لعل الإشكالية الأولى التي يثيرها كتاب “الرواية الرسائلية” للناقد الأكاديمي السعودي فهد ابراهيم البكر، (مؤسسة الانتشار العربي والنادي الأدبي الثقافي في الطائف)، تتعلّق بالمصطلح؛ ذلك أن كلمة “الرسائلية” هي صيغة نسبة منسوبة إلى كلمة “الرسائل” الجمع والأصل في اللغة العربية أن تُصاغ النسبة من المفرد. ثم إن الباحث يبرّر اختياره الوصف بالقول: “من هنا ارتضينا وصف “الرواية الرسائلية” لأنه أكثر قرباً واستعمالاً وتثاقفاً، كما أنه أكثر دلالة على صيغة “تفاعل” التي تنبثق منها صيغ عديدة ذات ارتباط كالتداخل والتكاتب والتفاعل والتراسل والتواشج ونحوها” (ص 63).
يصدّر الباحث كتابه بمقتبس “لا يوجد تعبير لا تربطه علاقة بتعبيرات أخرى” لميخائيل باختين، ويذيّله بمقتبس “فموضوع الشعرية – ولنقل هذا بكل ثقة – ليس النص، وإنما جامع النص” لجيرار جينيت. وقد أحسن التصدير والتذييل لأن كلاهما يشير إلى علائقية النص وانتظامه في جامع معين يمنحه شعريته أو روائيته، وهو ما يتمحور حوله الكتاب، بمقدمته وتمهيده وفصوله الخمسة والخاتمة. ففي المقدمة يؤكد تداخل الأجناس الأدبية ويعرّف “بأهمية الموضوع، وأسباب اختياره، وأهم أهدافه، ودراساته السابقة، ومنهجه، وتبويبه”. وفي التمهيد يعرّف بـ”التناص والتفاعل والحوارية في المبدأ الروائي”، ما يعني أن العلائقية المشار إليها في التصدير والتذييل تنسحب على المقدمة والتمهيد وسائر فصول الكتاب.
دليل روائي
يشكّل الكتاب مدخلاً “إلى شعرية الأصول والأنواع والوظائف والتحولات” في الرواية الرسائلية، كما ينص العنوان الفرعي ويترجم المتن. وهو، إذ يشتمل على كثير من المصطلحات والمقولات والأنواع والوظائف والمعارف المتعلقة بالفن الروائي، فإنه لا يتعدى في مقاربتها وظيفة “المدخل”، ويزاوج بين التنظير والتطبيق، مما يجعله أقرب إلى دليل روائي تعليمي أو معجم مصطلحات. فالمدخل لا يحتمل المزيد من التوسع والتعمّق في الموضوع، وحسبه أن يؤسس لفرع جديد في الرواية العربية، على المستويين التنظيري والتطبيقي، لا الإبداعي، باعتبار أن هذا الفرع ظهر في الثلاثينيات من القرن الماضي على يد الروائي محمد عبد الحليم عبدالله في روايته “إبريسم أو غرام حائر” التي كتبها بين عامي 1935 و1936، ولم تبصر النور حتى العام 1970. وبالتالي، تكمن الجِدّة في تناولها النقدي وليس الإبداعي، الأمر الذي يتنكّبه البكر في دراسته، فيحدد أهدافها في المقدمة، ويعمل على تحقيقها في الفصول الخمسة.
تهدف الدراسة إلى “فتح مجال الرواية على حوارية الأجناس وشعريتها”، “محاولة التأسيس لرواية رسائلية عربية ” تضارع الفروع الروائية الأخرى، “إثبات حضور هذا اللون بسماته الجديدة” المتناغمة مع رهانات العصر وتحولاته، وإماطة اللثام عن موضوعات بكر وإخضاعها لثلاثية “الرصد والدرس والنقد” (ص 14 و15). وفي إطار السعي لتحقيق هذه الأهداف، يقوم الباحث البكر بدراسة تموضع الرواية الرسائلية بين الأجناس المحاذية لها والأشكال المحيطة بها في الفصل الأول، ورصد تمظهرات الرسالة التصاعدية فيها في الفصل الثاني، والمقارنة بين تجلياتها الغربية والعربية في الفصل الثالث، وتقصّي وظائف الرسالة الروائية في الفصل الرابع، واقتفاء أثر أدواتها المادية في الفصل الخامس. وهكذا، يحيط بخارج الرواية الرسائلية وداخلها، ويرصد موقعها وتعالقاتها وتحولاتها ووظائفها وأدواتها، في إطار هذه الإحاطة.
