في مسرحية “عطيل” لشكسبير قدّم عطيل لزوجته ديدمونة منديلًا مطرّزًا بالفراولة، فانتهت بتلك النهاية التراجيدية بسبب المنديل، الذي سقط من يدها واستخدمه غريمه ياغو فكانت نهايتها، وكان معروفًا، بحسب رواية شكسبير، أن ساحرة مصرية قد أعطت ذلك المنديل لأم عطيل كي يبقى أبوه مغرومًا بها فلا يخونها، وهي أعطته لابنها عطيل ليمنحه إلى زوجته فيضمن إخلاصها، وهكذا فعل، وفعل المنديل المطرّز بالفراولة.
أمّا في رواية “منديل بالفراولة” للكاتب السوري خليل الرز (صدرت عام 2022 عن داريّ ضفاف والاختلاف)، فإن السرد، الذي يتصدّر البطولة بامتياز، يقوم على الجدلية التي حمّلها شكسبير لثمار الفراولة، بعدما كان لها، في البداية، معنى مقدّس، ويُنظر إليها على أنها رمز للكمال والاستقامة والعفة والصلاح حتى مطلع القرن السادس عشر، عندما أنهى الرسام الهولندي هيرونيموس بوش ثلاثيته “حديقة الملذات الأرضية” إذ جعلها رمزًا للإغواء واللهو والملذات الحسية، وكان الكاتب الروسي نيكولاي غوغول أول من أعطى الفراولة معناها الخليع، على لسان بطله نوزدريف في روايته “النفوس الميتة”، ثم إيفان تورغينيف في روايته “الدخان”، كما جاء في السرد على لسان معلّم الثانوية مكسيم فاديميتش. أمّا شكسبير، بعد ما يقارب المائة عام، فانحيازه “لصراع الأفكار والمشاعر وغموضها وصعوبة ضبطها بالنواميس والأعراف الجاهزة” قد جنّب الفراولة، في مقاربته، من تقييدها بمعنى واحد، مثلما كانت سابقتاها، كاملتين نهائيتين، كل واحدة مغلقة على معنى واحد لا لبس فيه. لقد أراد لها أن “تحمل دلالات ناقصة مفتوحة غير نهائية تشوبها ظلال الحيرة والشك والوساوس والالتباس والوهم والتردد وسوء الفهم تبعًا للأحوال المختلفة، دون أن تستغني، في كل تقلباتها، عن جموح الخيال”.
على هذه القاعدة يمكن قراءة “منديل بالفراولة”، وقد تكرّر ذكر الفراولة في عدة مطارح اعتبارًا من العنوان، فالراوي/ السارد، رجل سوري مقيم في موسكو، يعمل في جريدة “أنباء موسكو” بنسختها العربية، التي توقفت في عام 1992، وأطلقت من جديد بنسختها العربية في عام 2009، ولديه زميل سوري “سالم” أيضًا يعمل خطّاطًا في الجريدة نفسها، يقع الراوي في غرام “رايا”، التي يتشارك معها نفس الشقة مع أبدول وزوجته سارة، وهم من أذربيجان، زوج رايا مقيم في باكو، وهو من يدعم أبدول في عمله ببث تقرير عن أحوال السينما في موسكو للتلفزيون الأذري. بداية يرى الراوي على طاولة كتابته، في غرفته التي لا يحمل بابها قفلًا، ورقة من رايا تدعوه إلى موعد في الغابة القريبة، مع ثلاث حبّات من الفراولة في صحن بجانبها، يوافيها، وتحصل أول قبلة بينهما، ثم مع انتباه أبدول على العلاقة القائمة بينهما، تبدأ التداعيات لدى الراوي “فقد انجرفت الآن في تخيّل صنوف العنف المحتملة التي كانوا يستطيعون تطبيقها علي وعلى رايا”، فهنا، وبعكس مسرحية عطيل، توجد علاقة يمكن تسميتها وفق منظور اجتماعي بالخيانة، إنما لا نستطيع القول إن الرواية ترمي إلى مناقشة وإبراز هذه التيمة، بل تُبنى على قراءة منديل شكسبير، ويبدأ السرد يحلّق مستفيضًا مترفعًا عن الثرثرة المجانية، لترتسم في النهاية شخصية محبوكة بإحكام لرجل يعيش في “داخله”، تتصارع في عمق نفسه الأفكار والقيم والمشاعر، وبارع في حياكة القصص عن الشخصيات التي يمرّ بجانبها، أو تعبره في الخارج، شخصية راوٍ بامتياز. خيال يرسم عوالم وشخصيات ويسبر أغوارها، ولكل شيء سردية يضمرها حتى الجماد، وله مشاعر وعواطف وانفعالات، وهذا يتضح بعلاقته بالدمية أولًا، وبالأشخاص الذين يلتقي بهم عبورًا في الأمكنة أو وسائل النقل، إذ يرسم لهم قصصًا في خياله. “إن كل شيء تقع عليه عيني يملك، بالنسبة لي، سيرة شخصية لا علاقة لها بالتهيّؤات، فهي تحدث فعلًا في داخلي بكل تفاصيلها الحيّة، وأستطيع بسهولة، أن أقصّها على نفسي وقتما أشاء”. فهو ممتلئ بحياة وقصص وسرديات يشكّلها في داخله ويستطيع العيش معها من دون أن يلحظه المحيطون به، فلا “يظهر مني للآخرين سوى هيئتي الخارجية شبه المضمحلّة لموظف غارق في عمله الروتيني إلى درجة يصعب معها تمييزه جالسًا إلى مكتبه”.
