سوار ملا: ذاكرتُنا الشمّية وجغرافيا الروائح : خارطة تفيضُ بالمشاعر

0

لطالما شغلت الرائحة وما تُخلّفه من أثرٍ في نفوسِ البشر وعوالمهم الداخليّةِ بال الفلاسفةِ عبر العصورِ، إلّا أنّهم رغم ذلك، لم يولوا الرائحةَ قدراً كافيّاً من الأهميّة، بل ظلّوا لوقتٍ طويلٍ يعدُّونها ناتجةً عن حاسّةٍ قليلة الشأن مقارنةً مع بقية حواسِ الإنسان، لاسيما “حواسه النظريّة” كالبصرِ والسّمع.

تمضي الرائحةُ بذاكرتنا حيثما تشاء، تحملُنا من مكانِ وجودنا الفعليّ، بطريقةٍ تبدو عصيّة على الفهمِ، لتضعنا أنّى تريد. يحدثُ، مثلاً، أن نكونَ في نزهةٍ في بستان نعرفُهُ أو نجهلُه أو أن نكونَ على رأسِ عملِنا في مكانٍ مألوف أو غريب، فتهبُّ رائحةٌ معيّنةٌ من جهةٍ ما، مُباغتةً، حتى نغدو، على جناحِ السّرعة، هناك، حيثُ كنّا مرّةً، في زمنٍ خلناهُ منسيّاً، سويّاً نحن والرائحة التي تلجُ جسدَنا دونما موعد أو استئذان.

 لكلٍّ منّا، بلا ريب، قصصُه الخاصّة مع الروائحِ وما تُثيرُهُ فينا من ذكرياتٍ نظنُّ، طوال الوقت، بأننا قد نسيناها إلى الأبدِ؛

فعلاقةُ الإنسان بالرائحة مركّبةٌ وبالغة الخصوصيّة، إذ تعتمدُ في جوهرها على طبيعةِ اللحظةِ التجريبيّة التي يتلقّى فيها المرءُ الرائحةَ، وليس خافياً على أحدٍ كمّ التفاوت في كيفيّة تلقّي الأفراد لمحيطهم المكانيّ والزمانيّ وتفاعلهم مع أشيائه وكائناته. على الصعيد الشخصيّ، كثيراً ما أفطنُ للروائح تذهبُ بي حيثما تشاءُ، تماماً كما كانت تفعلُ معلّمةُ الصفِّ الأوّل كلَّما سهوتُ في ركنٍ من الباحة ونسيتُ الصفَّ وفكرةَ العودة الإلزاميّة إليه، فكانت المعلّمةُ، مثلما الرائحة، تدركني من حيثُ أجهلُ، وتتبسَّم لي بلطافةٍ وقتَ تبصرني، لتقفل عائدةً بي إلى مقعدي الفرديِّ أسفل مربّع الشبّاك في طرفِ الصفِّ. والآن أتساءلُ: ماذا عساها تكونُ الرائحة؟ أمصيدة للذكريات؟ وما حاسّة الشمّ، في أصلِها، غير حصّادة روائح يزرعُها تاريخُنا الشخصيُّ بلا كللٍ لتغزر المواسمُ وتفيض مع مضيِّ الوقت؟ ما ذاكرتُنا الشمّية سوى جغرافيا الروائح، سوى خارطةٍ تفيضُ بروائح شُمَّت في أمكنةٍ مختلفةٍ خلل حياتنا؛ لكن أيّة أمكنةٍ عساها تكونُ هذه؟ أهي حيثُ نعرفُ الرائحة لأوّل مرّةٍ، حيث نكتشفها، أم أنّها الأمكنة التي تنسّمت فيها الرائحةُ بصورة ضاهت سابقاتها كثافةً وأثراً؟ – وبالرغم من هذه التساؤلات كلّها، يبقى الجوهريّ في أمرِ الرائحةِ قدرتُها على إخراجنا من مكانٍ لآخر، على نقلنا عبر الزمكان دون تدخّل من فيزياء الأرضِ في شكلِ انتقالنا؛ فالرائحةُ، إذن، وبطريقةٍ ما، نظيرٌ غير ماديٍّ لذاك الزرِّ الذي نحلمُ للسفرِ بهِ، دون وسائط نقلٍ تقليديّة تستهلكُ منّا الطاقة وتستنزفُ أجسادنا الهشة وأعمارَنا القصيرةِ؛ إنّها نفقٌ سحريٌّ بين الروح والمادة، شريانٌ سريٌّ مارٌّ في قلبِ الزمان والمكان، جسرٌ شفّافٌ بيننا حيث نكونُ في “الهُنا والآن” وبيننا حيث كنّا في زمنٍ سالفٍ نخالُه قد غابَ أبداً.

