إضاءة على المتن الحكائي“[1]:
“ـ التمثالُ يهتزُ …. !
ـ إنّهُ يسقطُ ..
ـ الغوغاء ….، من هناك؟ قف، قفوا ..!!
“يدورُ الحارسان حولَ التمثالِ باضطراب وخوف، يتمايلُ التمثالُ أكثر، يحاولان الإمساك به فيسقط فوقهما …. يموتان”.
ومن حينها لم تهدأ روحُ التمثالِ، وتدورُ الأحداث حولَ أزمة سقوطه؛ سقوط تمثال /مولانا ــ الرئيس/ في وسط ساحة المدينة، مدينة تنامُ على الكتف الشمالي الشرقي للبلاد، نتيجة عاصفة مفاجئة لم تخطر على بال أحدٍ ولا كان أحدٌ قد تحصّنَ وتجهزَ لها، هذه العاصفة التي هبت على كامل المدينة، لتجتاح بعد ذلك المدن الأخرى في عموم البلاد.
الكاتب وعبر جسد النصّ الأدبي/ المسرحية وشخوصها والمعنونة بـ “القربان”، يجسدُ لنا ما حدث ويحدث بسبب هذا التمثال الذي يأبى أن يستقر وتقف قدميه على قاعدته، إلا بتقديم القربان/ الأضحية لجسده/ التمثال، فعبر خطاب سلطوي ومبني على حكاية الوالي الذي يجدُ ضالته في الشب اليتيم/ جودي ليكون قُرباناً لجسد /مولانا/، ليُعاودَ الثبات والوقوف مرة أخرى، في وسط المدينة رافعاً يده باتجاهها، يسردُ لنا الكاتب المجريات القريبة والبعيدة، التي تجري في السجن وخارجه، والصراعات التي تتصاعدُ في الشارع، وذلك من خلال أدوار العاملين/ الشخصيات التي تفرزها الأحداث في تفعيل عملية السرد، مع استحضار الكثير من الإشارات، ومشاعر الخوف الخفيّة تجاه كلّ ما يحدث؛ إنّهُ صراع السلطة مع شعب لا حول له ولا قوة أمام العنف والدموية.
إنّ الكاتب يحتاج إلى عمليّة تنقيب عميقة حتى يترك فسحة واسعة للقارئ، ليفتحَ مسالك الطريق إلى الحكاية، ويترجم أحداث سوداء على ورقٍ أبيض، أن ينقلَ قلق الشارع والمدينة والبيوت وساكنيها، ليس من السهولة أن يجمعَ كلّ هذا الكمّ من القلق؛ ليبدأ بعملية الكتابة، لذلك ستكون مهمة القراءة محصورة في قراءة العنوان كدلالة معجميّة، ثقافية واجتماعية، لأنَّ مهمة الكاتب ليست في حقيقتها سوى عملية ترجمة كما قال مارسيل بروست. ثمّ ستتجه القراءة نحو القوى الفاعلة في النصّ السردي، في مجموعة برامج سرديّة، ووظائف وأدوار تقوم بها، وذلك اعتماداً على خطاطة كريماس في القراءة السيميائية.
