حسام الدين محمد
في كتابه «الحياة 3.0: أن تكون إنسانا في عصر الذكاء الاصطناعي»، يتخيل ماكس فيغمارك «مؤامرة» خيّرة تقوم بها مجموعة من نخبة علماء البشرية، للوصول إلى الخطوة الأعلى في الارتقاء البشري، اختراع آلة يمكنها أن تناظر العقل البشري وتتفوق عليه في أنها غير محكومة بالمصالح المادية والسياسية.
تتمكن تلك النخبة من الاختراق العلمي الأخير، الذي كان مستحيلا على البشرية، وهو تطوير «الهارد وير» البشريّ نفسه (الدماغ) بعد أن كان الأمر مقصورا على تغيير «السوفت وير»، الذي تمثله الأديان واللغات والثقافات والحضارات البشرية.
يتمكن العلماء بتلك الآلة الجبارة من السيطرة على الاقتصاد العالمي وفرض تغيير السياسات العالمية على الدول، واصلين بالعلم البشري ونتائجه إلى ما يشبه «سوبرمان» نيتشه.
رغم أن «الإنسان الأعلى» Ubermensch عند نيتشه كان مشغولا بمحاربة المثل والقيم والتقاليد القديمة، وإعلان «موت الله»، ويسعى إلى تجاوز «عيوب» الإنسانية ونواقصها، لكن تطبيقات الفكرة السياسية ارتبطت عمليا بنزوع أيديولوجيات كالفاشية والشيوعية، مضت بأفكار الفيلسوف الألماني إلى حدود وحشيّة.
قبل سنتين تقريبا من وفاة نيتشه، ولد توماس ستيرنز إليوت، الشاعر الأمريكي ـ البريطاني الكبير، الذي كان يعتبر نفسه كاثوليكيا، والذي مثّلت قصائده الشهيرة مثل «الأرض اليباب»، التي صدرت عام 1922، أي بعد الحرب العالمية الأولى، تعبيرا عن زوال الأوهام الكبيرة لجيله، و»الرجال الجوف» التي صدرت عام 1925، إضافة إلى قصائده الأخرى الشهيرة التي تحمل، في المجمل، مناخا معاكسا لمناخ الانتصاريّة النيتشوية، وتقدّم آلام الإنسان الحديث وأعطابه الكثيرة.
نيتشه في مواجهة إليوت
هناك أسباب كثيرة تجعلنا ننوس بين سوبرمان نيتشه ورجال إليوت الجوف، فالنخبة العلمية البشريّة تتقدّم فعلا نحو ذرى مذهلة، يصعب تخيّل تأثيرها في إمساك الكائن البشريّ بأقداره، كما تخيّل نيتشه، أو السقوط تحت وطأة الحروب والكوارث والاختلالات، التي تميّز الإنسان، كما عبّر إليوت، لكن العلوم وأبحاثها لا تعمل بشكل مستقل عن المصالح السياسية والقومية المتضاربة، وهو ما يجعلنا نشهد، سواء في البلدان الشمولية القمعية، أو الديمقراطية، معالم ظهور دولة مراقبة شاملة تشبه ما تصوّره جورج أورويل في روايته الديستوبية «1948»، كما أننا نشهد، من جهة أخرى، حالة غير مسبوقة من التغيير السلبيّ، الذي ينجزه الإنترنت وأدواته، من غوغل إلى وسائل التواصل الاجتماعي، على قدرات البشر العقلية.
يتذكر كتاب The Shallows «السطحيون: ماذا تفعل الإنترنت بعقولنا؟» نيتشه
لأسباب أخرى، فيقدمه في أحواله الأخيرة البائسة، حين استأجر عام 1878 شقة
في جنوى الإيطالية، واقتنى جهازا كان قد اخترع قبل سنوات فحسب: آلة كاتبة،
في مقاربة ستنتهي بنا إلى علاقتنا الحاليّة بالكومبيوتر والوسائط الشبيهة
الأخرى.
تساعد الآلة الكاتبة نيتشه، وهو شبه أعمى، بالعودة إلى الكتابة، وقد وصف
نيتشه تلك الآلة بأنها مثله: مصنوعة من حديد، مستنتجا مسألة ستكون لها
عواقبها الهائلة على شهود حقبتنا الرقمية، وهي أن «أدوات الكتابة تلعب دورا
في تشكيل أفكارنا»، وقد لاحظ أحد أصدقائه فعلا تغيرا في أسلوب كتابته، فقد
أصبح نثره أكثر انضباطا واختصارا.
ما الذي تفعله الأدوات بالعقل؟
توصّلت الأبحاث الحديثة نسبيا لعلماء البيولوجيا والدماغ والأعصاب، إلى تأكيد وجود قدرات ليونة مذهلة للدماغ البشريّ، فعندما نتعلم معارف أو نمارس تجارب، تقوم أنسجة الدماغ بصنع طرق جديدة لها. يقوم الدماغ ببناء دوائر اتصال أقوى عبر ممارسات ذهنية أو فيزيائية، فيما تضعف دوائر أخرى أو تزول بسبب الإهمال، وإذا توقفنا عن ممارسة مهاراتنا الذهنية، فإن خريطة الدماغ تنقلب إلى الممارسات الأخرى التي نقوم بها، غير أن بعض المهارات التي نخسرها قد تكون أكثر أهمية من التي كسبناها، والأسوأ من ذلك أن قابلية أدمغتنا على إعادة التشكل قد تزيد احتماليات الانحطاط العقلي وإذا كانت المرونة الدماغية مفيدة للنمو والعلم، فهي قد تكون مسببا للمرض، ولذلك فهي على علاقة بأمراض الاكتئاب والسلوك القهري الوسواسي، وفي هذه الحالة فإن دماغنا، يقوم عمليا، بتدريب نفسه على أن يصبح مريضا.
