يبدو أن فكرة فلسفة الحياة ومجاهل الكون والنزعات البشرية هي المواضيع المفضلة التي تدور في فلكها روايات الفرنسي ايريك ايمانويل شميت. كانت أول معرفتي به كقارئة من خلال روايته “السيد ابراهيم وأزهار القرآن“، وتعالج فكرة التشدد الديني، وضرورة التعايش من خلال علاقة تنشأ بين رجل مسلم وطفل يهودي.
تالياً قرأت له رواية “ليلة النار” كتبها بعد رحلته الشخصية إلى الصحراء الجزائرية، فبطل العمل يتوه عن أصدقائه، ويقضي ليلته متجمداً من البرد، يفكر بالحدود الفاصلة بين الموت والحياة، وبالقوة الإلهية التي تدير الكون.
تتكرر الثيمة في عمله “يرى من خلال الوجوه ” الصادر عن دار مسكيلياني عام 2019، حيث يختار مدينة شارلوروا مسرحاً لأحداث متلاحقة ضمن حبكة بوليسية مشوقة.
منذ بداية الرواية يظهر أوغسطين الصحفي المتدرب الذي تقوده الصدفة لأن يكون شاهداً على عملية انتحارية يذهب ضحيتها الأبرياء، ينقلُ على إثرها إلى المشفى مع المصابين، لتبدأ المغامرة وتتبدل مجريات حياته، حيث يطلب منه مدير جريدته الانتهازي بيغارد تزويده بتفاصيل ما شاهده في اللحظات الأخيرة قبل الانفجار، لنشرها وزيادة مبيعات الجريدة، ولكن يبدو أن تطورات السعي وراء كشف ملابسات الحادثة ليست بالأمر السهل، فما جرى أمام أنظار أوغسطين له أكثر من تفسير، كما أن الحقيقة لها أكثر من وجه.
أوغسطين الشاب اليتيم الذي عاش في دور الرعاية، بشخصيته المهمشة والمركبة بين السذاجة والانسانية يملك موهبة رؤية الموتى، وعندما يختار مبنى مهجوراً لينام فيه، يعثر على حاسوب الإرهابي القاتل حسين بدوي، ليجد نفسه ملاحقاً من الشرطة التي تشك بإفادته، فما الذي يستطيع فعله أمام الورطات والمطبات التي تحدث له، فهو أضعف من أن يكون لنفسه رأياً، ولكنه أيضاً محور كل الآراء.
أفكار طغت على الأحداث والتقنيات
شخصيات الرواية الرئيسية تدفع الحدث المركزي، وتحافظ على مساراتها حتى النهاية، وهي : أم كلثوم زميل/ة العمل.. المحقق المتجهم الساعي وراء المجرمين.. القاضية المتفهمة التي تظهر وتختفي بشكل مفاجئ.. الشقيق الصغير للإرهابي المهووس بتكرار فعلة أخيه.. إضافة إلى شخصية الروائي إيمانويل شميت، إذ يجري أوغسطين معه لقاء صحفياً، لكن علاقتهما تتطور، لتتخذ شكل المعلم الحكيم والتلميذ المطيع المستمع إلى أفكاره الصوفية وعلاقته بكتبه وكلابه وملاحظاته عن الحياة، فشميت المحاط بمجموعة من الموتى من الكتاب العظماء مثل ديدرو موليير بوذا يستغل شغف أوغسطين بالمعرفة، فيدفعه إلى تجربة روحانية. حواراتهما المطولة تشغل فصول عدة تكفي لعرض آرائه. أورد منها هذه الاقتباسات، فعن علاقة الأديان بالعنف يقول:
” لقد قُتل البشر باسم جميع الديانات حتى الروحانيات الشرقية بررت الحروب، فالبوذية رغم طابعها السلمي تم التلويح بها خلال حمامات الدم التي شهدتها بورما وسيرلانكا”
وفي تحليله لأسباب التطرف، يقول:
” ثمة رابط بين الجهل والعنف يبدو لي العنف عملاً يائساً للهروب من انعدام اليقين، أولئك الذين يقومون بأعمال عنيفة يريدون أن يكونوا على حق وألا يقع تكذيبهم, إنهم يرغبون في الهروب من الأسئلة.”
لا أريد كشف الأحداث أو قطع المتعة عن من يرغب قراءة رواية تكمن أهميتها في جدالاتها، فالتفجير الانتحاري ضمن حبكة قائمة على الحوارات ليست إلا وسيلة لطرح الأسئلة، ولعرض أكثر من مفهوم، والحصول على أكثر من وجهة نظر، وسواء اتفقنا أو اختلفنا معها، إلا أن الكاتب شميت المتخصص بالفلسفة، والدارس للأديان الذي يعتبر الإسلام دين الحكمة، استفاد من تخصصه وسعى بذكاء لتحدي آراء القارئ الخاصة، وحثه على منهجية التفكير، فهو يهاجم الأديان ويدافع عنها في آن، وبدل أن يكتب بحثاً عن مقارنة الأديان، والكتب السماوية بدءً من العهد القديم ووصولاً للقرآن الكريم، نشر رواية جذابة لا تخلو من مفاهيم الإرادة الحرة للإنسان، ومصدر الشر، والقدرية، والتطرف.
الكتاب الجيد هو الكتاب المحفز رغم وفرة الأفكار وتشعبها ولغة الأستذة التلقينية، ورغم مهاجمة البعض لمحتوى الرواية لأن فصلاً منها يقوم على حوار مع الله سبحانه، لكن حرية التعبير المصانة في الغرب مازالت تتيح لنا كتباً قابلة للنقاش والانتقاد لو شئنا، فقد حرضتني رواية “يرى من خلال الوجوه” بعد إنتهائي منها على استرجاع الحكاية، وإعادة قراءة أجزاء منها، وأنا نادراً ماأفعل ذلك.
*إشراق