كتب الروائي المصري صنع الله إبراهيم الرسالة القصيرة التالية لصديقه الكاتب والفنان والمناضل غسان كنفاني:
(أتعرف يا غسان؟ حين لا نكتب قصصنا تصير ملكا للأعداء).
تُتهم النساء بأن وسائل تعبيرهن شفهية محضة، ويشتد هذا الاتهام ضراوة لتوصف النساء عامة وبمنطق أشبه للتعميم بأنهن ثرثارات! والمحصلة، نسبة ضئيلة في حجم وعدد المنتج الأدبي المكتوب بأسماء النساء.
لماذا لا تكتب النساء؟ هل لأنهن يعتبرن الكتابة فعل ذكوريا ومن اختصاص الرجال فقط؟ أم أنهن يخفن ردود الفعل على ما خطته أو تخطه أقلامهن؟ وربما يخشين من التجاهل والإقصاء وحتى السخرية.
تبالغ بعض الدراسات في حجم النتاج الأدبي المكتوب من قبل النساء، حيث تقول إحدى هذه الدراسات أن النساء يكتبن ربع عدد الصادرات الأدبية وخاصة من الشعر!
وتقول دراسة أخرى أن نصيب النساء من كتابة النصوص المسرحية معدوم جدا، وهنا يفرض السؤال نفسه! كم هو عدد كتاب النصوص المسرحية من الرجال؟
شهد انخراط النساء السوريات في الكتابة وخاصة بعد الهجرات الكبيرة ووصول النساء إلى أماكن يسهل فيها الطباعة والنشر والتوزيع والإعلان والترحيب والاحتفاء بالكاتبات وصادراتهن الأفنية بشكل عام والأدبية بشكل خاص، ازدياد عدد الكاتبات بصورة ملحوظة، وقد أصدرت بعض الكاتبات عدة منتجات أدبية متتالية في عالم الرواية والشعر والقصة القصيرة وفي زمن قصير فعليا، وللأسف الشديد لم يتم إلقاء الضوء بما يكفي والأصح بما تستحقه هذه النتاجات وكاتباتها، لكن كل هذا جزء يسير من النتاج الأدبي المتوقع أو المطلوب أو الموجود فعليا كمادة شفوية ولكنه مؤجل أو غير مرحب به أو مهجور وممنوع.
لا تكتب النساء، لأن السردية العامة الشفهية للنساء متلاعب بها، نعم يتم التلاعب حتى بالمرويات الشفوية المباشرة للنساء، والذريعة هي حمايتهن، وتصدق بعض النساء هذه المزاعم، فيصمتن، أو في أحسن الأحوال يتلاعبن بسرديتهن، خوفاً أو إرضاء لقوى الأمر الواقع.
تقول سماح: قررت الكتابة، استعملت الجوال لأنشر قليلا مما أكتب والحقيقة أنني كنت طامعة بالتقدير والثناء والدعم من أجل المتابعة، لكن ما حدث تجاوز كل مخاوفي وتوقعاتي، وبخني أبي بشدة واعتبر أني خذلته بما لا يليق بي كامرأة، وأرسلت لي خالتي الطبيبة رسالة قصيرة تقول لي فيها:
(وكأنك تسلطين عشا من الدبابير عليك يا حلوة)!! كانت خالتي تقصد بأنني تجاوزت حدودي كامرأة حين كتبت جملا جريئة أو صريحة عن الرجال أو عن الحب، وحتى عن خيالاتي الحسية والعاطفية.
لكن سماح، أصرت على الكتابة لأنها في المقلب الآخر وجدت من يشجعها، بعض الزميلات والصديقات والجارات، نصحها صديق بنقل كل ما كتبته على جوالها إلى الورق، مع بعض النصائح، إقرائي لنفسك أولا، كرري كتابة نفس المشاعر مرة ثانية واختاري الأكثر إقناعا، اسمحي للبعض بتصحيح عثراتك اللغوية، لا تطيلي ولا تكرري، نصائح ثمينة لامرأة تدخل عالما من الألغام لأول مرة.
لا يمكن الحكم على نتاج سماح الأدبي، مع أن نتاجا أقل جودة وبلاغة وبأسماء كتاب مشهورين تغزو الأسواق وتملأ رفوف المكتبات، لا يمكن الحكم نقديا لأنها مازالت خائفة ومازالت كتاباتها تتداول في السر، تخاف ردود الفعل، وتحرش مدعي الكتابة ووصمة العار من عائلتها أولا وقبل الجميع، لكنها في الحقيقة أقلعت وستعيد الكرة والإصدارات أيضا.
سُألت بعض النساء القارئات والمميزات في النقد، خاصة اللاتي كن يقدمن آراء نقدية عالية الجودة نقديا وذواقة شكليا على إصدارات أدبية مشهورة، لماذا لا تكتبن؟ سخرن من الموضوع بشدة، لاحقا تم تغيير صيغة السؤال: هل فكرت إحداكن بأن تصير كاتبة؟ أن تعمل ككاتبة كما الكثير من الكتاب والكاتبات المشاهير؟ كان الرد موحدا: الكتابة لا تطعم خبزا، يكفي أننا قارئات في زمن عزت فيه القراءة والقراء والقارئات، لكن الأهم قد حصل، لقد اعترفن أن الكتابة عمل جدير بالاختيار والتفرغ له، وهنا يمكن لنا الإشارة وبتلقائية عالية وصحيحة بأن جمهور القارئات يتسع ويزداد، وربما لو وصلنا إلى إحصائيات محددة لوجدنا أن عدد القارئات أكبر من عدد القراء، خاصة ما يتعلق بالصادرات والنتاجات الأدبية.