عندما نفتح الإنترنت ندخل بيئة نقوم فيها بقراءة لحظية، بتفكير سريع ومشتت، وبتعلم سطحي. يمكننا طبعا من أن نفكر بعمق ونحن نطالع النت، لكن الحقيقة أن هذا ليس هو نوع التفكير الذي تشجعنا التكنولوجيا وتكافئنا عليه.
عندما بدأ البشر بالتعلم على استخدام الأجهزة الحديثة المرتبطة بالإنترنت فقد بدأت توصيلات دماغية جديدة بالتشكل، وأصبح الإدمان على هذه الأجهزة كالمخدرات، فهذه الأجهزة، تساهم في إطلاق عنصر السعادة الكيميائي في الدماغ، الدوبامين، الذي يضغط على مفاتيح بعض الجينات بشكل يؤدي لرغبة عارمة بالاستمرار في تعاطي المخدر، أو متابعة وسائط التواصل الاجتماعي، أو ألعاب الفيديو إلخ، وبذلك ينقلب الطريق الحيوي للإبداع بشكل مميت.
البشر هم الأعضاء الجنسية للآلات؟
ستكون التأثيرات العقلية للإنترنت على طريقة اشتغال أدمغتنا مدار بحث لسنوات عديدة مقبلة، ولكن لدينا الآن معطيات مفيدة. تعطينا القدرة التفاعلية للنت أدوات جديدة لاكتشاف معلومات، للتعبير عن أنفسنا، وللتحادث مع الآخرين، لكنها تحوّلنا أيضا إلى جرذان اختبار، تقوم بضغط مكابس للحصول على جرعات سعادة صغيرة ذهنية أو اجتماعية.
يمضي الإنسان العادي قرابة ساعتين في اليوم أو أكثر، ويميل خلالها لتكرار الأفعال نفسها مرارا وتكرارا، بمعدل عال من السرعة، وغالبا ردا على إشارات تصل عبر الشاشة أو من مخاطب، وخلال ردود فعلنا الفيزيائية والذهنية لما نراه أو يصلنا عبر الشاشة، ترسل النت بثا مستمرا لمعطيات إلى دواخلنا العميقة، التي تمر عبر أيدينا وأصابعنا وعيوننا، ونحن نضغط على الأزرار ونحرك الشاشة ونكتب أو نلمس.
عندما نفتح الإنترنت ندخل بيئة نقوم فيها بقراءة لحظية، بتفكير سريع ومشتت، وبتعلم سطحي. يمكننا طبعا من أن نفكر بعمق ونحن نطالع النت، لكن الحقيقة أن هذا ليس هو نوع التفكير الذي تشجعنا التكنولوجيا وتكافئنا عليه، فهي توصل تحفيزات تحسسية وذهنية متكررة بشكل كثيف ومتفاعل وإدماني، وهو ما تنتج عنه تغييرات قوية مستمرة في وظائف الدماغ نفسه، وحين يقوم هذا الوسيط بإيصال هذه المعطيات لدماغك بسرعة وشمولية، فسوف تنتهي على الأغلب بكتابة أو رسم أو تصميم شيء يشبه ويعمل مثل النت.
في سياق يشبه ما ذكره نيتشه حول تأثير الآلة الكاتبة على كتابته، يمكن إيراد قول كارل ماركس: «المطحنة تعطيك مجتمعا يحكمه الإقطاعي مالك الأرض، والطاحونة البخارية تعطيك الرأسمالي الصناعي»، وهي الفكرة التي قام مارشال مكلوهان بتطويرها في كتابه التنبؤي الصادر عام 1964، «فهم الميديا»، الذي تحدث عن صعود التلفزيون والراديو، معتبرا أننا نمشي في طريق «البشر فيه ليسوا أكثر من أعضاء جنسية لعالم الآلات»، حيث أن وظيفتنا أن ننتج أدوات أكثر ذكاء حتى تتطور وتتمكن من إعادة إنتاج نفسها «عند تلك اللحظة لا تعود هناك حاجة لوجودنا».
خلال كتابتي هذه المقالة كان ابني مستمرا لساعات في النظر إلى جهاز الهاتف الجوال، كما توقّفت عدة مرات لفتح روابط مثيرة وصلتني، وأنا أبحث عن معنى كلمة في القاموس، أو تنبيه من شخص أرسل رسالة على واتساب أو فيسبوك، وبالتالي فقد تعرّض المقال نفسه لآثار لا يبدو أننا قادرون على الفكاك منها.
الخلاصة هي أن مليارات البشر يتعرضون حاليا لعملية «تطريق» تكنولوجية هائلة تؤثر على أدمغتهم، وتقيّدهم بسلوكيات لا يستطيعون الفكاك منها وتحطّ، عمليّا، من قدراتهم العقلية، وتحوّلهم إلى مدمنين لأشكال سريعة من السعادة الزائفة، وتجعلهم يخسرون ملكات ذهنيّة مهمة.
القدس العربي