سوزان خواتمي: العتبات المحظورة

0

كان صباحاً  نزقاً.  لم أكن قد شرِبتُ قهوتي بعد حين رأيتُه ينطلقُ مثل صاروخٍ داخل الصالةِ معتليًا دراجَته ثلاثية العجلات.

أطار المشهد المفزع بقايا نعاسي، سبق أن حذرته، بل حذرﺗﻬما، هو وأمه، من الاقتراب. قبلها لا أذكر أني ضربته، حتى حين يتجاوز طاقتي على تحمل شيطنته، كنت أكتفي بنهره، أو بشد أذنه حتى تحمر، أما أن أصفعه فتترك أصابعي علاماﺗﻬا فوق خده الأسيل، فذلك ما حدث.

لم يكن حال بيتنا البسيط بأثاثه المتواضع وهدوئه المريح على ما آل إليه الآن..

تغيرت الأشياء.. لا أقصد الغيوم العابرة، التي تمر دون أن تترك أثرًا، كمشاحناتٍ بسيطةٍ بين حبيبين تحفز على احتضان المصالحة، بل هي مرايانا التي لم تعد تعكس سوى الوجوم والنفور، وبكاء طفلي منزويًا، والنقاشات العقيمة المليئة بالشك والارتياب.

كأنها لعنًة حلت بعد أن نقلت التمثال الذي صنعته من قبو الورشة إلى صالة الجلوس. كان لابد من اتخاذ الحيطة، حجمه الكبير تطلب إخلاء مساحة مناسبة، تغييرات كثيرة طالت قطع الأثاث التي جمعناها بعضًا فوق بعض..

بطبيعة الحال ضاق المكان، لم يعد بالإمكان التمدد بحرية، حتى أن فرد الساقين أو الاستلقاء دون الاصطدام بشيء ما صار أمرًا يستدعي حركاتٍ ﺑﻬلوانية.

أعلنتُ بصوت مسموع تحذيراتي المتشددة، لم يعد مسموحًا لابني أن يلعب كما تعود أن يفعل.. لكن يبدو أن الصغار لا يستوعبون القوانين الطارئة، والعتبات المحظورة، بما فيها التغيرات التي اقتضتها الضرورة.. أما الكبار -زوجتي مثلا- فما أن أبصرته أول مرة، حتى ألقت فوق رأسه أقرب قطعة قماش طالتها.. صرخت:

– عيناه يا رجل تراقبانني.

بتحفظ وانفعال لملمت شعرها الطويل، وسوّت أطراف ثوﺑﻬا، فيما اكتفيت أنا بنشوة عبرتني معتبرًا تلك الصيحة برهان نجاحي.

أسَّرت لصديقاﺗﻬا المقربات، بين الشهقة والشهقة، أﻧﻬا تحولت من سيدة بيت تملك زمامه، إلى امرأة غريبة تختبئ في الأماكن الضيقة والمحرجة، حتى تكاد تتلاشى.

قالت لهن إﻧﻬا لم تعد تتعرى منذ صارت عرضة لناظري ذاك التمثال، مازالت تخافه، وأقسمت بأنه يحدّق بوقاحة، يلاحقها ليل ﻧﻬار، يستهدفها بنظرات ذئبية، ليس تمثالا بريًئا بالمرة..

ندبت حظها: مستحيل أن ننجب طفلا آخر.

تتركز موهبتي عند أطراف أصابعي، حيث ينمو إحساسي ويموت. كنت أستشعر الأشياء لمسًا لكن الشقية لا تفهمني.. لا تقدر إنجازي حق قدره..

التمثال يقيد حريتها.. أي هراء!.

ليال طويلة من الدأب: نشرتُ.. طرقتُ.. حفرتُ.. ملستُ.. ولمعتُ.. مرَّرتُ أصابعي الخشنة فوق الانحناءات الأكثر صعوبة.. جسسته بتأنِّ، لم أهمل أدق التفاصيل المتعبة، حتى تيقنت من اكتمال التمثال، منتصبًا بقامة ممشوقة، وساعدٍ يمتد بكبرياء .. وقعتُ في حبه.. وربما هو الذي فعل.. أنا صانعه الموهوب.

مهارتي كفنان ورثتها عن أجداد واظبوا على صنع تماثيلهم جيلاً بعد جيل، حتى صارت لنا تلك السمعة..

إﻧﻬا متعة تحويل مادة ما إلى شيء ثمين.. تحفة من غير أن يشكِّل أصلها الطيني، أو الصخري، أو الخزفي أو حتى الحديدي أيَ فرق! ..

