سمر يزبك: مازن حمادة: عوليس واحدٌ ضائعٌ يكفي لنهاية العالم

0

تعود الصحافية الفرنسية كارانس لوكين إلى فتح الصندوق الأسود لأقبية التعذيب في السجون، مُرافقةً هذه المرّة مازن حمادة، ابن البلد كما يسمّي نفسه؛ ابن دير الزور كما يكرّر، وابن الجزيرة السورية خزّان القمح والنفط والكرم.
أصدرت كارانس لوكين كتابها “انسَ اسمكَ” عن دار ستوك الفرنسية، لتروي حكاية مازن الذي سجّلت حواراته بمساعدة الشاعرة عائشة أرناؤوط، وكان ذلك قبل أن يختفي في سورية بعد أن عاد إليها في فبراير/ شباط 2021، تاركًا وراءه أسئلةً واتّهاماتٍ وقليلًا من التعاطف.
مازن حمادة يختصر حكاية حقّ العودة الذي مشى فيه حتى النهاية، ولم يلتفتْ إلى الوراء، ضاع عوليس الباكي والمُغالي بشطحاته، وكان ضياعه يكفي لنهاية العالم، ولكن الشمس ما تزال تشرق!
قصّة مازن تختصر المأساة السورية المعقّدة؛ ينتمي مازن إلى الجيل الذي جاء بعد انقلاب حافظ الأسد، ولم يعرف سوى حكم هذه العائلة في عمره، حاله حالَ كُثر منّا، يقول مازن إنه لم يكنْ يحتاج شيئًا عندما كان في دير الزور، كان الابن الأصغر لعائلته، وكان يقول عن نفسه كما كتبتْ كارانس بأنه كان سلطانًا، وأنه خرج للشارع من أجل التظاهر السلمي، ومن أجل حقّ السوريين بالعدالة والكرامة. لم يكن يظنّ أن الأمور ستنتهي هكذا! إنه مذهولٌ، خائب الرجاء، هائمٌ في سواد قلبه! قصّته هي قصّة آلاف الشباب الذين فعلوا مثله، كما شهدوا، وكما انتهى كلٌّ في مصيره التراجيدي.
اُعتقل مازن حمادة على فتراتٍ متباعدةٍ؛ أربعَ مرّات، وفي كل اعتقالٍ كان له من التعذيب النصيب الكبير، كان يُعذّب ليقول بأنه كان يحمل السلاح، نحن نتحدّث ومن خلال شهادته لكارانس عن الفترة الواقعة بين 2011 و2014، حيت تعرّض لأبشع وأقسى أنواع التعذيب، بلغت حدّ اغتصابه بأداة سمّاها الخازوق! لماذا؟! ليعترفَ بأنه لم يكن متظاهرًا سلميًّا، وبأنه أراد أن يقتل جنود النظام، القصّة حتى هنا تبدو عاديةً ضمن سياقِ مصير آلاف المعتقلين. النهاية تبدو مناسبةً لعقولٍ عرفت القمع والاضطهاد، جرعة العنف والقسوة هذه اعتدناها هنا، ولكن ما حصل لاحقًا يهزُّ العقول!

حكايةٌ واحدةٌ عن الألم تكفي لتختصر حكاياتِ تاريخه عبر العصور، مَنْ يصمت عن جلاديه يصمت عن معاناة الآخرين. وهكذا، عبَرَ مازن البحر لينتهي به الأمر كلاجئٍ في هولندا، ويحكي حكايته، وهكذا أيضًا قرّر أن يُخرج عذاباته للعلن على مسرح فرجتنا، وسافر في جهات الأرض ليُضيء على قضية المعتقلين، عبْرَ الحديث عن تجربته في المعتقلات. وصفَه كُثرٌ بالمضطرب نفسيًّا، أُشيعت عنه أقاويل ونمائم كثيرة، والإشاعة في الحالة السورية تحديدًا تلعب الدور الرئيسي في إشعال معاركنا وإحراقنا، فكيف ونحن أمام لغوِ ولغطِ وهذر السوشيال ميديا، حيث تتلوّن الحقائق، ويختلط فيها الحابل بالنابل.
تم الاحتفاء بمازن عندما كان يقوم بذلك الدورالذي نريده له؛ دور الضحية التي تتحدّث وتستخدم نفسها لقضيةٍ كبيرةٍ، نريد استخدام مازن لنقول إن لنا قضيةَ عدالةٍ، ولْتنظرْ أيّها العالم؛ انظر إلى أشلائنا، وما تبقّى لنا من عقول قادرة على أن تحكي حكاية آهاتنا، لقد كنّا نصفّق لمازن، وأغلبنا قام بهذا الدور!
لقد أردنا أن نصدّق أنه الانسياق الطبيعي لناجٍ من التعذيب المروّع، ولكن مازن ولسببٍ ما ـ لا أظن أن هناك أحدًا يقدر على فهمه ببساطةٍ ـ لم يستمرّ، فنحن لم نعشْ أوجاع الشاب وعذاباته، تلك التي يُعبّر عنها في كتاب كارانس، ويقول بأن هنالك شيئًا ما في داخله، شيئًا في رأسه لا يتوقف عن الأزيز… از از از از از ازاز…..
في أحد الأيّام، قالت فرجينيا وولف إن هنالك طنينًا في رأسها، هنالك أناسٌ يعرفون جيّدًا هذا الطنين، وهذا الطنين ترجمَهُ مازن بتكرار حرف الزاي، هكذا، ساكنٌ وبلا توقّف، وبلا شهيق ولا زفير، عصيٌّ على الفهم، ولا يمكن لنا محاكمته عليه، إننا نحاكم هنا ناجيًا مشى إلى انتحاره، أحرقَ الرجل مراكبه ومضى! عوليس الهائم قرّر أن يعود إلى البلاد التي يحبّها، لقد أكل الفراغ قلبه، وجعلته حكايته التي يكرّرها رجلًا مًحْتَفلاً به، نصفّق له، ونحمله على الأكتاف، ثم عاد الرجل، عاد إلى المُوات، وغضب كثيرون لعودته، إن المنطق اللاعادي يقول بأن الناجي من الموت لا يعود! هذا مخالف للمُتوقّع، ومخالف لطريقة حكمنا على ضوابط ومنطق الأمور التي تحدّدها رؤيتنا المُسبقة للفعل ولردّ الفعل، إننا نُحاكم مَن يُخالف توقّعاتنا، إن الشرّ يكمن في قدرتنا على إعطاء أنفسنا حقّ محاكمة الآخرين وجَلْدِهم، والشرّ يكمن في عدم قدرتنا على إبراز أبسط ضوابط تعاطفنا الإنساني مع الناجين من الاعتقال والتعذيب الذين ندّعي الدفاع عنهم، أو حتى  فهم (التراوما) التي يعيشون فيها، إننا هنا لا نفهم أدنى درجات الألم البشري الذي لا نألفه، ونعيد تدويره، بتلك السخرية القاسية التي تجعلنا نتذكّر أنه لا يحقّ له أن يكون ناجيًا مختلفًا! وهو الآن سيضرّ بقضيّتنا العادلة، فَلْنُعْلِ من شأن العقائدي، إذًا، على حساب الإنساني؛ الإنساني العادل الذي حاربنا لأجله، أو هكذا اعتقدنا على الأقلّ!

