشير صاحب “ألعاب الوحدة” إلى أن عملية التحرير تمر بمراحل عدة، وهي تبدأ من تقرير يقدمه المحرر في صورة اقتراحات يعرضها الناشر على المؤلف، وعند قبولها فهناك مراحل تأتي بعدها، وهناك نصوص يكتفي فيها بالعمل على تحسين اللغة، وأحيانا يتم العمل على إعادة هيكلة العمل الروائي أو تطوير شخصياته بما يؤثر في بنية النص وخطابه العام، وما يسمى نقديا “رؤية العالم”، وبالتالي فإن عملية التحرير بحسب اعتقاده “مسألة فنية بالكامل” ويقول: “يبدأ عملي من المرحلة التي أشعر فيها بأن النص قابل للتطوير، وإذا لم اكتشف هذا الإمكان فأرفض العمل عليه ما لم أكن مضطراً لأسباب مالية”.

حساسية ومقاطعة

ويتذكر مصطفى عبادة حالات كثيرة اضطر فيها الناشر الذي كان يعمل معه إلى إعلان اسمه، لأن تقاريره حول صلاحية بعض الكتب كانت تحتاج إلى نقاشات تفصيلية مع المؤلفين، ويقول عبادة : “استقبل أصحاب الأعمال الملاحظات باهتمام حقيقي واستجابوا لها، لكنهم فضلوا العمل بعد ذلك مع دور نشر أخرى لأنهم ظنوا أن المحرر كشف عوراتهم الفنية، بل ساءت العلاقة معهم في أحيان كثيرة بما يؤكد أن مسائل تحرير الكتب لا تزال تثير حساسيات”.

ويضحك عبادة حين يتذكر كذلك أنه قام بصياغة وتحرير كتاب كامل لأحد أشهر رجال الأعمال في مصر، ولكنه فوجئ عند نشره بأن هناك زميلاً آخر استباح لنفسه هذا الجهد ونسبه إليه، وبالتالي يفضل الإعلان عن اسم المحرر حتى لا تلتبس الأدوار أو تتداخل. ويضيف: “المحرر يهب المؤلف أثمن ما في الكتابة وهو الأسلوب”. 

ويقر عبادة بالندم الشديد لأنه في أحوال كثيرة كان كمن يرتكب جريمة حين يدفع إلى مجال التأليف بكاتب لا يملك أبسط مقومات الكتابة، ويشير كذلك إلى أن مهاراته الإبداعية عانت خلال فترة عمله في التحرير بعض التشويش والضبابية، بعد أن استهلك قدراته الأسلوبية ومنحها لمؤلفين آخرين.

محمد خير

استثمار متأخر

من جهة أخرى، يملك الناشر شريف بكر مدير “دار العربي للنشر” كثيراً من الخبرات في هذا المجال، فقد شارك في بعض الورش التدريبية التي نظمت في معارض دولية للكتاب بغرض تأهيل المحررين ونقل خبراته إلى فريق يعمل معه في الدار.

يقول بكر: “لا نواجه أزمات كبيرة مع المحررين، لأن جهدنا مكرس في غالبيته للترجمة، لكن عند نشر الكتب العربية نستند إلى خبراتنا ونشرح للمؤلفين أن وظيفة المحرر تختلف تماماً عن وظيفة المدقق اللغوي، وما يقدمه المحررهو إضافات للنص ينبغي استثمارها، فهي بمثابة عين ثاقبة”. ويثمن بكر اهتمام دور النشر المصرية بمهمة المحرر ويرى أن الاستثمار فيها “قيمة مضافة ” تميز دور النشر التي تسعى إلى ذلك.

ويضيف: “تفاخر دور النشر العالمية بالمحررين الذين يعملون معها وتحولهم إلى نجوم حقيقيين، وفي أحيان كثيرة يرتبط القارىء بمحرر سلسلة ما ويمنحه الثقة بصورة مطلقة”. واستنادا إلى هذه المقارنة يقف بكر تماماً ضد “إخفاء هوية المحرر” ويقول، “نفاخر دائماً بوضع اسم محرري الكتب التي نصدرها على بطاقة بيانات الكتاب في الغلاف الداخلي، وهذا يعزز ثقة القارئ”.

 في حين تقف المدير والمؤسسة لـ “دار الكتب خان” كرم يوسف على الضفة الأخرى، مؤكدة رفضها فكرة الكشف عن هوية المحرر، ومنحازة إلى فكرة السرية إذ تقول: “لا يوجد كثير من الأسماء في سوق النشر المصرية جدير بلقب المحرر”.

وتلفت إلى أن تقاليد مهنة النشر ليست راسخة عربياً لدرجة احترام الأخلاقيات المعمول بها في الغرب، وتشير كذلك إلى أن مهنة المحرر لا تزال جديدة، وبالتالي فهي لا تملك قواعد منضبطة وتحتاج إلى مزيد من الوقت لترسيخها.

وتفضل كرم العمل مع محرر لا يمارس الكتابة الإبداعية، وترى أنه الأكثر قدرة على تقديم مقترحات جادة يتحرر فيها من انحيازات لمصلحة شكل أدبي معين أو نبرة أسلوبية تخص قناعاته الفنية. وتضيف: “أتمنى العمل مع محرر له خبرة القارئ والذائقة التي تؤهله لإصدار أحكام فنية جديرة بالاهتمام استناداً إلى ثقافة غنية تقرأ ظاهر النص وباطنه”.

*اندبندنت