أنا والرائحة

عديدةٌ التجاربُ “الشمِّيةُ” التي أعادتني، من فورِها، إلى أزمنة وأماكن قصية في الذاكرةِ، وهذه أربعٌ من “ذكرياتي الشميّة” التي حفّزتني على التنقيبِ في علائقِ هذه الظاهرةِ، ومحاولةِ فهمِ جوهرِها:

رائحة البطاطا

مُقتبلُ المساءِ. أسيرُ داخل الغرفة رواحاً وجيئة، متفكّراً في الإغلاقِ الكبيرِ الذي سيحلُّ بعد سويعات، وأقرّرُ أخيراً الاستسلامَ للخوفِ الغريزيّ من انقطاع الموادِ الأساسيّة لأنّ موجاتِ الناس المتدفّقة إلى المحالِ ستبتلعُ اليابسَ والأخضرَ. فأحملُ عربة التسوّقِ من الشرفةِ وأغادرُ شقّتي الواقعة في حيِّ شعبيٍّ لبلدةٍ صغيرةٍ في جنوب غرب ألمانيا، وبالكاد أقفلُ خلفي البابَ، حتّى تهبُّ على وجهي رائحةُ البطاطا المقليّة، المنتشرة بكثافةٍ على طولِ الدرج النازلِ إلى المخرجِ، ولا أعرفُ حقاً كيفَ أهجرُ، من فوري، زماني ومكانيّ، ماضيّاً رفقة ذاكرتي إلى زمانٍ ومكانٍ تفصلُني عنهما أحد عشرة سنة وقرابة3500 كم، إذ أعودُ بالتحديدِ إلى شارع رماديٍّ صاخبٍ يتَّجه نحو شعبة تجنيد الفرافرة في حيّ الفرقان الحلبي الذي ذهبتُ إليه طالباً في الثانويّة من أجل تأجيل “خدمة العلم”، وكان ثمّة في طريقنا بائعٌ ينوسُ في حجرةٍ ضيّقةٍ لا منافذ لها غير بابٍ تسدُّه مقلاةٌ مُترعةٌ بشرائحِ البطاطا الطافية في بحيرة زيتيّة داكنة.

الآن، في مساءِ بلدةٍ صغيرة جنوب غرب ألمانيا، أشتمُّ رائحةَ وجبة جيراني الأتراك، خارجةً من منافذ بابهم، مُحتلّةً مدخل البناء بأسره، فأعودُ مراهقاً يسيرُ بشيءٍ من الخجلِ رفقة عمّه الشّابِ في شارعِ واجم نحو مبنى التجنيد داخل أسوارِ حيٍّ حلبيٍّ قديم؛ 

تختلطُ عليّ الأحاسيسُ ولا أعودُ أفهمُ لمَ يتملّكني حنينٌ لتلكَ اللحظات السمجة في قيظِ حلبَ وضجيجها المُدمّر؛ لمَ أحنُّ للحظاتٍ قديمةٍ تعجُّ بصلافةِ العسكرِ وفسادِ الموظفين والعرقِ المتصبّب من جباهنا أثناء الانتظار في بناءٍ أبهق تقشّرَ دهانُه كأنّه جسدٍ سُلخَ بعض جلدِهِ في سرداب معتم ليُرمى أسفل شمسِ وهّاجة؛ تماماً هكذا، بهذه الصورةِ العنيفة، يحضرُني بناءُ شعبة تجنيد الفرافرة، تماماً بهذه القسوة، لكنّي، رغم ذلك، أتذكّرُه الآن، إذ تلفحني رائحةُ البطاطا المقليّة، فتسري في جسدي رعشةُ حنين مبهم.

رائحة الإسبريسو

أجلسُ في مقهى عند زاويةِ شارعِ بوكنهايم المارّ وسط مدينةِ فرانكفورت، بعد أن أضع فنجان الإسبريسو السّاخنِ أمامي؛ لا تكادُ تمرُّ لحظاتٌ حتّى يطلع إلى ذهني معلّمُ الفرنسيّةِ موبّخاً فتاةً حسناء في غرفةٍ ترابيّةٍ، مردّداً بغضب مقيت كلماتٍ عن الالتزامِ والمثابرةِ والكدّ الضروريّ، فتجيبُه الفتاةُ بالصمتِ وبعضِ الإيماءات الخجولة، إلى أن تباشرَ وجنتاها بالتورُّدِ دونما هوادةٍ، هكذا، كأنّ رمّانةً أضحت، فجأةً، وجهها، فأُذهَلُ لما أُبصرُ وأغفلُ كلّ ما سيلي من كلامٍ، حسبُه الدخانُ الصّاعدِ من فنجانِ الأستاذِ ظلّ يلفحُ وجهي بلا توقّفٍ.