لا أميل إلى ترديد الاتّهامات التي أُحاطت بالرجل المُعذّب، لا بدّ أن اضطرابًا نفسيًّا جعله يقف عند تخوم الضياع، وفقدان القدرة على المحاكمة العقلية، ومن المؤكّد أن حفلاتِ التعذيب الرهيبة قد أفقدته نفسه، نعم، لقد فقَدَ نفسه، وعرف أن لا مكان له في هذا العالم، ولكن ليس هذا هو المهمّ؛ المهمّ هو في ما فعله بنفسه! هو الذي اعتقد أنه سيغيّر لامبالاة العالم تجاه بلده، عندما يُعيدُ مرارًا وتكرارًا تفاصيل تعذيبه المرعب، والأهمّ فعلنا نحن وحكمُنا على فعله، رغم عدم تعرّض معظمنا لِمَا تعرّض له.
لقد ردّد دومًا أنه يفعل ذلك من أجل المعتقلين الذين تركهم وراءه، وأنا أصدّقُ ما يقول، ولا أصدّقُ قدرتنا غالبًا على تكسير المعاني النبيلة التي يريد الآخرون العمل عليها، أفعل ذلك من فقدان الأمل! ولا أميل إلى روح السخرية التي تجعلنا ننظر إلى بعضنا بدونيّةٍ وتجاهلٍ وعنصريّةٍ، ومقاضاةٍ علنيّةٍ تنتهي بقتلٍ معنويّ وبقتل أحقيّة قضيّتنا أمام العالم اللامبالي.

لقد حمل مازن صوتَ المعتقلين، إنه دون كيشوت، شربَ من ماء الفرات، ويُصدّق فزعات النخوة والشهامة! إنسانٌ بسيطٌ عادي، ليس ملاكًا وليس شيطانًا، نجا بأعجوبةٍ من التعذيب، لم يطلب من أحد شيئًا، عزيز النفس، غائبٌ عن بشاعة العالم! إنه ابن البيئة القادم من الأطراف المهمّشة؛ لم يأتِ من العاصمة دمشق، ولا من اللاذقية، ولا من حلب، لقد جاء من مدينة دير الزور، التي تعرضت لعنصرية مدن المركز، هو قادمٌ من مكانٍ موسومٍ بالارتباط القويّ للعلاقات العائلية والقبليّة. ببساطةٍ، هوابن بيئةٍ خرج شبابها إلى الشوارع حالمين بعالم أفضل.
مصيره مصيرنا جميعًا، وحكايته حكايتنا، بشكلٍ أو بآخر، حتى لو رفضنا العودة، وحتى لو خالفناه الرأي، ونحن ـ كُثرٌ منّا وليس جميعنا ـ نرغب بأن يسمعنا، وأن نعرف مصيره هو وغيره من المُغيّبين والمعتقلين، ربما لو استطاع سماعنا لقلنا له بأننا لن ننساه، وأننا نحبّه كما هو، وأنه جزءٌ من حلمنا الذي أصبح كابوسًا؛ حلم الخروج إلى الشارع احتفالًا بفعل الحرية، وكابوس العودة إلى أقبية سجون المخابرات.
نصدّقه في ما يقول من الآن، وحتى آخر لحظةٍ ممكنةٍ، كي يحظى هو ومئات آلاف الضحايا بقليلٍ من العدالة!

*ضفة ثالثة