أولاً ــ العنوان ومدلولاته:
يقول فلوبير:”إنهُ مهما كان الشيء الذي يسعى الإنسان إلى التعبير عنه، فإن هنالك كلمة واحدة تعبر عنه، وفعلاً واحداً يوحي به، وصفة واحدة تحدده”، والعنوان الذي بصدده القراءة، مؤلف من كلمة واحدة، أي تركيب إحادي اللفظ ولكنه مخزون بالمعاني والدلالات الثقافية، الدينيّة، والسياسية، وككلّ قراءة يأخذ العنوان القارئ لعوالمه ويشده إلى طقوسه وهياكله، والعنوان في النصّ السردي الموسوم بـ “القربان”، هو دال اسمي مفرد، والأسماء عادة صامتة/ ساكنة لا تتحرك إلا بدلالاتها، كما أنَّ العنوان وكنصّ موازٍ؛ يسهم في فكّ شيفرات النصّ ودواله عبر عملية جذب تتمّ من الخارج إلى داخل النصّ، وإفساح الجسور التأويليّة للقارئ، إذ يُشكلُ العنوان الواجهة والسلطة الأولى والأقرب للمتن النّصي. فالعنوان ـ هنا ـ “كعلامة سيميائية، تمارسُ التدليل”، تأخذ بالقارئ إلى عوالمها ودلالاتها الاجتماعية، الدينية، وحتى الأسطورية والميثولوجيّة، فالقربان “مصدر للفعل الثلاثي (قَرَبَ)، وهو ما يتقربُ به العبد إلى الإله، بأعمال الخير والطاعة كالنذور”، ويتواجدُ القربان في أغلب الشرائع السماوية، كفضيلة للتقرب من الآلهة، حتى في الميثولوجيا القديمة، كان يتمّ ذبح البشر وتقديمها لإرضاء الآلهة، فالذبح هنا/ القربان ــ الذبيحة/ هو لأحياء الآخر، الأقوى سلطة، وهنا في نصّ “القربان” يتوجبُ تقديم القربان، حتى يتمكن “مولانا/ التمثال” من الوقوف مرة أخرى على قدميه بعد سقوطه إثر العاصفة، والأضحية تُقدم لله فقط، وغير ذلك فهو شرك كما وردت في الأحاديث الإسلامية، ولاسيّما القصة الأولى في الكون (قصة قابيل وهابيل)، لكن العنوان هنا يتجردُ من الزمكان ــ أي يخرجُ من دائرة الشكوك ــ ولكنه اسم مُعرف بعيدا عن النكرة ــ فالكلّ سيعرفُ به ــ وكأيّ عتبة فإنّه أيّ العنوان “يُظهر معنى النصّ ومعنى الأشياء المحيطة به”، فله دور المحفز لإثارة التوقعات، إذ ينزع العنوان إلى الأسطورة والميثولوجيا أيضاً، وقد لا يُرضي خيال القارئ في النهاية، لأنَّ فكرة القربان في النصّ قائمة على فكرة تأسيس العنف، وإلا ماذا يُسمى ويعني دفنُ (جودي)، الشابُّ اليافع حيّاً وهو في مقتبل عمره، والمعيل الوحيد لأسرته الفقيرة، حتى يكون قُرباناً لتمثال مولانا/ الرئيس/. فالقربان هنا تبرير للقتل والعنف من جهة، ومن جهة أخرى هو تقربٌ من مولانا، وإلا فلا “قيمة للفعل والفاعل إن لم يكشفا عن معنى”، وحتى يتمّ السيطرة على العاصفة كان لابُدّ من العنف واشباعه، واشباعه لا يتمّ إلا بالقربان، وإلا فإنّ العنف سيكون وبالاً على الجميع، وكأن القُربان هنا هو البديل لفئة ما، حتى تبقى بمنأى عن موت جماعي، فالإله “هو من يفرض على البشر تكديس اللحوم على مذابحه، فما يملك هؤلاء إلا أن يكثروا من الذبائح لتهدئة غضبه”، وكذلك مولانا/ تمثالنا لن يهدأ غضبه، ولن يستقر على قاعدته، ما لم تُقدم الذبائح البشرية أمام قدميه، كما وردَ في بعض النصوص الصينية الكبرى؛ بإن الذبيحة “تقوي وحدة الأمة”.