الآن، مع فنجان الإسبريسو في مقهى “فيلوس”، ثمّة دخان إسبريسو يصعدُ الهواءَ أمامي، مُشعِلاً فتيلَ ذاكرتي، مُقفلاً أذني، تاركاً لعيني المفتوحتين على آخرهما أوردةَ الرمانةِ النابتة فجأةً على ملامح فتاةٍ في حصّة اللغة الفرنسيّة قبل نحو عقدٍ.

بعد حين يصلُ صديقٌ قديمٌ صائحاً بي، بطريقةٍ سأستهجنها طويلاً، إلا أنّه يوقظني من غفوتي الحالمة، فأرى كيفَ أقرِّبُ فم الفنجان من وجهي، مُحاولاً تنشّقَ كلَّ ما فيه من رائحة.

أشياء لا تُحصى من حياتي نُسيَت إلى الأبد، لكن، حيثما أشتمُّ رائحةَ الإسبريسو أرجعُ مراهقاً مُرتبكاً يجلسُ في درسِ اللغة الفرنسية، مُمعناً النّظرَ في وجهٍ ورديٍّ سيزهرُ مراراً في ذكرياتِه. 

رائحةُ الإسبريسو غدت جسريَّ السحريّ إلى لحظةِ حبّي الأول، إلى أوانِ نباتِه في زمان قديم، إليَّ مُراهقاً أكادُ أنسى قسمات وجهه، إلى منزلٍ طينيٍّ تعلّمت فيه لغةً نسيتُها الآن تماماً؛ إلى ماضٍ، لا طرقَ إليه إلا عبر الإسبريسو، لا حبل يشدّني نحوه سوى حبل دخانه،

فهل من مزيد أيُّها النّادلُ العزيزُ..

رائحة الشجر

بُعيد ظهيرةٍ قائظة. أصلُ، راكباً دراجتي، إلى طرف المدينةِ القصيِّ حيث أشجارٌ كثيفةٌ تُسوِّرُ حدائق صغيرة متناثرة. 

الطبيعةُ من حولي فتّانةٌ والجوُّ مختلفٌ تماماً عمّا كان عليه في قلبِ المدينة، ولا أعرفُ بأيّة خفّةٍ أخرجُ من جوفِ كآبةٍ خانقة إلى مزاجٍ مبتهج، مُردّداً “أن حياة هانئة يُمكنها أن تُعاشَ في هذا المكان”. أسيرُ بدراجتي بسرعة الخطو أسفل سحبٍ تُقفلُ بتواترٍ عينَ الشّمسِ كأنّها تُداعب صديقاً قديماً. وأنّى أديرُ نظري أرى الأخضرَ مستريحاً في مكانِه الطبيعيّ، بل وحتى على جدران البيوتِ وأبوابها الخشب. تتملّكني مسرّةُ الخلاصِ من جحيمِ مدينةِ البنوك، فأفكّرُ مليّاً في قضاءِ الصيفِ بكامله في هذه الأنحاءِ الفسيحةِ. يمرُّ وقتٌ. أهبطُ على مهلٍ في دربِ ترابيّة بين بساتينِ لا تبدو لها نهايةٌ، وأكمل مسيرِي راجلاً بين وفرةِ الأشجار، مارّاً بين ظلالها، غائراً في محيطها الأخضر الطافح برائحة الشّجرِ. سربُ طيورٍ يحلّقُ، غديرٌ ينكشفُ على الجانبِ فأقتعدُ بجواره مستنداً باباً خشبيّاً مفتوحاً على بستان مقفرٍ؛ ولا أكادُ أقفلُ عيني، حتى تُداهمني ريحٌ قديمةٌ، لتعود بي سنيناً عشرين إلى الوراء، تحديداً إلى الفناء الخلفيّ لمنزلِنا الأوّل الكائن قريباً من الأسلاكِ الشائكةِ والقنابلِ الفاصلة بين جبل ماردين وسهلِها الفسيح، إلى ذلك المكان المستطيلِ والخليّ تماماً من أيّة أشجار، بيد أنّه، وبصورة ما، مرتبطٌ في ذاكرتي برائحة الشّجرِ خللَ الصيفِ؛ فكلّما تهبُّ ريحٌ من صوب أشجار صيفيّة أنكفئُ دونما انتظارٍ إلى تلك المساحة القديمة من حياتي، مُستعيداً ما أخالُني في كلّ مرّةٍ قد نسيتُه.