وإمعانًا في تكريس شخصيته التي تبدو شبه منسحبة من الواقع، ويعيش في عالمه الداخلي، فإنه عندما سافرت رايا إلى باكو، بدأت رحلاته الخيالية إليها بالقطارات: “وكان يحدث أن أسافر مرات عديدة في اليوم، دون أن يؤثر سفري لا على ساعات دوامي في الجريدة، ولا على مستوى أدائي الأعمال التي كنت أكلّف بها، ولا على مستوى ممارستي حياتي الاعتيادية عمومًا في موسكو”. وهنا يبدو يعيش في أحلامه كبطل دونكيشوتي، فهو أعدل عن السفر إليها بالطائرة مع أنها تخفف كثيرًا من وعثاء السفر، إلّا أنها “تقلّل عمليًّا من أهمية الغاية النبيلة التي أسعى إليها”. لكنه في الوقت نفسه ينكشف كشخصية تهوى تعذيب النفس، ربما إرضاء لشعوره بالتخاذل واقعيًّا، فتحتَ شعوره بالذنب تجاه رايا يسعى إلى إطالة رحلاته بالقطار التي هي طويلة أصلًا، فيخترع أسبابًا تُعطّلها وتجعلها أكثر تكبّدًا، بل إمعانًا بالشعور بالتضحية تجاهها كان يسافر إليها بقطارات كثيرة تنطلق في وقت واحد، “وكان يسعدني وأنا أتعدّد في حشد من عشاق مذنبين يزحفون من كل جهات الخريطة إلى باكو من أجل رايا، أن أخترع لنفسي ما أمكنني من المتاعب التي لا تطاق في كل قطار من القطارات التي أركبها”.
ويتخيّل، أو يرسم سيناريوهات عن مواقف تزيد في معاناته من أجل رايا، بعد أن يصل في قطاراته المتخيلة إلى باكو، “وكان شعوري بسعادة أن يكون المرء عاشقًا ومنبوذًا يزداد كلما صعّبت رحلاتي إلى باكو وأكثرت من المواقف المؤلمة التي كنت أتعرّض لها بعد وصولي”.
مع تقدّم السرد، الذي يبدو فيه أن علاقته برايا ليست أكثر من حامل لما يريد أن يطرح من أفكار، فهو في النتيجة يخسر رايا، وتنتهي علاقتهما مع نهاية النص، نكتشف شخصية مثقفة قارئة وناقدة في الوقت نفسه، فالنص غني بالمعلومات الثقافية وأسماء الأدباء والمبدعين، مع وقفات نقدية لبعض الأعمال، استطاع المؤلف تسريدها بمهارة ورشاقة بما يخدم النص، إذ يمكن التقاط المقابلة بين شخصية الحالم في الليالي البيضاء لدوستويفسكي، والراوي في منديل بالفراولة، فكلاهما يعاني من الوحدة، الراوي في منديل بالفراولة شخصية مستوحشة، قلقة، بحاجة إلى الشعور بالأمان، عندما تذكر الكلب الأسود الذي يصادفه في البناية التي يسكنها، شعر بأنه يرتاح إليه، وبرغبته في أن يضمه إلى صدره ويصحبه معه إلى غرفته، “كان يجعلني، بعينيه السوداوين السعيدتين بي، أشعر بأنني جدير بما يغدقه عليّ من المحبة الصافية والانتباه الخالص”، وذاك يعقد صداقات مع أبنية في بتربورغ، بينما هذا مع دمية وجدها صدفة تحت سريره وكانت رايا أخبرته أنها رأتها في منامها، وتحميلها كل ما كان يدور في نفسه من انفعالات ونيّات وعواطف، بل أنسنة الدمية “ليست مجرد دمية قماشية طيبة وحنونة ومنفتحة على الآخرين فقط، بل وفي غاية الذكاء قبل أي شيء آخر”. عدا أن روح كل واحد منهما قابلة للكسر بمجرد سوء تفاهم صغير، فذاك كان يتخيل ما يدور في أذهان الأبنية، بناية بناية، فيفرح لفرحها ويحزن لحزنها، وهذا بالنسبة إلى الدمية يشعر بالمشاعر نفسها.