أمّا فيما يخصّ التعالق بين العنوان والمتن النصي، سيلاحظُ القارئ؛ بإنّ مفردة “القربان” تتكرر لفظياً على لسان مساعد النحات، ولاحقاً على لسان الوالي، الذي يسعدهُ ما سمعه، ويجدهُ الحل الأفضل والناجع للأزمة التي يعانونها بخصوص (مولاهم)، فمن خلال الحديث الذي يدور بين النّحات ومساعده، عن مشكلة عدم تثبيت قدميّ مولانا على قاعدته، والحيرة التي أصابت النّحات من ذلك، إلى أن يخبره مساعده، بأن ثمة عفاريت وشياطين في القاعدة، لأنه سمع جده يقول؛ بإنّ الأمر يحتاج إراقة الدماء، يقول مساعد النحات: “لا تسخر مني يا سيدي، لقد أكدّ جدي، وهو رجل حكيم، أن تقديم القربان سيخلص مولانا: أقصد تمثال مولانا المعظم من الشياطين والعفاريت التي ربما سكنت داخله أو داخل القاعدة”، لذلك “يرتهنُ ظهور النصّ بتسميته بعنوان، ليكون هوية وتعييناً له في العالم”، وعليه يمسكُ بالقارئ ويفضي به إلى مسرح الأحداث، فالعلاقة إذاً التي تجمعُ بين القوى الفاعلة والوالي من جهة، وبين تمثال مولانا وبين الغوغائيين من جهة ثانية، يفسرها العنوان “القُربان” بدلالاته الإيحائيّة.
ثانياً ــ القوى الفاعلة في النّصّ السّردي:
إنَّ عملية التأويل في أيّ نصّ إبداعي تتممُ فعل القراءة ــ باعتبار أنّ القارئ؛ يُعدّ مشاركاً ومنتجاً في عملية الكتابة ــ وذلك بالمرور بمجموعة من العناصر المكونة للبناء النصي، لأنَّ “القراءة تكشفُ النّصّ عبر جملة، وعبر هذه الجمل تكشفُ الواقع”، ومع عملية القراءة، تتمّ عملية التأويل، سعياً لإمكانية فهم “إجمالي للنصّ”.
وتمثّلُ الشخصية في أيّ عمل أدبي عنصراً/ عاملاً مهماً في العمليّة السردية، فعبرها يقدّمُ الكاتب الأحداث، الزمكان، لغة/ اسلوب الخطاب، فيقدمُ شخوصه بأبعادها ووظائفها، وأدوارها الرئيسية أو الثانوية خلال سيرورة الحدث السّردي، وبحضورها بعلاقاتها المتشابكة، يكشفُ الكاتب للقارئ مدى فعاليّة كل شخصية وقدرتها في تحريك السرد سلباً أو إيجاباً. وستتناولُ القراءة دراسة القوى الفاعلة في النصّ السردي “القُربان” اعتماداً على الترسيمة العامليّة لغريماس، وذلك عبر حقولها الإجرائيّة؛ بحثاً عن المعنى في الخطاب، “فالحديث عن النموذج العاملي باعتباره بؤرة تختصرُ وتكثّفُ مجموع الأدوار القابلة للتحقق انطلاقاً من كون دلالي مجرد، وهذه الأدوار هي تسنين لسلسلة من السلوكيات وتثبيتها في أشكال عامة”، والقوى الفاعلة/ الشخصيات في النصّ، هي في علاقات متنامية ومتشابكة معاً، فوجود مولانا/ التمثال، والضربة التي تعرض لها، يستلزمُ حضور جميع القوى، التي عليها إيجاد الحلّ السريع، والكشف عن سمات وثيمات هذه القوى الفاعلة، يتمّ عبر الخطاب الذي يدور بينها جميعاً، وستتناولُ الدراسة البرنامج السّردي الأول لشخصية (جودي)، والذي يُمثلُ برنامج الانتفاضة الكرديّة ذاتها، على الشكل التالي:
البرنامج السردي لجودي
(الانتفاضة الكُرديّة)
الموضوع (إسقاط تمثال مولانا/ السّلطة)
الذات المُرسل المُرسل إليه
(جودي) (الحرية) (السوريون)
مساعد: (العاصفة/ الكرد) المعيق: (الحارسان)