بعد حين تدركُني مجموعةُ فتيةٍ مُمتطين دراجاتهم السّريعة، مُطلقين العنان لصيحاتِ نشوة مبهمة، أخالها نشوةَ الخلاصٍ من ضجيج المدينةِ وسلاسلِها الإسمنتيّة الكثيرةِ، فأصحو على وقعِها ناهضاً من أرضِ ذاكرتي، مُحدّقاً، بمسرّة لا تُوصَف، في رقصةِ العشبِ مع نسائم تعقبُ عادةً الذكريات الجميلة.

رائحة الزعتر

ينتصفُ الليلُ في منزل قريبي الذي تعرّفتُ عليه قبل نهارين. تنتشرُ العتمةُ على رسلها في أنحاءِ الشقّةَ الهامدة، والضجرُ السهرانُ يوقظُ وحشَ الجوع في أحشائي. فأنهضُ، ببطءٍ، أنظرُ قليلاً من الشبّاكِ إلى بناءِ اللاجئين القريبِ، وأمضي، على رؤوس أصابعي، في جهة المطبخ؛ فأصلُه تاركاً المصباح في غفوتِه، متلمّساً مثل كفيفٍ بشرةَ الأجهزةِ الكثيرةِ، إلى أن أدرك البراد أخيراً، فأفتحه – ولعلّ ذا أوّل برّاد أنظرُ في جوفه مذ تركتُ البيتَ وخضتُ الدربَ الذاهبة من عامودا إلى فرانكفورت؛ أسحبُ بابَ البراد بشيءٍ من توجّسِ الضيوفِ، لتهبّ على وجهي، دفعةً واحدةً، رائحةُ زعتر أخضرِ موزّعِ بغزارة في قاعِ صحن كبير جداً؛ فأردّدُ في نفسي مذهولاً: ياااه، ماذا يفعلُ كلّ هذا الزعترِ داخل هذا الصحنٍ! وبالكاد أبصرُ شيئاً سواه حتى تتفشّى رائحتُه في المكانِ، فأتشمّمُ، بنشوة وعمقٍ أستغربُهما، الرائحةَ التي أخذت تلفحُ وجهي مع برودةِ البرّاد، لتمضي بذاكرتي إلى لحظة جلوسِ الأسرةِ، أسرتنا، حول مائدة العشاء في ليلة شتائيّة قديمة وباردة، بعد أن كنّا قد فرغنا من وظائفنا المدرسيّة، وقبل أن ننتهي من تناولِ الأكلِ ونمضي إلى السرير حاملين تفاحةً وكأس ماء. 

لا أعلمُ حقّاً لمَ ترتبطُ رائحةُ الزعترِ بالذّات بهذا المشهد الأسريّ الحميميّ في ذاكرتي، لكنّي، أيّاً يكن السبب، مدينٌ لها بالكثيرِ، فهي، الآن، سبيلي الأوحد إلى مشاهد من طفولةٍ أنسى في كلّ مرّةٍ أنّي قد عشتُها، إلى أُسرةٍ أخالُها كانت طوال الوقتِ هشّة ومشتّتة، إلى بيتِنا القديمِ قبلَ أن تلجَ يدُ الموتِ بابَه الأسودَ في ظهيرة خريفيّة، حينَ كنّا صغاراً مشدوهين من الصراخِ الجائشِ وطوفان الدموعِ من حولنا..