وهو رجل يرتاب “بالمنطق والحصافة الدارجين”، لكنه في المقابل غارق في التأملات الواقعية والوجودية، بل يغوص عميقًا في النفس البشرية، إن كان لجهة صوته الداخلي، أو لجهة مراقبة سلوك الأشخاص والظواهر من حوله، كرأي سالم بالجمال، “ليست هناك امرأة قبيحة، بل الآخرون يجعلونها تشعر بقبحها”، ويقدّم مثالًا عن سونيا ابنة الخال فانيا لدى تشيخوف، فلديها جمال بكر بحاجة لمن يكتشف كنوزه. وربط هذه الفلسفة بجماليات الخط العربي وفلسفته، فالخط الكوفي “يغيّب معنى الكلام الذي يحمله ويحوّله إلى زخرفة صافية، إلى لعب لا يهدف إلى غير اللعب، فتستغرق فيه، لا لكي تفهم منه شيئًا، بل لكي تستمتع بمتاهاته، تشعر به، بذاته، كما هو دون أن تحتاج إلى عبء أي معنى”، بينما خط الثلث “لا يغيّب المعنى، لكنه لا يخضع له، يحوّله، كما يبدو لي أحيانًا، إلى أداة تعبير عن معنى آخر إضافي غير موجود في النص المكتوب”، ورأي نونا التي التقاها أمام تمثال بوشكين، “من غير المعقول أن تكون الأشياء التي تغفل عنها غير موجودة، أليس كذلك؟ هي موجودة بك ومن دونك، لكن الانتباه إليها يحركها ويجعلها ملحوظة”، كذلك مفهوم الزمن “البطء يقاوم لا مبالاة الوقت في تقدمه الجليدي الدقيق ويجعله أكثر دفئًا”، أسئلة الميول لدى الإنسان، في حادثة الرجل السكران الذي هدّده على موقف الباص، يقول: “لقد أرعبتني هذه السهولة العبثية بالانتقال الصادق من القتل إلى الضحك”، و”العداوة التي تصل إلى درجة التفكير بالقتل أو الشروع به، لا تحتاج بالضرورة إلى مضمون تستند إليه”، وتحت تأثير هذه الفكرة وجد نفسه لا يضمن “ألا أنزلق، أنا أيضًا، في لحظة مفاجئة إلى التفكير بالقتل أو الشروع به”. غوص في عمق النفس البشرية، حيث تستبطن المتناقضات، وحيث أن الإنسان مهما سما وارتقى في القيم والمعرفة والثقافة فإنه يخفي في داخله حيوانًا نائمًا، لا يعرف متى يستيقظ “ولا أعتقد، إذا جرت الأمور على هذا النحو، أن عجلي البدائي الفظ الغشيم سوف يبقى مطمورًا إلى الأبد في أعماقي المشينة، تحت الكتب والأفلام والمسرحيات واللوحات”. يراقب ويفسّر سلوك البشر، ويحلّل أسباب الجريمة، دوافعها وأدواتها، مما جعله يحتاط من أجل مواجهة زوج رايا، يحتاط من “العجل” المقيم في أعماقه، فاستبعد أدوات القتل الممكنة عن متناول يديه، جمعها كلها وألقاها في فتحة القمامة.
أمّا المكان، فقد كان حضوره لافتًا في العمل، المكان بتفاصيله الداخلية والخارجية، فقد حضرت موسكو بشوارعها وغاباتها وباراتها ومطاعمها وأكثر شيء في شبكة مواصلاتها، كذلك في زمنها، زمن السرد، فترة غورباتشوف، وتداعيات المرحلة التي تنبّأت بانهيار الاتحاد السوفييتي، كما لم تغب الرقة عن الرواية، بعجاجها ومناخها القاسي، وفراتها الذي لم يتعلم الراوي السباحة فيه، ربما في إشارة إلى شعور الخوف القابع في عتمة نفسه. بدت جماليات المكان كما لو أن كاميرا تدور وترصد المشاهد مرسومة بلغة عذبة وطرية، عدا الكتابة التي تقترب من السيناريو في بعض الأماكن، فتبدو كما لو أنها مشاهد متقطعة تشكّل مع بعضها السردية المرجوّة، ولا يغيب عن القارئ أيضًا استخدام بعض المفردات غير المألوفة برشاقة في السرد، تمنحه حميمية وتجعله مألوفًا، كما لو أن القصّ يجري كحكاية نسمعها أكثر مما نقرأها، وصْوصتْ ـ نقزت ـ رصرصته ـ مُدلدلتين ـ المجعلكة.
يمكن القول إن رواية “منديل بالفراولة” قدّمت شخصية غير نمطية ستبقى في البال طويلًا، ربّما نصادفها في حياتنا اليومية بكثرة، إنما لا نلتفت إليها، لكن الأدب هنا استطاع أن يجسّدها بمهارة عالية، وما ساعد في ذلك اختيار ضمير المتكلّم، ما منح الشخصية أن تتحوّل إلى ذات ساردة يمكنها القول كما يحلو لها، بما يشبه المونولوج، أو مواجهة النفس، أو الاعتراف من دون تحفّظ، بل بشفافية عالية، كذلك منحها الإمكانية لأن ترسم باقي الشخصيات الروائية، فنهضت فاعلة في السرد بتدبير من الراوي/ السارد.
*ضفة ثالثة