الذات/ البطل جودي، يتعرضُ للضرب والاستغلال من ربّ عمله/ شهاب، حيثُ يعمل بأمرته وأوامره في بيع الدخان، فهو المعيل لأسرته، وعليه أن يؤمن لأمه وأختيه لقمة خبزهم اليومي، بعد وفاة والده وتركهم لمصيرهم دون سؤال الأهل ومساعدتهم، إذ ينالُ من شهاب الصفعات بحكم استبداه وسلطته، إلى أن تأخذه العاصفة/ الانتفاضة لجهتها، فيشارك مع كلّ الأيادي التي امتدت لتسقط تمثال مولانا، سعياً للحرية، الحرية التي لبى جودي نداءها، وكلّ الكرد السوريين من أقصى الشمال حتى دمشق العاصمة ومروراً بكلّ المدن السورية ذات الأغلبية الكردية. البطل/ الذات الذي شدتهُ العاصفة لها، كما شدتْ الجميع في ذلك اليوم، وفي رده على المحقق الذي يتهمه بإسقاط تمثال مولانا، يقول جودي: “العاصفة هي السبب يا سيدي، لقد جعلت العاصفة تمثالُ مولانا يهتزُ ويتأرجح، ففي صباح ذلك اليوم الذي هبت فيه تلك العاصفة القوية التي اجتاحت المدينة، وتطايرت علب الدّخان من يدي، ركضتُ من شارع إلى شارع للحاق بها، كانت العاصفة تهدرُ بقوة، حتى وضعتني في الساحة”، جودي لا يمثلُ في الخطاب الدرامي إلا ذلك الكردي الرازح تحت فقره وحاجته، واستبداد مولانا/التمثال، المتحكم في رزقه، عبر شهاب/ظلّ مولانا، فلولا العاصفة لما تمكن جودي/ البطل من اللحاق بأخوته السوريين/ المُرسل إليهم، والذين يرزحون مثله تحت سلطة مولانا/ سلطة النظام، فبين رغبة جودي كذات وموضوعه في المشاركة في إسقاط التمثال، كان لابُدّ من العاصفة، لأسقاط تمثال/ مولانا، رغم الحماية القصوى من الحارسين، اللذين حاولا بكلّ جهدهما توفير كل الحماية لمولانا، ولكنه مع ذلك سقط مرة أخرى، ليتحول الحارسان إلى ضحيتين/ ذبيحتين للتمثال. فالإبلاغ المفاجئ بين المرسل والمرسل إليه، زاد من قوة العاصفة/ الانتفاضة، إلى أن احتدّ الصراع وسقط التمثال ومعه الحرّاس.
أما البرنامج السّردي الثاني ــ والذي يُمثّلُ برنامج الوالي/ القائد والعسكر المتحكم بمقاليد البلاد، والذين يعتاشونَ على نهب خيرات المدينة الصغيرة ــ تنتظم الخطاطة على النحو التالي:
المُرسلُ: النيلُ من الغوغائيين الموضوع: تثبيت التمثال المُرسل إليه: الشعب
المساعد: القوى العسكرية الذّات: الوالي/ جسد السلطة المعيق: لا يوجد
فالثأر قد اقتحمَ ذات الوالي، لينتقم لهيبة مولانا/ تمثاله، الذي سقط في وسط المدينة، وعليه أن ينتقم بإراقة الدماء، حتى يعود مولانا للوقوف ثانية على قدميه، بعد فشل كلّ المحاولات لإعادته للقاعدة، والوالي يسعى بكلّ جهده إعادة الأمور لنصابها، فـ (مولانا) ــ هنا ــ يجب إلا يبقى في حالة السقوط، ولا يجوز ذلك، فهو القائد الأعلى، والذي لا يموت، والسلطة التي يجب أن تستمر، حتى لو على أجساد شعب بأكمله، لذلك لا يصدر من الآخر غير التعظيم وتنفيذ الأوامر، فالتمثال هو العامل/ الموضوع، “فالعامل هو نوع من الوحدات التركيبية ذات ميّزة شكلية خالصة، يمكن أن تكون العوامل كائنات بشرية أو أشياء لها عنواناً مهماً كانت طريقة بنائه، حتى ولو كانت هذه العناوين بسيطة فهي ذات فعاليّة تؤهلها للمشاركة في القضية”، فالوالي و(مولانا) عاملان لكلّ منهما وظائفه، وعلى الوالي أن يُنجز لمولاه الوظيفة التي تقعُ على عاتقه، كحامي للتمثال، فيقدم له الضحايا والقرابين، فالذات/ الوالي عضو من جسد السلطة، هويته ودلالة شموليته، وتجسيد لها، بأسماء مختلفة، الوالي صوت وصورة (مولانا)، ولا يخفى دوره في تشكيل بنية الخطاب الدرامي بحسب غريماس.
