سوزان خواتمي: ظلال حافية

0

في الجهة الغربية من البلدة الصغيرة، كثيرة الناس، قليلة الوجدان ينحدر الدرب كأنه اليقين باتجاه نهر يلتف بقوس مفتوح حيث يتدفق بقوة، ثم ينساب بالقليل مما بقي منه نحو الأراضي المنخفضة.

الشابة التي تقطع طرقات الضيعة كانت كحيلة ببشرة قمحية، وقدّ متناسق، تلبس فستاناً مزركشاً يشبه حديقة مسروقة بزهورها الصفراء والحمراء والخضراء، تلم شعرها بمنديل عقدته الى الخلف، وتلف خصرها النحيل بزنّار عريض، وعند أطراف فستانها تظهر أصابع قدميها الطويلة من مقدمة نعل خفيف.

كانت تشبه باقي النساء ولا تشبههن أيضاً.

أُشيع بأنها طفلة الماء التي انزلقت من بين فخذي أمها ، فعّمدها النهر، وسحبها معه منذ سنوات كثيرة، ويبدو أنها رجعت، لكنها مجرد إشاعة أخرى لا يمكن تصديقها، ولا تكذيبها.

كانت تمشي بشرود تام، خطوات تتسع ولا تستعجل، تتبع إشارات الدرب والحصى، ورغم أنها بلا خريطة ولا دليل إلا أنها لم تسأل أحداً، ولم تلتفت. كانت تسترشد بظّل أثار حفيظة أهل الضيعة الذين فقدوا ظلالهم منذ أمد بعيد، مدّعين للتخفيف عن أنفسهم أن الظل شيء يكاد لا يرى، مخلوقٌ من ريح عابرة، ولا يعدو أن يكون انعكاساً تافهاً وتفصيلاً غير مهم حتى إنهم ما عادوا يتذكرونه.

صبية في هذا الوقت من النهار ترافق ظلها.. !

أمرٌ يخالف قوانين الضوء، ومنطق شمس أثارها التحدي فازدادت نزقاً، صارت ترسل المزيد من لهبها وضوئها بحدة صيفية جعلت حبيبات العرق تنز وتلمع فوق الوجوه المتعبة والجباه التي تجعدت.

فجأة أشار نحوها طفلٌ حاف كان يلعب الكرة:

“إنها الساحرة، رأيت صورتها في كتاب المدرسة.. أرجوكِ تعالي العبي معي”

رمقتها امرأةٌ تلبس تنورة غجرية، وتلطخ فمها بأحمر قرمزي، وقالت ساخرة:

” ساحرة! ليست سوى فتاة عادية بنهدين متهدلين، عندما تصلين النهر لا تنسي أن تغسلي ثيابك الوسخة ” ثم أشاحت وجهها بقرف.

أبعد رجل أشيب كان يقحُّ طوال الليل، مبسم نرجيلته عن شفتيه، وقال:

” إنها على موعد غرامي عند ضفة النهر، مثل أزواج الحمام يلتقون هناك يتراشقون بالماء يثيرون زوابع الضحك والفجور، جيل بلا حياء قصف الله عمرها”

تساءلت طفلة وهي تفلت يد أمها:

” أريد أن أرافقها. أمي .. ما هذا الشيء الطويل الذي يجري أمامها؟”

  • إنه ظل لا أكثر.
  • ما معنى ظل؟

لكن أمها شدتها من كمها مبتعدة وهي تقول:

“هواء .. ريح سوداء إياكِ والاقتراب منها”

أطلت زوجة سمينة من نافذة بيتها الواطئ، وصرخت :

كم يبدو عليك الغباء أيتها الفتاة، من المؤكد أنك ستضلين طريقك وأنت تتبعين هذا الشيء، ولن ينفعك بعدها الندم..”

أفاق رجل ينام تحت الجدار من سكره مذعوراً، وقال:

“هذه هي المرأة المدهشة التي زارتني في الحلم، أريد أن أتزوجها”

إمام الجامع الذي نزل لتوه عن المئذنة، وبين أصابعها تدرج حبات السبحة، قال متأففاً:

“إنها من علامات الساعة.. امرأة تعكس ظلها وتستهدي به طريقها، يا لطف الله ، يا جبار يا حفيظ احفظنا من آخر الزمان، زمن يأجوج ومأجوج”

عسكريٌ عابسٌ يقف أمام باب المخفر، قال:

” سأكتب تقريراً عنها، أظن أنها من المطلوبات للعدالة.. وجهها وجه مجرمة “

توقفت عجوز تبيع الخضار عن ندائها، تمتمت بصوت خفيض:

” ستعيشين وحدك وتموتين وحدك، لن يسأل عنك أحدٌ.. بظل أو بلا ظل، ما الفرق؟”

المتسول الذي كان يحشو جيبه بالخبز اليابس، اقتطع لقمة بأسنانه، ومد يده نحوها بالباقي.

أما بهلول الضيعة، فما أن لمحها حتى أجهش بالبكاء.

الضوضاء والتكهنات والأسئلة التي تساقطت من الأفواه لم تكن تبحث عن إجابة، كما أنها لم تجعل البنت الغريبة تلتفت.

بقيت مأخوذة بعالمها، كأنها روح غريبة لا تسمع، شاردة، والأحلام الطازجة تتبعها.. استمرت تمشي بخفة تكاد لا تلامس الأرض.

عبرت البيوت المكشوفة ، الحكايات العتيقة ، الساحة المزدحمة، الدكاكين، البضائع ، النوافذ المفتوحة، وتلك التي أغلقت بالمسامير، الأشجار التي تعبت من طول وقوفها، البراعم المترددة، الضحكات، الأسئلة، الغضب، أهلها الذين لا تميزهم.

كانت تنظر أمامها دون إلفة، لم يبد أن شيئاً مما حولها يهمها.

لكنها توقفت حين سمعت صوت مكابح، بعدها تعالى صوت زمور متتابع.

طار شرر من تحت عجلات حافلة كادت تدوسها.

زعق السائق، وقد بانت أسنانه المنخورة، ولوزات حلقه الحمراء:

” عدتِ لنبتلي بك، لا ينقصنا مصائب، كنا مرتاحين من دونك أيتها الخرساء الصماء”

رعشةٌ مفاجئةٌ وريح طارئة عبرت جسدها، انكمشت.. ضمت أطراف ثوبها.

سمعت كما سمع الجميع نداء يأتي من بعيد.

تسمروا في أماكنهم، وحدها بدأت تركض باتجاه النهر فاتحة ذراعيها مثل طير يطير.

جريدة اشراق