الرائحةُ والعلم

من وجهة النّظرِ العلميّة تعدُّ الرائحةُ واحدةً من أعرق وسائل التواصلِ بين الإنسان والطبيعة من حوله، إذ مكّنته حاسّةُ الشّمِ العريقةُ – فهي من أقدمِ الحواسِ التي امتلكها الإنسان على مدار تاريخِه التطوّري -، من التعرُّفِ على محيطه وإدراك ما ينتظره من خطر وأمن، من كارثةٍ تقتربُ أو فرجٍ يوشكُ أن يميط اللثام عن نفسه. في العلوم الطبيعيّة لا تُعرَّفُ الرائحة بوصفها شيئاً روحيّاً أو خياليّاً، كما قد يظنُّ إنسانٌ يؤوّلُ العالمَ بطريقةٍ مثاليّةٍ محضةٍ، إنما كعمليّةٍ ماديّةٍ تصنعها موليكولات بالغةُ الخفّةِ تلجُ الجسدَ عبر الأنفِ لتتوزّع في أنحائه بواسطة أعصابه الحسّية الناقلة الكثيرة. أمّا العلاقة المبهمة بين استنشاقِ الرائحة والتذكُّرِ فتُحيلُها بعض فرضياتِ العلم الحديث إلى علاقةٍ فيزيولوجيّةٍ بين الموادِ المؤلّفةِ للرائحةِ والبصلةِ الشمّيةِ الواقعةِ في الدماغِ بجوارِ الحصينِ المسؤولِ عن صناعةِ ذكرياتٍ طويلة الأمدِ، ما بوسعه أن يُفسّر هذه الظاهرة التي تتحوّلُ فيها لحظةٌ ماديّةٌ عاشَها المرءُ في زمانٍ ومكانٍ محدّدين إلى لحظةٍ تُستذكَرُ مع هبوبِ رائحةٍ معيّنةٍ في مكانٍ وزمانٍ آخرين. هكذا يقدّمُ العلمُ الطبيعيُّ تفسيره الفيزيولوجيّ لهذا “الحدث” الذي يغادرُ عالمَ المادّةِ حيث يُعاشُ بالجسدِ إلى عالمِ الذاكرةِ حيثُ يُعاشُ بالخيالِ مزامنةً مع تضوُّعِ رائحةٍ معيّنة. لكن المُلفِتُ في الأمرِ أيضاً هو الكيفيّة التي تكتسبُ بها الرائحةُ بولوجها الجسد البشريّ خاصّيةً فوق-ماديّة، أي كيفيّة تجاوزها لعالمِ الخبرةِ الحسيّة المُباشرة بعد أن تتشكّل في مدارهِ لتعودَ إليه لاحقاً لكن بصورةٍ ميتافيزيقيّة شديدِة الحساسيّة والغرابة. ومثلما تشيرُ عددٌ من المعاينات العلميّة فإن استنشاق رائحةٍ ما قد تجرُّ إلى البالِ عناصراً فقدتها الذاكرةُ في وقتٍ قديمٍ، أي أن الرائحةَ قادرةٌ أن تعيد إلينا بعضاً مما نسيناهُ مع الزمنِ بإعاشتها أجزاءً من زمنٍ مفقود؛ لكن، وبطبيعة الحال، ليست كلّ رائحةٍ قادرةً على بلوغ هذا المستوى “التطوّري”، إذ يعتمدُ شرطُ بقائها أو فنائها عبر الزمنِ بالمقامِ الأوّل على مدى كثافةِ وعاطفيّةِ اللحظة التي تدخلُ فيها الجسدَ البشريَّ. ولعلّه من الممكنِ ايجاز ذلك بالقولِ إنّ شدّةَ الحساسيّة العاطفيّة المُتزامنة مع “حدوثِ” الرائحةِ هي الشرط الأمتنُ لمكوثها في الذاكرة الطويلة، لاسيما أنّ عدداً من النظرياتِ العلميّة الحديثة تؤكّد ذلكَ بذهابِها إلى أن الرائحةَ تُعالَجُ في ذات الحيّزِ من الدماغِ حيث تُعالَجُ العواطفُ. وبهذه الحالة، تكونُ الرائحةُ صنوّ العاطفة في دماغنا، فكلّما زادَ أثرها في نفوسنا زاد زمانُ مكوثِها في ذاكرتِنا، وقد يبلغ عمراً بأكمله. 

