سوزان خواتمي: أحدنا كان يرتعش

0

أحكمتُ قبضتي على أصابعها الناعمة الزلقة .. في حركة التصاق حميمة .. يداً بيد سرنا .. بكفين متشابكتين أخذتا تلوحان إلى الأمام والخلف بإيقاع انضباط رتيب .ولم تكن تلك عادتها ، إذ لطالما شاغبتني تلك اليد الصغيرة ، محاولة التملص والمشاكسة ، حتى أضيق بها ، وتضيق بي لترغمني في النهاية على التقاطها من زندها وسحبها خلفي .

أعجب لها .. كيف تستسلم الآن ، تاركة كفها الطيع مستكيناً هادئاً داخل كفي !.عرق خفيف نقلته لي أناملها المطمئنة ، من غير أن تتكهن باضطرابي الخفي : لا .. ليست السيارات المتسابقة على تهورها .. ولا أولئك الذين يعبروننا بتجهم الغرباء .. ولا الخواطر الخرقاء .. بل هي تجربة الفراق الأول .

ريح الخريف الخفيفة تكنس أوراق الشجر الصفراء . ” يا ليتني أحضرت لها سترة قطنية ” قلت لنفسي .الصباح رطباً ، انبعثت من الأرض رائحة أيلول الأولى ، طيبة وعبقة .و كنت بصحبة طفلتي سنا نتجه نحو مدرستها ( روضة البلابل ) .أول أيام المدرسة لا يربك بلبلتي الصغيرة ، على العكس تماماً ، تتوهج عيناها ببريق المغامرة .. تحاذني باستسلام وطاعة نادرتين .. تتبع خطواتي برصانة طارئة .. تتحصن بابتسامة حصيفة ناسبت زيها المدرسي : مريول أزرق بثنيات ثلاث منشاة ، قميص تناوبت عليه مربعات صغيرة من الأبيض والأزرق ، وشريط أحمر عقدته لها بعناية حول الرقبة .. حتى صارت تشبه معجزة اجتمع فيها كل ما في خاطري من حب .

ظلت سنا تتطلع إلى الأمام مباشرة متجاهلة نظراتي المصوبة نحوها . إنها تتبختر بثقة أحسدها عليها . خصلات شعرها المرفوع كذيل الحصان تهتز بخيلاء بريء ..عنَّ على بالي أيام ولادتها الأولى ، كانت فترة عصيبة ، قلق وقلة نوم ، لأكثر من أسبوع ، حتى استعادت طفلتي الرضيعة هدوءها النسبي ، وكفت عن بكائها المستمر .. ما أقرب ذلك الوقت إلى الآن !لقد تسرعت .. أقسم ، فمازالت في الخامسة من عمرها ، ومازال في الوقت متسع كي نفترق .. لمّ العجلة إذن ؟

كدت أنكس على أعقابي عائدة من حيث أتيت ، لولا أنني تذكرت الملل الذي صار يصيبها طوال النهار ، وهي تتابع رسومها المتحركة : قط يلاحق فأراً .. حروب فضائية .. وفتاة يتيمة تبحث عن أمها .. مسلسل عقب الآخر ، وهي متربعة كتمثال بوذا ساقاً بحضن ساق أمام الشاشة . كما أن جارتي أم عمار سامحها الله طاردتني حتى الإقناع : فعمار….ها صار يعد حتى العشرة .

يربكني صمت سنا الطارئ ، وهي الآنسة ” إشارة استفهام ” كما أمازحها حين تتعدى استفساراتها حدود المعقول .قلت في محاولة لخلق حديث يكسر صمتها : دقائق وتلتقين بأصدقائك الجدد .أومأت برأسها ، وقالت بتأكيد مختصر : أعرف .يا لحماقتي ! أولم أحدثها مفصلاً ، حتى عرفت كل شيء ، ولم تكتف .. بعدها أمطرتني بأسئلة متتالية ، كان آخرها :” وإذا حسيت مغص في بطني يا ماما ؟ ” .كانت متشوقة : ستتعلم الحروف .. ستقرأ مجلاتي .. سترسمني .. وستلعب أيضاً ..البارحة ليلاً وثبت فوق ركبتي ، وطلبت بدلع أن تنام إلى جواري في الفراش ، عيناها الخضراوين تقلصتا بما يشبه التوسل ، أرغمتاني على الموافقة .فوق مساحة الفراش المحدودة احتضنت صغيرتي ، وفيما نسيم زفيرها المتقطع يلامس خدي مر ليل سريع .قال لي أبو سنا وهو يحاول إيجاد متسع له بيننا :” يا عزيزتي .. يلزمنا طفل آخر ، فقد كبرت هذه العفريتة .”كان يمزح ، ولكني أخذت أقلب الفكرة في رأسي : أخاً أو أختاً .. يا للروعة ! بذهاب سنا إلى المدرسة سأدور في الفراغ .. الشقية تملأ جلّ وقتي .

لم يكن مبنى المدرسة بعيداً عن بيتنا .. لكنني كما ليلى في قصتها مع الذئب لا أختصر المسافة , فأنا أيضاً لم أكن مستعجلة .من الناصية ، لاح آخر الشارع ، بدت لأعيننا البوابة السوداء ، مشرعة على مصراعيها ، دقيقتان من التعثر ومثلها من التلكؤ ..أمام باب الفصل تسمرت خطواتنا .” ها قد وصلنا ” : قلت لها .بوجه باسم خرجت إلينا مُدرستها الجديدة ، هرشت رأس سنا في محاولة للتودد .بادرت مرحبة :- أهلاً بك يا سنا .قلت لها :- أرجوك ديري بالك على سنا … فأنت الآن أمها الثانية .كنت أجاملها ! لا بأس بقليل من التملق بل أكثر .. يمكنني في هذه اللحظة تقبيل يديها من أجل رعاية خاصة ، وقلب متعاطف .دفعتُ إليها برقم هاتف البيت . ” إذا استدعى الأمر ” : غمغمت .

هاأنا أفكر بقلق ، خواطر الوسوسة تصيب الأمهات عادة ، وهي تعني أن شيئاً لن يحدث إلا في أذهانهن المتشككة . في واقع الحال ، لست سوى أم ستخلف حبة قلبها وراءها وتمضي .مر في بالي خاطر نغصني ، لماذا لم تبك سنا كما فعل عمار العام الماضي ؟ لقد بقي المسكين ينخرط في عويل حاد كل صباح لمدة شهر كامل ، أزعج فيها كل سكان العمارة ، كان يتشبث ببسطة باب بيتهم رافضاً الخروج ، فتضطر أمه لفك أصابعه المصمغة فوق قبضة الباب وجره خلفها .شعرت بوخزة ضيق من الباسلة التي تواجهني .. لبرهة فقط .. فأنا إن استطعت احتمال تماسكها ، فلن أحتمل ثورتها أو بكاءها .

يُطمئنني تعقلها .. صغيرتي تتصرف كما يُنتظر من النساء : هن خلقن للطاعة وللآخرين حق الشغب .عليّ اختصار اللحظة الأصعب كما نبهتني مدرستها .هممت بتركها.. انحنيت فوقها .. لثمت خدها الوردي وطرف عنقها في نية مبيتة لانسحاب سريع .شعرت بانتفاضة خفيفة : كفٌ قلقة تململت داخل كف .. عرق غزير رشحته أنامل .. نبضت عروق .. انقبضت أصابع .. تشبثت باضطراب . قبضة حازمة أطبقت بإحكام : أحدنا كان يرتعش .