فالوالي/ الذات؛ تمثيل لخطاب السلطة، عبر اللغة التي يعالج فيها المواقف والرؤى، فيؤدي دوره المنوط به، واستخدامه لضمير الجمع أثناء الحوار، ليس إلا تأكيد على امتثاله لأوامر (مولانا) “لقد أصبحنا سخرية، لقد قررنا ..، بدأ صبرنا ينفد”، فيخلق بذلك حوله الأسئلة، لتخلق بدورها طاقاتها الدّلاليّة والايحائية وحتى الرمزية على كامل المتن النصي، يقول الوالي خلال الحوار الذي يدور بينه وبين النحات حول التمثال: “لقد أوكلنا إليك فقط، دون بقية فناني الولاية، شرف هذه المهمة، إن تثبيت التمثال في مكانه مهمة وطنية عظيمة، ويجب أن تنجزها بسرعة”، وكأن الوالي هو ذلك الكاهن القديم، الذي يتوجب عليه تقديم ذبائحه لأصنامه، حتى ترضى عنهم، وينال الحبور والتقرب من الأصنام/ التمثال، وها هو اليوم عليه تقديم القربان لقدمي (مولانا)، حتى ترتاح روحه، لما فعله الغوغائيون “لقد قررنا تقديم هذا الغوغائي قرباناً لتمثال جلالته … وانتهى”، فهو التمثال/ الصنم المقدس، يقول مخاطباً النحات وبلهجة مُضمرة بالتهديد: “مولانا أسطورة، أليس مولانا أسطورة”، يقولها الوالي ويكررها أمام النحات “لقد قررنا وانتهى الأمر، قرارنا هو تقديم القربان لمولانا”. وبذلك يحقق الوالي رسالته في النيل من الغوغائيين/الكرد ــ كما أطلق عليهم تقليلا لشأنهم وقيمتهم، بمساعده حشودهم ومؤيديهم وأعوانهم أمثال شهاب، المحقق، القوى العسكرية، والكثير من الذين أغمضوا عيونهم عما يجري على الأرض من قتل وسجن وتعذيب، وقدموا فروض الطاعة لتمثالهم المعظم/ المقدس، ولا يخفى دور النحات كعامل مساعد لجانب الذات/ الوالي، لتنفيذ القُربان، وأيضاً مساعد النحات، الذي تقدّمَ بنصيحة جده، إضافة للجهات التي حاربت ووقفت ضد الانتفاضة بكلّ الوسائل، حتى في لقمة عيشهم، وعلى منصاتهم الإعلاميّة ــ لقد تمّ النيل منهم، لفعلتهم الشنيعة في إسقاط تمثال (مولانا)، هي رسالة لكلّ غوغائي/ كردي، وليس ثمة من يقفُ في وجه التمثال/ مولانا/ الوالي/ السلطة، التي هي إحالة للنظام المستبد طيلة سنوات طويلة، السلطة الأكثر عنفاً، فقد تمّ إيداع الغوغائيين السجن، وجودي واحد منهم ويمثلهم جميعاً، “ها هو الوالي والنحات وبمساعدة العسكر، يقودون جودي مقيد اليدين ومعصوب العينين، يتمّ دفع جودي ــ بإشارة من رأس الوالي ــ إلى جوف قاعدة التمثال، ثمّ يسدان فتحة القاعدة”، ليتحولَ (جودي) بذلك إلى (الافخاريستيا ــ سرّ القربان المقدس)، لتمثال مولانا، وتأكيداً على ماهية حضور مولانا/ الرئيس.