الرائحةُ والفلسفة

لطالما شغلت الرائحة وما تُخلّفه من أثرٍ في نفوسِ البشر وعوالمهم الداخليّةِ بال الفلاسفةِ عبر العصورِ، إلّا أنّهم رغم ذلك، لم يولوا الرائحةَ قدراً كافيّاً من الأهميّة، بل ظلّوا لوقتٍ طويلٍ يعدُّونها ناتجةً عن حاسّةٍ قليلة الشأن مقارنةً مع بقية حواسِ الإنسان، لاسيما “حواسه النظريّة” كالبصرِ والسّمع. ويمكن الاستدلال على ذلك في الفلسفة القديمة، خصوصاً عند أفلاطون وأرسطو اللذين اعتبرا حاسّتي البصرِ والسّمع أشدُّ جوهريّةً من حاسّتي الشّم والذوقِ باعتبارِ هاتين الأخيرتين غير مُحفّزتين على المعرفةِ، بل معوّقتين لها، حيث لا تسمحان بمعرفة وإدراك ما هو كائنٌ خلفَ التجربة الحسيّة، أي لأنهما عاجزتان عن العمل “عن بعد” وفي حاجةٍ مستمرّة للاحتكاك الفيزيائيّ المُباشر. وساهمت هذه النظرة الأفلاطو-أرسطيّة في موضعةِ حاسّتي الشّم والذوق أسفل “التسلسل الهرمي للحواس” طوال قرونٍ من الزمن، فنجدُ استمراريّةً لذلك وصولاً إلى كانط وهيغل اللذين وجدا بدورهما في هاتين الحاسّتين مثبّطاً للمقدرة المعرفيّة والحكم الجماليّ-الفنّي. إلا أنّ الأمر لم يبق على حاله في المعاينة الفلسفيّة، حيث جاء، بعد فترةٍ زمانيّة، فلاسفةٌ دحضوا هذه الرؤيةَ “العقلانيّة الباردة” تجاه الرائحة، وأعلوا، ربّما بشيءٍ من المُبالغة، من شأنِ حاسّة الشّمِ، كما نجدُ عند نيتشه القائل: “عبقريّتي كامنةٌ في منخاري”. توالت بعدها الأفكارُ الساعية لإعادة الاعتبار لهذه الحاسّة التي قاست عبر الزمنِ كثيراً من النبذِ والاهمالِ في الفلسفةِ والأدبِ. وفي هذا السياقِ الإحيائيّ لقيمةِ الرائحةِ وحاسّة شّمها لعبتِ العلومُ الطبيعيّة، كما يشيرُ الطبيبُ والبروفيسور الألمانيّ فولكر فاوست، دوراً جوهريّاً بما قدّمته من معارف جديدةٍ مثيرة للانتباهِ دفعت بالفلاسفة، وبدرجة أكبر الأدباء الحداثيين، لإعادةِ التأمُّلِ فيها والإكثارِ من تناولِها في أعمالِهم من خلالِ منحها مساحةً ظلّت طويلاً شاغرةً في الأعمالِ الفكريّة والجماليّة.

الرائحةُ والأدب

لم يتوان الأدب، كما هو مُتوقّع منه بوصفه مجالاً إبداعيّاً شديد الحساسيّةِ، لاسيما تجاه تلكَ الظواهر المتعلّقة بصورةٍ مُباشرةٍ بالعاطفةِ الإنسانيّة، في تناولِ الرائحةِ وعلاقتها الشائكة مع فعلِ التذكُّرِ اللاإراديّ، فنجدُ، ذلكَ، على سبيل المثالِ، مُتناولاً في أعمال مهمّةٍ أضحت مرجعاً لكلِّ راغبٍ في التعرُّفِ عل “الأدبِ الجيّد”، كما هو الحال في عمل مارسيل بروست الأسطوري “البحث عن الزمن المفقود”، حيثُ يذكرُ في مجلده الأول “في جوار سوان” أنّ مذاق ورائحة “المادلين” مغمسةً في الشّاي تُعيدُه، من فورها، طفلاً صغيراً في قرية كومبراي الفرنسيّة أيام الآحادِ حيث عمّته ومنزلها الريفيّ؛ ولم تُثر الإضاءةُ البروستيّةُ لهذا الاقتران الغائرٍ بين الرائحة والتذكّرِ اهتمامَ المُلمّين بالأدبِ فحسب، بل تركت أثراً واسعاً حتّى في المضمارِ العلمي، إذ سُمّيت هذه الظاهرةُ في علمِ النفس لاحقاً بـــ “تأثير بروست”، وهو الاصطلاح السّاري لهذا النّوع من التذكّرِ المتعلّق باستنشاقِ روائح معيّنة.