حلمت بتمثالي كل ليلة.  كان يظهر لي أشبه ما يكون بآلهة قديمة يعبدها البشر، لكن اكتماله باغتني شخصيًا: كم تتغير الأشياء! ..

أطيل في تأمله، أكاد أشك بأنه لم يكن إلا جذع يابس يرقد في الظل، ولولاي لنخره السوس أو تحول حطبًا في بطن مدفأة.

أفرطتُ في مباهاتي مدّعيًا:

“مصنوع من خشب الصندل الإفريقي..”

“ذاك لونه الأصلي دون رتوش ولا تلميع بالشمع الواقي..”

“تنعكس قامته في أكثر من خيال.. “

بعض الغرباء، خصوصًا الذين قطعوا مسافات كبيرة لرؤية التمثال لم يصدقوني؛ زعموا أنني أبالغ، وأنه ليس إلا تمثال آخر!..

كيف أقنع بغالا عنيدة؟. أقسمت أن التمثال يطلق موجاتٍ مغناطيسية جاذبة لها تأثير إيجابي على ثقب الأوزون.

ضحكوا!.

يتناسل الكذب مثل كرة ثلجية لا تتوقف.. أما المغالاة فعادٌة جديدٌة استحكمتني مؤخرًا..

أزاود، وأزّور، لينقلب الخيال واقعًا، فيما يختال التمثال بنظرته المترفعة، وعنقه المتطاول، من دون أن يأبه للشجار الذي ينشب بيني وبين زوجتي..

وزوجتي لمن لا يعرفها، هي المخلوق الذي وجد في حياتي ليقول: لا .

هددتني:

– لا طاقة لي على احتماله، إن لم تخرجه من وسط بيتي سأرحل.

– تتركين بيتك؟.

– أتركه.. ما عاد بيتًا إنه مجرد مكان.

لم يكن من دليل على أن الحياة دبّت في أوصال التمثال سوى صرير يُسمع في الليل، ومخاوف امرأة تستشير قلبها، وتؤمن بحدسها دون جدال.

شح الضوء في مصباحنا المتقد، حدقتُ في كفيّ المليئتين بالندوب.

لم أكن بشجاعة “بيجمليون” لأحطم تمثالي. ارتبطت أقدارنا بخيط خفي لا يمكن قطعه أو التحرر منه، أما التراجع فخطوة الجبناء.

أنا نفسي لا أستطيع التخلي عن الأوهام التي ادعيتها، أو الإقرار بأﻧﻬا كانت استنتاجات غير مقصودة، ولو أردت، فكيف أواجه الناس لأعترف بأنني أخطأت التقدير، وبأنه تمثال أخرق، لا يقدم في ميزان الكون ولا يؤخر.. وبأﻧﻬا كانت معايير فنية خاطئة؟. فما ادعيته خشب صندل ليس سوى غصنٍ أحمقَ ألقاه أحدكم في حديقتنا الخلفية ومضى.

على زوجتي العزيزة أن تتفهم، بأني متورط حتى الإبطين، وبأن التفوه بكلمة صدق واحدة أصعبُ كثيرًا من حبك سلسلةِ أكاذيب.

أما الاعتذار، فهو الجنون بعينه!. تمامًا كمن يتخلى عن رجولته وكرامته.

الإصرار على الموقف أمر ثابت، وكل شيء آخر يمكن تدبر أمره. باللين أو

بالقوة، أستطيع إقناع زوجتي، في النهاية هي امرأة ، ما أكثر ما تغضب!.. وما

أكثر ما تغار!. يمكنها أن تعقد منديل رأسها، وتغلق باﺑﻬا، وتتحاشاني بقدر ما

يشاء لها صبرها، فليس من سبيل إلى الخلاص سوى قدرة إلهية، تعيدني رجلاً

بلا تمثال أو أوهام.

مازلت أؤمن بمعجزة سأتباهى ﺑﻬا أمام أجدادي.. لا أختلف عنهم.. ولا أخالف النسق. أدرك أن الحكاية ستستمر، وأن اختياري لأكون بطلها محض صدفة لا تعني الكثير، فقد خرج الأمر عن إرادتي، ليس فقط لأني ضربت وحيدي لأول مرة في حياتي، ولا لأني ندمت، أو تراجعت، ولا لأن نحيب زوجتي أوجع قلبي، بل لأن ما لم يصدقه الناس صدقه التمثال.!

*جريدة اشراق