القارئ إذاً أمام لغتين/خطابين، خطاب السلطة والشتم والقتل والعنف “من طلبَ منك القيام بهذا الفعل الشنيع؟ من حرضك يا حمار ..!” يقولها المحقق لجودي، ويردُّ جودي “لقد ربطوا أسلاكاً كهربائية بـ ..! بأعضائي السفلية”، أمام لغة الفقر والتوتر والتوجس والقهر، يقول جودي خلال الحوار الذي يدور بينه وبين شريكه المسجون: “كلّ واحد منهم كان يركلني في جانب جسدي وهو يشتم أمي وشتموا أختي أيضاً، أمي ليست عاهرة، أمهاتكن هنّ العاهرات”، فالبنية العاملية في النّصّ؛ هو إسقاط لأكوان جماعية وفردية”، لذلك التأويل يأخذ بالقارئ إلى الأعماق، فهو لا يهتم ــ في الأغلب الأعم ــ إلا بإظهار ما في نصٍّ ما من عمقٍ، وتجليته إلى مستوى قريب من إدراك الناس له”، فثمة تقاطعات كبيرة وكثيرة وعميقة جداً بين الواقع والأحداث التي يشهدها النصّ وشهدتها المدينة الوادعة صباح يوم رياضيّ، فمخيّلة القارئ تتممُ آلياً مُخيّلة المؤلف كما قال ميلان كونديرا.
يقول غريماس في كتابه “سيميائيات السّرد”، بأنَّ العامل ــ الذات ــ يمكنُ أن يُنجزَ في إطار برنامج سردي معين، عدداً معيناً من الأدوار العامليّة، كما في شخصية النحات؛ كعامل مساعد مع الوالي في برنامجه ضد جودي، ليعود من ثمّ إلى برنامجه السردي الخاص به، على النحو الآتي:
الذات: النحات المرسل: حالة الندم المُرسل إليه: السلطة
الموضوع: القمع المساعد: الإيمان بالحرية المُعيق: السلطة
النحات فنان، وكمثقف، يعودُ ويتراجعُ عن فعل الصمت، وعن انتهازيته وخوفه في برنامج الوالي، إلى فاعل متكلم، رافض لهيبة الدولة، فيقفُ في الجهة المضادة لتمثال مولانا، بعد أن أثبتَ قدميه على القاعدة، ليعود كمعارض على أفعاله، يُظهرُ الوجه الإنساني، الذي وإن ارتضى في البداية، أن يكون وجهاً من وجوه السلطة، فيقفُ مع جودي، ويحاول إنقاذه من تحت قدمي (مولانا)، فبعد أن تمّ دفن جودي، يغادر الوالي، ولكن النحات “يلتفتُ نحو التمثال المرة تلو المرة باضطراب وهلع، يغادرُ المكان وهو مطرق الرأس”. ومع كلّ التناقض والاختلاف الذي أظهره النحات، لم يتمكنْ من الفرار عند الأسئلة الشائكة، ليعودَ مرة أخرى ويقف بجانب التمثال، ويضحك كمن أُصيبَ بالهستيريا، ويسمع صوت جودي، ليقول: أما زلتَ حياً، ….”. فالمُرسلُ/ حالة الندم، التي أصابت الذات لم تدعه يستنفذُ كلّ قواه ومواقفه طويلا، طالما كان الفنان، المثقف، والمتعلم، وجه الحياة ومدافعها، في وجه المرسل إليه/ السلطة التي تُشكلُ هذه الرسالة إليها، رسالة الرفض ضد القمع والاستبداد، فيكشفُ الوجه الآخر لصمت المثقف، الذي ما عاد مرتزقاً، ويرفضُ أن يتركَ العنان للوالي/ للسلطة، أن تفعلَ ما تريد، وتبيدُ من تشاءُ، ثمّ يخاطب مولانا قائلاً: “ارفع قدميك يا مولاي، ارفعهما عن الفتى، هيا أيها التمثال، ويحاولُ أن ينزعَ قدمي التمثال عن القاعدة”، فيتحولُ إلى صرخة في وجه حاملي الأزمة وفاعليها، إنّهُ يحاولُ إسقاط التمثال بحماسة قوية، ويقولُ: “ارفع قدميك عن الفتى، الفتى حيّ، إنك توغلُ في الدّم، ارفعهما أيها الصنم”، حتى تخترقُ جسده رصاصات الوالي/ مولانا.
