سومر شحادة: الفن المعزول

0

من يراقب سوق النشر في العالم العربي، وإن قليلاً، يجد أنّ الرواية هي الفنّ المطلوب. وبصورة عامة يعتذر الناشرون عن استقبال مجموعة قصصية أو شعرية. دعك عن المسرح الذي يكاد يكون من الفنون المنسية.

ليس من المبالغة القول إنّ القاص بات يبحث عن ناشرٍ يوافق على قراءة المخطوط، قبل الاعتذار المؤكّد عن النشر. كذلك الحال مع المسرح الذي إن لم تجد نصوصه طريقها إلى الخشبة بمساندة مموِّلٍ من هنا أو هناك، تبقى طَيّ الكتب أو مجرّد أفكار في عقل المسرحي. وفي السنوات الأخيرة، قلّما ينتظر القارئ إصدار ديوان شعر. كما توقّفت بعض الدُّور عن طباعة الشعر، مع الاكتفاء بنُسخ إلكترونية، وقد يُوزَّع الديوان بين أصدقاء الشاعر وكأنّه كعكة بمناسبة عيد ميلاده أو خطوبته.

على ضوء هذا وبالعودة إلى الرواية التي تبدو فنّاً ينمو بمعزل عن باقي الفنون الكتابيّة، دعك عن الفكر والفلسفة. يطوّر الروائيون أساليبهم، وينوّعون أدواتهم في تحليل وقراءة المجتمعات التي يكتبون عنها، لكنّ فنّهم معزول. وهم يعملون في ورشٍ مغلقة، ويبدو التفوّق الدعائي للرواية أشبه بتفوّق الطفل الوحيد، فكلٌّ من الشاعر والقاص والمسرحي مهمّش، الأمر الذي دفع إلى الواجهة نموذجاً من الروائي الذي يظنّ نفسه نجماً. لكنّه نجم في فضاء صنعته قوانين شاذّة، بدءاً من النشر إلى القراءة، ضمن واقع سياسي اجتماعي محدود بصورة مريرة. فالوعي العام لم يعد وعياً جماليّاً بعد أن أنهكتهُ السياسة وشوّهته ضرورات العيش. ومفروض، بالاختلاف بين بلد وآخر، ما نقول وما نسمع، وما نكتب وما نقرأ، وكيف نفكّر وكيف نلبس ومن هم أعداؤنا في الصباح وأعداؤنا في المساء.

ليس نمو الرواية في معزل عن باقي الفنون أو غياب النقد الأكاديمي ما يهدّدها، بل الاستعاضة عن ذلك بثقافة ترويجيّة لا تنفي النقد فحسب، إنّما تنفي القراءة أيضاً. فالقراءة مجرّد ظاهرة، ولا يختلف التفاعل مع حدث قد يكون كبيراً مثل إصدار رواية لكاتب معروف، عن التفاعل مع منشور مؤقّت على فيسبوك. بالتالي، بات التركيز على نجوميّة الكاتب أسوةً بمشاهير وسائل التواصُل الاجتماعي ضمن ثقافة جمعية محطّمة تفتقد الرمز افتقاداً عميقاً. 

وهكذا، يمكن أن يصنع جمهورٌ محدود من أحد المارّين على قارعة الطريق صنماً لمجرّد أنّ مزاجهم العام يحتاج إلى تمجيد أحدهم. لكن هل ينبغي على الكاتب أن يصدّق هذه النجوميّة أم عليه أن يرفضها؟ لا مناص أمام المبدع في النهاية من الإجابة عن سؤال من هذا النوع. ولربما طبيعة الإجابة هي ما تحدّد أفق الكاتب، وتميز تجربة أحدهم عن الآخر.

كلّ ما سبق يحدث بحضور الجوائز الكثيرة للرواية العربية، التي لم تستطع على كثرتها أن ترسّخ اسم كاتب مجيد واحد. وإنّما تتوالى الجوائز عاماً بعد آخر، وتتوالى الأسماء ويتوالى نسيانها عاماً بعد آخر. فالجوائز ذاتها، دخلت بشكل ما خدعة الظاهرة، للأسف. أسوأ ما قد يحدث، أخالُ أنّنا نراه يحدث أحياناً، وهو أنّ الجوائز تفتكُ بالـ”أنا” داخل بعض الكتّاب. وتدفع ببعضهم إلى تصديق النجوميّة الزائفة والأسوأ استجداؤها وسط ثقافة تَسفُّ بعجالة كلّ ما يظهر أمامها. لا ننسى هنا، أنّ قارئ اليوم صنعته عقودٌ طويلة من حرمان الحريّة ومن الأيديولوجيا العسكريّة القمعية أو الإسلامية الشعبوية أو تغريب الشعوب عن قضاياها الفعليّة.

أخالُ أنّ الرواية تشبه شخصاً مدعوّاً من غير ترتيب مسبق إلى التكريم، حيثُ وضع أحدهم الورود بين يديه، وآخر وضع التاج على رأسهِ، ودفعه أحدهم إلى منصة التكريم، وآخر التقط له الصورة، كي تُوثَّق الظاهرة، وصفّق آخرون له، ثمّ عاد الجميع إلى حياتهم اليومية، حيث لا أثر للرواية. وفي أحسن الأحوال، تظهر صورة منصّة التكريم للكاتب النجم، قبل أن تُنسى بمنشور آخر عن الطبخ أو عن السياحة في جزر المالديف. 

(العربي الجديد) (اللوحة: “كوخ قُبالة ماء” لـ ميخاليس إيكونومو (اليونان)