ولا مناص هنا من الإشارة إلى ديوان بودلير “أزهار الشرّ”، بوصفه واحداً من أبرزِ الأمثلة الأدبيّة التي تناولت “الروائح” بكثافةٍ باهرةٍ، إذ تغورُ عددٌ من قصائده، بألمعيّةٍ، في جوهر الذاكرةِ الشميّة واصفةً تجليّاتِها بشاعريّة فذّةٍ، فلا يكاد يمرُّ جزءٌ منها دون أن تتنسَّمَ فيه روائحُ، زكيةً كانت أم عفنة، منبعثةً من شيءٍ محدّدٍ أو من تفصيل عصيٍّ نحسُّ بوجوده ونظلُّ رغم ذلك نجهلُهُ. في قصيدته الرهيفة “خصلة الشَعر” يصفُ بودلير بحميميّةٍ فيّاضةٍ اتصالَ الذكرةِ بالرائحة:

أيّها العبير المُفعَم بالفتورِ! أيّتها النّشوة! كي أَعمُرَ المخدع المُعتمَ هذا المساء

بذكريات نائمة في هذه الخصلة، أريدُ أن ألوّح بها في الهواءِ كمنديل! (…) 

على الحواف الزغبيّة لخصلاتكِ المُلتوية

أنتشي بشوقِ الروائح الممزوجة

لزيت جوز الهند والمسك والقطران.

طويلاً! دائماً! ستبذرُ يدي في شعركِ الغزيرِ الثقيلِ

الياقوت واللؤلؤ واللازورد، حتّى لا تكوني صمّاء أبداً أمام رغبتي!

ألستِ الواحة التي أحلمُ بها، والقدحَ الذي أحتسي منه في رشفاتٍ طويلةٍ خمرَ الذكرى؟”.

وفي واحدةٍ من أبهى قصائد ديوانه، “العطرِ”، يتبدّى كذلك أثرُ الرائحةِ في عمليّة التذكُّرِ، فتُزيلُ سطورُها بشعريّة فذّة الستارَ عن الرائحة وصالاً بين الماضي والحاضر: 

أيّها القارئُ، هل استنشقتَ أحياناً  

في نشوة وشراهةٍ بطيئةٍ

هذا البخورَ الذي يُفعِمُ كنيسة، 

أو المسكَ المكينَ في جِرَاب ما؟

فتنةٌ عميقةٌ، ساحرةٌ، تثيرُ فينا

الماضي المُستعادَ في الحاضر!

هكذا يقطفُ العاشقُ من جسدٍ معشوق

زهرة الذكرى الرائعة.

 ت. رفعت سلام

أيضاً عند الكاتب المجري “بيتر إسترهازي” نجدُ تطرُّقاُ لطيفاً لهذه الظاهرةِ، إذ ترتبطُ في ذاكرته رائحةُ البطيخِ بطفولةٍ حلوة، بالرغم من أنّه أفناها في كنفِ عائلة ذات جذرٍ أرستقراطيّ قاست شروطاً معيشيّة صعبةً في ظلّ النّظام الشيوعيّة السائد وقتذاك؛ وربما في وسع المرءِ القول إنّ البطيخ، بل رائحته الفوّاحة، قد أفلحت، في ذاكرتِه طويلة الأمدِ، في هزيمةِ المنفى القسريّ الذي أمضاهُ طفلاً في قرى شرق البلاد، وظلّت عالقةً في باله، بل صارت الوشيجة الوحيدة بينه وبين ذاك الزمنِ كلّه، فكلّما هبّت، من جهةٍ ما في الأرضِ، مضت به، من تلقائها، إلى لحظةٍ حلوة في ماضٍ قاس، إلى لحظةٍ طيّبةٍ هزمت المشقّة التي أرغمَ على عيشِها طفلاً. لحظةُ تنشّقِه لتلكِ الرائحةِ الطيّبةِ وجدتَ لها مستقرّاً مستداماً في ذهنِه دوناً عن غيرِها، وراحت تُلازمه لبقيّة حياته ذكرى جميلةً من واقعٍ لم يكن في حقيقته قطُّ جميلاً؛ لقد غلبَت، إذن، رائحةُ البطيخ كلّ لحظاتِ العوزِ التي عاشها، فالمجدُ، كلّه، للرائحة مُنتصرةً للطفلِ المنفيِّ وقاهرةً لقسوة الكبار الأشدّاء!

