سنية صالح: مخصّصات النسر الميت

0

في تقديمها للأعمال الشعرية الكاملة لسنية صالح (1935 – 1985)، كتبت الناقدة خالدة سعيد، وهي شقيقة الشاعرة: “سنية صالح من الشعراء الذين علقوا الخط الفاصل بين مستوى الشعر ومستوى الحياة. مع ذلك لا يمكن أن نعرف شعرها، استنادًا إلى حياتها، ولا نقدر أن نكتب حياتها انطلاقًا من شعرها، مهما كانت الوشائج بين المستويين، لأن لسنية صالح كيمياءها الشعرية الخاصة شأن الشعراء الحقيقيين”.

سنية صالح شاعرة وقاصة سورية. عاشت بين بيروت ودمشق. تزوجت من الشاعر محمد الماغوط وأنجبا ابنتين.

من دواوينها: “حبر الإعدام” و”ذكر الورد”، ومن مجموعاتها القصصية: “الغبار“.


إنه سكونُ الشعوب المُصابة،

وألمُ الثوّار وهم يلتقطون الصدقةَ ويفرّون،

وحين يُزَجُّون في الأقبية، تظلم روحهم،

فتنتشرُ عصور صفراء،

دمُها الحائلُ يشبهُ دمَ الحشرات،

والثورةُ في الخارج تَثِبُ وتَثِبُ،

تحاول أن تسترد كائناتها،

فتتشابكُ الشرايين بالأوردة،

ويختلط الدم الصاعد بالنازل،

دمُ الثورةِ مع دمِ العبوديّة،

ويتوغّل كلُّ شيءٍ بعيدًا ليدنّسَ القلب،

بينما يبحثُ أصحابُ البزّات الرسمية عن امرأةٍ

كي ينالوها خفيةً في مستودعاتهم،

أو يدفنوها في قبورهم،

لتدفئهم في ليالي الموتِ الباردة

*

لولا تلك الكتلةُ المُتَرهّلةُ من السنين، الرابضةُ على كتفيه،

الكتلة التي تُعيقُهُ عن اللحاق بأحلامه البعيدة والمتوهّجة،

ثم تلك الجُثَث التي تغفو وتستيقظُ

فوق خرائطِ الوطن،

تُحيلُ العمرَ إلى سنين قائظةٍ وكاويةٍ كالجمر؛

كأنه الهدير والصحراءُ تسعى وراءه بنابين من السمّ؛

أنقذوه فتولدَ الثورة.

*

ثمّة زنزاناتٌ صغيرةٌ تتجوّل في دمهِ وأحشائه المشتعلة

تحتشدُ في حلقه حتى لتوشكَ أن تخنقه،

كان عليه أن يبقى صامدًا أمام تلك العواصفِ الخياليّة،

يضربُ العبودية بيديه الباليتين، فتنتفخ جراحهُ،

وتتشقّقُ كالفم الظامئ،

هل يُطبقُ أنيابه عليها ويبصق؟

أم يطبقُ تلك الأسنانَ المهترئةَ الصفراء،

الأسنانُ المرفوةُ بالمعدن والجبس

وأشياءَ أخرى.

يضربُ الوهمَ بجناحيه الكسيرين، فتستيقظُ

حشراتٌ لا حصرَ لها،

تتقدمُ… فيتراجع،

تتضخّمُ… فيتضاءل،

ويدفعهُ انتصارها إلى الوقوع في هلوسة

تامّةٍ من البحثِ والتفتيش عن مفرّ، من الاسترحام

وطلب الغفران.

وأخذت همومهُ تنتفخُ،

ذهل من حجمها الذي صارت إليه،

فالطغاة والجلّادون يجرون وراءه،

وهو يجري هاربًا بخفّةِ الريح،

مستجيرًا متألّمًا،

“هيّا أنقذيني أيتها الثورة”

ارتفعت العاصفةُ الرصينة بما فيها

من طغاةٍ وأقبيةٍ وجلّادين،

وطارت،

يحملها جَناحاها العظيمان،

ويتدلّى بردى من منقارها الصلب،

لقد جاء فصلُ التقلّبات،

فصل الأزهار المتوحّشة،

وأطلق الطاغيةُ كلاب شكّه وغضبه،

أطلق حبلَ أحشائه في جوف الأرض،

فصارت سراديبَ لا حَصرَ لها

هيّا اسكنوها أيها الثوّار،

أيها المشرّدون،

لقد ترهّلت الثورة،

وتَراكَمَ عليها شحمُ القصور،

وجرى في عروقها دمُ الطغاة.

وعندما تدفّقت نقود الزمن

قذفوها جزافًا،

فاغتاظت النسور،

النسرُ القابعُ بلا حراكٍ على صغارِ النقود

ينتظر الفرصةَ كي يَفِرَّ إلى الأبد،

ويتركَ الثورةَ للنسر الفِضّيّ،

الثورة التي يجرجرها الطغاة على الأرض،

يرصدون مخصّصاتِها للتجارات العليا

والتزييف والتقسيم الخاطئ والمِنَحِ البلهاء،

“لقد صرنا جبناء ومُتلعثمين،

والمدن الفضيّة تُلمِّعُ عضلاتها المُدمَّرة،

تحشو بها صدوعَ القلبِ المنهار”.

خذ نقودك واعبُرْ أيها الزمن.

ها هي امرأةُ الطاغية تنحني تحت عصا القلقِ والتوجّس،

لتسمعَ موسيقى الثوّار من شقوقِ

المخابئ والسجون،

فتُذعر،

تُسرعُ وتشربُ الزمن، نبيذَها الوحيد.

التاريخ ذاتُه ملوّثٌ بدم الزهرة والسحابة،

بدم نَيسان الغامض،

نيسانُ المختبئُ في أعمارنا،

لم يبقَ أمامه إلا الجسورُ المتداعية

والأنهارُ المتوحّشة،

وعندما أبحرتِ الطفلةُ الشقراءُ ذاتُ العينين الزرقاوين،

مع كلابها القطنية،

لتبحث عن مخابئ الثورة، عن أعلامها الحقيقية،

أسرَتْها مقدونيةُ الشهيرةُ برجالها الأشِدّاء،

وولائمها الحربية.

*الترا صوت