لا تكتب النساء لأنهن يخفن من أصابع الاتهام توجه إليهن بصورة مراوغة، كل شخصية نسائية في أي منتج أدبي، تخرج عن السياق المجتمعي العام، أو تخرق العادات والتقاليد وتخوض في تفاصيل وأجواء العوالم الحسية للغة تتشخص للجميع على أنها شخصية الكاتبة حصريا وبكل تأكيد حتى لو انكرت الكاتبة ومهما زادت في الإنكار، ومهما ابتعدت ملامح وظروف الشخصية عن حياة الكاتبة.
حين سُألت النساء عن أزواجهن المغيبين أو الموتى أو المبعدين أو المهاجرين على دروب العبور القاتلة وأجب، بعدم معرفة مصيرهم أو أكدن غيابهم، تم تصنيفهن فورا بأنهن زوجات إرهابيين، حين طلب منهن إبراز الهويات الشخصية وأسماء الخانة وأرقامها وعناوين السكن صنفوهن فورا حسب مكان الإقامة وحسب خانة الزوج وحتى حسب أماكن الولادة، لعبت الهويات القاتلة دورها الكبير المانع والمخيف لكتابة سرديات النساء وتداولها حتى شفهيا، خوفا من دفع ثمن الهويات القاتلة التي طالما تلاعبت بحيوات النساء وجردتهن من التعريف الحقيقي لهن.
في فضاء مسموم بالعنف والتمييز والاستبداد، يكون التلاعب بسرديات النساء مقصودا وموجها.
للحروب قواعد ذهبية، أولها تحويل النساء وسردياتهن إلى توابع ملحقة بأصحاب القوة أو بأصحاب الحكاية الأصلية كما يردد أولي الأمر، لا تملك النساء حكاياتهن حتى يكتبنها، هنا مكمن التمييز، لا تملك النساء تعريفا لحيز وجودهن الخاص ولا حتى في السردية العامة المنتهكة والمروية بناء على تحكم الأقوى وبناء على نية مسبقة بطمس الكثير من السرديات ، لأنها كاشفة أولا، ولأنها خارج النمط السردي التوظيفي المطلوب تعميمه ثانيا، وكأن الحكاية، حكاية كل امرأة مجرد توصيف جنائي لجريمة موصوفة ومحددة التوجه والشخصيات ومحكّمة مسبقا ومنجزة بسياق مفروض، حتى الصياغة اللغوية باتت صياغة عامة ومتشابهة رغم تبدلاتها الحقيقية ورغم تغييب شهادات أصحابها وصاحباتها رغما عنهن، ونفي حضورهن كشاهدات حقيقيات أو كراويات للسردية أصلا.
لا تكتب النساء سرديتهن، لأنهن إن رسمن شخصيات نسائية كالمطلّقة سيقول القراء/ات: هي مطلقة لأنها خرجت عن الالتزام بقواعد الزواج أو أنها عاقر، وإذا ترملت سيكون لزاما عليها التمسك بترملها والبقاء في بيت أهل الزوج أو العودة لمنزل أهلها، هي تخاف الكتابة لأنها تخاف من روي السردية الحقيقية في الأساس، تخاف التصريح، وتعتبره شراً لا طاقة لها ولا قدرة تعينها على تحمل تبعاته.
تخاف النساء من الكتابة ويتقاعسن عنها لأنهن لا يملكن وقائعها، وإن رددنها علناً، كان سداد الثمن مطلوباً وحساباته جاهزة مهما كانت هذه الحسابات مخطئة وتمييزية وظالمة.
كتابة النساء لقصصهن، لن تصنع منهن كاتبات مشهورات، ولن يمتهن الكتابة كصنعة تعيلهن وتعيل عوائلهن، هي في المقام الأول حفاظ على الحق في الكتابة، في الروي والإفصاح، هي فعلا حماية للتاريخ والزمن وللنساء وللبشر وللحجر من أن يسرقه الأعداء، ولصوص سرديات النساء كلصوص الحياة والحراس الحصريين المؤهلين بحكم القوة لتفسير ورواية كل ما حصل ويحصل، وكأنهم وحدهم مالكو الحياة وواهبيها.
سابقا قال شهريار: احكي يا شهرزاد كي يسلم رأسك من الذبح، حكت شهرزاد واستفاضت، وبنت عوالم وأخيلة دامت حتى الآن وستدوم لتفضح طبائع الصراعات على الحياة والمتحكمين بها، تلاعبت شهرزاد بالزمن وكأنه مبني في جوهره على روايتها والآن وفي كل وقت، قبل الحرب وبعدها، أثناء المقتلة وبعدها وقبلها أيضا على النساء كتابة سرديتهن.
تعري كتابات النساء جوهر العنف وأشكاله وتجلياته، وربما قد تؤخر كتابة النساء شبح حروب قادمة، وقد تمنعها، كلنا ثقة في ذلك.
ربما تستعيد الكتابة صدقها وحضور الراويات الحقيقيات لها، وربما تعيش النساء وهن قاصدات ومصرات على رواية قصصهن وقصص سواهن وشركائهن في درب الآلام الطويل، لا ليمتن بصمت أو يعنّفن باستسلام أو تكمم أفواههن قسراً وقهراً.
*شبكة المرأة السورية