لكن، ومن جهة مغايرة، ثمة أيضاً روائحٌ طيّبةٌ ترتبطُ في الذاكرةِ بأحداث مريعةٍ، كأن يتذكَّرَ الأستاذُ الجامعيّ الألماني شتيفان تسايكل مع كلّ نفحةٍ تحملُ رائحة الفراولة المشهدَ الدامي لأبيه الطريحِ في حقل فراولة. “كنتُ طفلاً على يدِ أبي، وأتذكّرُ أنّه كان يدندنُ أغنيةً في أذني قبل أن يضعَني في هدوء على الأرضِ ويضغطَ بكلتا يديه على رأسه ليُغشى عليه فجأةً، ويسقط أرضاً نازفاً من أنفه حتّى الموت؛ لقد كانت الفراولةُ من حولنا بلونِ الدّم المُسالِ من أنفِ أبي، ولها رائحةُ موتِه”، يقولُ بصوتٍ مرتعدٍ بينما يحدّقُ من النافذة إلى كشكٍ منصوب عند مدخل المكتبة لبيع الفراولة الطازجة من حقول هيسن القريبة؛ “حيثما تتضوّعُ هذه الثمارُ الجميلةُ أعودُ طفلاً يتيتّمُ في حقلٍ فراولة فسيحٍ أسفل شمسِ حزيران”؛ يخبرُنا، نحن طلبته الذين نحضر عنده سيمينار “الأدب في العهد النازيّ”. “عمّا قريب سأتناولُ هذه الرائحة-اللعنة في نصٍّ طويلٍ سيُدعى رائحةُ الفراولة بلونِ الدّم”؛ هكذا أقفلَ أستاذنُا حديثاً استغرق نصف زمن المحاضرة عن رائحة الفراولة وإشعالها لذاكرته المدماة.

وغير مرّة تساءلتُ: كيفَ عساهُ يشعرُ ناجٍ من مجزرة “حلبجة” حينَ يفوحُ التّفاحُ في مكان ما؛ أتعودُ بهِ الرائحةُ طفلاً ينادي والدته الطريحة أمام الباب: أمّاه، أمّاه.. ها رائحة التّفاح في حوشِنا! فيما كانت تلك رائحة غاز الخردل، رائحةُ السُّم، رائحةُ موتِها، رائحةُ يتمِه، رائحةٌ ستُلاحقُه لتجرّه، في كلّ مرّةٍ، إلى لحظةِ الأسى المُبرّح أبداً. 

قبلَ وقتٍ قريبٍ قرأ زميلُنا “فرهاد”، ابنُ مدينةِ حلبجة، نصّاً لأبيهِ الشّاعرِ المجهولِ، على ضفّة نهر الماين تحت قمرٍ مائلٍ ونحيل كأنشوطة: “ليس سيفاً أو مسدّساً، ليست دبابةً أو مدفعا رشاشاً، بل رائحةُ التّفاحَ قتلت كلّ أهلي”. 

ولم تغب الرائحةُ، كذلك، في الشّعرِ العربيّ الحديثِ، بل برزت في نصوصٍ مرهفةٍ لم يغفلُ بعضُها الوصالَ العميقَ بين الرائحة والذكرى، كما فعلَ الشّاعرُ أمجد ناصر في قصيدته “الرائحةُ تُذكِّر”، فيقول:

الرائحة تُذكّرُ (…)
بأسرّة في غرف الضحى
بثياب مخذولة على المشاجب
بأشعة تنكسر على العضلات
بهباء يتساقط على المعاصم
بأنفاس تجرّب مسالك جديدة إلى مرتفع الهواء
بمياه الأصلاب
مسفوحة على الدانتيل
بالترائب
بأكباش يَهيجُها البولُ
برواد فضاء تخطفهم رائحة القمر
بالصنوبري
بالليلكي
بالمشرئب.
بأمطار على أسطح من طين
بحنطة مركوزة في الحظائر.
الرائحةُ تُذكّرُ بالأعشاش
بالنضح
بالغيبوبة
باستدارة الكفلين
بحواف الحُمى.
 
قبلَ وقتٍ قرأتُ في قطار سريعٍ مرّ بجبالٍ وشجرٍ وغيومٍ مقطعاً من كتاب توماس برنهارد “Beton” يقولُ:

“حين نفقدُ إنساناً عزيزاً نظلُّ مُحافظين على قطعة من ثيابه، على الأقل طوال الوقتِ الذي نكون فيه قادرين بعدُ على شمّ رائحة الفقيد عليها، وذا يطولُ في الواقع حتى مماتنا، لأننا نظلّ نعتقدُ بأنّ رائحته تجعلُ قطعة الثياب هذه حيّةً، حتى لو كان ذلك منذ وقت طويل ليس غير تخيُّل”. 

لفتني وصفه الواقعيُّ لقدرة الرائحة على تجاوزِ الواقعيِّ، لكونها أحياناً صلةً بين الحياة والموت، بين الحيِّ والميّتِ، رابطاً عميقاً بين الروحِ والمادّة، داخل الزمنِ وخلفه.

(درج)