سومر شحادة: روزا ياسين حسن: ثلاثة أيام من المنفى السوري

0

كِتابة الروائية السورية روزا ياسين حسن (1974)، في “بحثاً عن كرة الصوف”، تشبه التهويدة، وهي تهويدة لاجئين. أي ناس فقدوا أوطانهم، فقدوا أمكنتهم الأُولى، وبات عليهم أن يبحثوا عن “فرص للاندماج”. جوهر بحثها عمّا فقده اللاجئ، عمّا كان يملكه ويحوزه، ومن ثمّ، بفقده، وجد نفسه في أمكنة جديدة يبحثُ عن فرص في القول. الرواية، التي صدرت العام الماضي عن “دار رياض الريّس”، نصٌّ طويل في ممكنات قول اللاجئ؛ وهي ممكنات ترتبط بما حملته الذاكرة، وبما أرادت التخلّص منه. فهُم لاجئون بفعل الحرب، وعسف الإنسان الذي أحال مكانه الأوّل جحيماً. وخروجه منه بحثٌ عن فردوس مفقود، يُبعد عنه الجحيم الذي صنعه.

في روايتها، تكتب روزا ياسين حسن عن المنفى السوري، ترسمه عبر يوميات الأيام الثلاثة، وقد صدرت الرواية بعنوان فرعي هو “ثلاثة أيام من متاهة المنفى”. العنوان الفرعي يقول إنّ الرواية ليست عن المنفى؛ بل عن متاهته. والقارئ سيقع على ضرورة التخصيص بالعنوان الفرعي، لأنّ الشخصيات المكتوبة التي تتحدّث الرواية بألسنتها وأحوالها، هي عبارة عن مجموعة من التائهين، لا فقط المنفيّين. وهُم تائهون، لأنَّهم لم يقطعوا صلاتهم مع بلدهم، ولا يزالون يبحثون، أو يسعون، لأجل تحقيق العدالة في بلدهم. إنّهم عالقون في منطقة بين البلدَين، بين هنا وهناك، ومعلّقون بالآمال تجاه حرية وخلاص بلدهم، مع وعي عاجز بصعوبة هذا.

وبدا أنّ المنفى، بما أتاحه للشخصيات من فرص في القول، أوقع بهم في فرضية ثانية، هي عجزهم عن التغيير. صحيح أنّهم نالوا جزءاً من حرّيتهم، لكنهم نالوا معها وعيهم بأنّها حرية خارج أوطان أسيرة، حتّى لكأنّها قيدٌ آخر بإدراكهم لما أودى بهم إلى المنفى؛ وهو الاقتتال الذي يظهر ثورةً، ويظهر حرباً من النظام على الناس، وحرباً من تركيا على الأكراد، وحرباً من الجماعات الإرهابية على الناس؛ حرباً تجمع كلَّ هذا، تكثّفه، وتلغي الوجود خارج العنف. حتّى لكأنّ المنفى هو عنف الانتزاع من المكان، وعنف المغادرة قسراً.

الصورة

غلاف الكتاب

ما يشير إلى عنف المنفى يظهر تلقائياً في شتات الشخصيات وميلها إلى أن تكون منتهكة في هويتها الجنسية. ما نراه بصورة مُثلى لدى الرجل المثلي الذي يسعى في اليوم الأول لأن يكون منتهكاً، وينتهي في اليوم الثالث إلى تأسيس جمعية للدفاع عن المثليّين من أبناء المهاجرين. صحيح أنّ الرواية عن ثلاثة أيام في المنفى، لكن لا يوجد ما يشير إلى أنّها أيام متّصلة. المؤكّد أنّها أيام متعاقبة، لأنّ الشخصيات تبدأ في مكان وتنتهي في آخر، ضمن سياق مقتطَع من حياة المنفيّين. النصّ حديثٌ في المنفى، حديث مقتطع من موضوع بدا بلا نهاية، بينما سرمد شخصية ظلّت تبحث عن الحب. في تغيير وعيهِ إزاء ما يستحقّ جسده من حب، نرى ما تفعله فرصة أن يكون الإنسان حرّاً. 