النحاتُ يمثلُ صوت الحق والمعرفة، وإن كانت نهايته لا تقلُ وحشية عن نهاية جودي، ولكنه دافع عن موقفه ورأيه الذي يمثلهُ، ضد القمع، كان لا بُدّ للنحات/ البطل الوقوف ضد هذا القمع/ الموضوع الذي يُشكّلُ هاجساً مخيفاً لدى الشعب، فالوقوع بين براثنهم، يعني الغياب؛ والغياب يعني الموت، ففضّلَ النحات الموت إلى جانب جودي، ليتجاوزا معاً/ كرمزين، حالة الخوف ويكسرا القيود المفروضة، في مواجهة نظام/ سلطة، وقف فيها الوالي/ المعيق الأكبر لأي إنجاز يسيرُ بهم للحرية والخلاص، “فها هو صوت أزيز الرصاص، ينزلقُ على أثرها النحات عن التمثال، ويتكون عند قدميه مُضرجاً بدمه”، إنَّ إيمان النحات والذي كان عاملاً/ مساعداً قوياً، أخرجه من صمته، ليبقى شعلة الغدِ القريب. فالنحات كعامل في النص، شكّلَ فاعلاً تابعا ومنفصلاً في الوقت ذاته، كعامل مساعد في تقديم القربان، وعامل مضاد يعاكسُ الرؤية الأولى، فانتقل من عامل مساعد إلى عامل مضاد.
إنَّ الكاتب وبتقنيّات سردية عاليّة، يحومُ حولَ الشخصيات/ الفواعل العاملة والمتحوّلة في الخطاب الدرامي، ولكن تحت مراقبة فعّالة ومجديّة، فيما يقدمونه من أدوار، وكأن مفهوم الشخصية العاملة، “مفهوم شمولي ومجرد، ويهتم بالأدوار ولا يهتم بالذوات”. فمقتلُ النحات/ البطل في برنامجه العاملي، يُعيدُ في الذهن، دائرة العنف والأضحية، دائرة الرغبة المسعورة بالكراهية، رغبة السلطة التي لا تخطو إلا على أجساد شعوبها، وبذلك اتسعت دائرة الذبائح/ القرابين، وستطولُ ــ لاحقاً ــ الشعب بكلّ مكوناته، حيثُ الانفجار السوريّ الأكبر.
خاتمة:
إنَّ النصّ؛ يبقى مفتوحاً على التأويلات، طالما هو نصّ زاخر بالإيحاءات الغنية، والدّلالات الثقافية والأيديولوجية، وبلغة مجازية عاليّة، ومساحة لاستكشاف مرامي النّصّ ومقاصده، وأبعاده، ومفاصل النّصّ القوية، كما لا يمكنُ أن تبتعدَ القراءة عن مناخات الكاتب الخاصة، إذ يتسعُ لكلّ قارئ؛ أن يبدي مفهومه للتلقي، تبعاً لمخزونة الثقافي والمعرفي، ولما يقرأ ويرى من علامات وإشارات تبديها اللغة السّردية، سواء أكان حدثاً وحواراً نابضاً داخل النّص أو خارجه.
[1] ـ أحمد إسماعيل إسماعيل: ليلُ القرابين، مجموعة مسرحية، الناشر: دار أوراق للنشر والتوزيع، القاهرة ـ مصر، 2019، ونصّ (القربان) ــ الذي القراءة بصدده ــ من أحد مسرحيات المجموعة، ص43 ــ 73.