الحرية، لدى المنفيّين السوريّين، تظهر تمريناً على العيش. لا ننسى أنّهم خرجوا من بلد كان يقمع حتّى أفكارهم، وانتهوا إلى بلد بدا أنّه أوّل ما يحرّرهم، يحرّرهم من أفكارهم. والجسد لدى روزا ياسين حسن هو المتغيّر الذي تقرأ منه حال منفيّيها؛ إذ نقرأ كذلك حكاية السيّدة التي تعيش بلا غراميات، لأنّها لم تتحرّر من فكرة الزواج، وهذه فكرة تنتمي إلى بلد الماضي، إلى بلد الماضي الذي استمر بالعيش في اللاجئين ومن خلالهم. 

لا تظهر الصراعات فقط في هوية الجسد، في ارتباكه، وفي اكتشافه طاقاته، تظهر أيضاً في مصير العائلات؛ وهي صراعات مضنية، لأنّ المنفى لم يكن بالوداعة التي توقّعها خارجون من الحرب. وقد ألَّفَ بدوره صراعات جديدة ترتبط بالتربية، وبالنشأة وسط أخطار الحرية. أقول “أخطار”، لأنّ القيود ليست فقط في الأيدي، وإنّما داخل الرأس. وهكذا، نقرأ شتات الأبناء في الانتماء إلى تيارات دينية متطرّفة. هذه ليست مصادفة. فالتطرّف هو الطريقة التي اختارتها الكاتبة لتحدّثنا عن عنف المنفى الذي يَنقل لأبناء اللاجئين الشعورَ بأنّهم مهدَّدون بقوى اليمين، مهدَّدون باختلافهم. وقبل ذلك، مهدَّدون لأنّهم أساساً منتزَعون من أوطانهم بسبب الحرب. 

الكتابة لدى ياسين حسن تهويدة، لأنّ هديل استمرَّت تبحث عن ميلاد، حبيبها الذي قتله بلده الأُمّ، واستمرّ يعيش في داخلها، استمرّت تناديه، حتّى لكأنّها أعادت خلقه في داخلها، حتّى لكأنّها رفضت فكرة موته، وحتّى لكأنّ وجود الحبيب الغائب معها كان طريقتها كي تُبقي على الأمل حيّاً في داخلها، وهو أملُ الخلاص وأمل العودة، وأمل الحرية قبل أيِّ أمل آخر؟
تبحث كتابة روزا ياسين حسن عن اقتراح يخفّف قسوة الانتزاع وعنف النفي. اقتراحٌ نراه في التعاطف الذي تُمثّله مريام، نراه في الجمعية التي يؤسّسها سرمد. وقبل ذلك، أو بموازاته، نراه في الاقتراح الذي يقدّمه الطبيب النفسي لإحدى الشخصيات كي تكتب.

كما لو أنّ الكتابة والحبّ والتعاطف تعويضٌ يعتقده المنفي، يحتاجه المنفي، ينمّيه المنفي، يلتئم من حوله المنفي، لأنّ فرص العدالة في بلده لم تعد قائمة، وفرص التآلف تجاه لغته الأم أيضاً لم تعد ممكنة، فهو منفي، وعالمه القديم لا يزال حيّاً فقط في داخله، فيما لا يتوقّف العالم الجديد، الذي وصل إليه، عن التصدير له بأنّه داخل حتمية “الاندماج” يقاسي حتمية أُخرى، وهي حتمية عدم الاندماج؛ الأمر الذي يتأتّى من عنف اللغة التي جعلت من اصطلاح كالاندماج اصطلاحاً يغلّف الإنسان ويغرّبه ويقصيه. 

*روائي من سورية


بطاقة

وُلدت روزا ياسين حسن في دمشق عام 1974، ونشأت في اللاذقية وتخرّجت من كلّية الهندسة المعمارية فيها عام 1998، وهي تعيش في ألمانيا منذ 2012. إلى جانب أعمالها الأدبية، تكتب في دوريات عربية وأجنبية وتنشط في عدّة جمعيات نسوية. صدرت لها في الرواية: “أبنوس” (2004)، و”نيغاتيف: من ذاكرة المعتقلات السياسيات” (2007)، و”حرّاس الهواء” (2009)، و”بروفا” (2011)، و”الذين مسّهم السحر” (2016)، و”بين حبال الماء” (2019).

*العربي الجديد