بين الغرب والشرق
على المستوى الخارجي، أو الخارج ـ داخلي، يتناول البكر في الفصل الأول مجموعة من الأجناس المحاذية للرواية الرسائلية والأشكال المحيطة بها، من قبيل: اليوميات والمذكرات، الاعترافات والمكاشفات، التقارير والخطابات، المنشورات والإعلانات. وهي أجناس تشاكل النص الرسائلي، وتحاذيه وتحيط به وتتفاعل معه وتندمج به. وتتراوح علاقتها به بين ورودها فيه بشكل مستقل، وانتظامها داخله، وتشكيلها جزءاً من نسيجه، فيصبح النص الروائي نسيجاً مكوّناً من مجموعة أجناس وأشكال تعبيرية تلتحم بالنص الروائي وتتخلله. وهو، في دراسته هذه الأجناس، يقوم بالتعريف الاصطلاحي بها، ويبيّن طبيعة العلاقة بين الجنس المدروس والنص الرسائلي في إطار الرواية، ويعرض تمظهر كل منها داخل النص، ويعدد أشكاله ووظائفه، ويضرب الأمثلة على ذلك من النص الروائي العربي، مما يجعل درسه يزاوج بين التنظير والتطبيق، ويمنحه بعداً تعليمياًّ واضحاً يعزّز الفائدة المرجوة منه. ويخلص من ذلك كله إلى أن الرواية “جنس أدبي مفتوح قابل لاحتواء كل أنواع الخطاب” (ص 60).
وعلى المستوى نفسه، يعقد البكر في الفصل الثالث مقارنة بين الروايتين الرسائليتين، الغربية والعربية، فيشير إلى ظهور الرواية الرسائلية الغربية مع الانكليزي صموئيل ريتشاردسون (1689 – 1761)، في القرن الثامن عشر، بروايتيه “باميلا أو جزاء الفضيلة” و”كلاريسا أو تاريخ السيدة الشابة”. ويحصي عشرين جنساً روائياًّ فرعياًّ، سبقها أو تزامن معها أو أعقبها، من جهة، ويشير إلى ظهور الرواية الرسائلية العربية مع المصري محمد عبد الحليم عبدالله في ثلاثينيات القرن العشرين، بروايته “إبرسم أو غرام حائر” التي كتبها بين عامي 1935 و1936، وأبصرت النور، بعد رحيله، في العام 1970. ويحصي الباحث ثلاثين رواية مؤسسة تنتمي إلى هذا الجنس الروائي، صدرت خلال نصف قرن، تبدأ برواية عبدالله في العام 1970 وتنتهي برواية “ليليات رمادة” لواسيني الأعرج في العام 2021، من جهة ثانية. وبذلك، تكون الغربية قد سبقت العربية إلى الظهور بقرنين ونيف. ويندرج، ضمن هذا المستوى الخارج ـ داخلي، الفصل الخامس من الكتاب الذي يتعلق بتطور الأدوات التي تستخدمها الرواية الرسائلية، بدءاً من الطابع الورقي التقليدي، مروراً بالطابع الآلي التكنولوجي، وصولاً إلى الطابع الالكتروني الرقمي. ولا يفوته أن يستشهد بالشواهد المناسبة في كل من الفصلين المذكورين، وقد يستخدم الشاهد نفسه في غير فصل ومبحث، فتتعدد استثماراته وتتضاعف الفائدة منه.
على المستوى الداخلي، أو الداخل ـ خارجي، يحدد البكر في الفصل الثاني من كتابه أنماط الظهور الرسائلي في الرواية العربية بخمسة، تتدرّج من ضآلة الأثر الرسائلي والاكتفاء بالإلماح إليه في النمط الأول إلى استحواذه على الرواية في النمط الخامس. غير أنه يعتمد الكمّ معياراً لتحديد النوع ما قد يجانب الدقة العلمية، فالكمي لا يصلح لتنميط النوعي، في كثير من الأحيان. هذا التدرج الأحادي ضمن النوع نفسه، يتخذ منحى علائقياًّ في المباحث الأخرى من الفصل نفسه، فتتدرج العلاقة بين نوعي الرواية والرسالة من استئثار الأول إلى التنازع بين النوعين إلى هيمنة الثاني على النص الروائي. ويحدد التمظهرات المختلفة لهذا التدرج، سواء ضمن المرحلة الواحدة او بين المراحل المختلفة، ويضرب الأمثلة النصية على ذلك.
وإذا كان معيار الكمّ هو المعتمد في تحديد الأنماط والتدرّجات في الفصل الثاني، فإن الباحث يستخدم معيار النوع في تحديد وظائف الرسالة في الفصل الرابع. فيحصرها بثلاث وظائف رئيسية هي: التقييد والتوثيق، التعبير والتنفيس، الإصلاح والتوجيه. وتتفرع من كل منها وظائف فرعية يقوم برصدها وضرب الأمثلة على كل منها.
وهكذا، يعكس الكتاب جهداً أكاديمياًّ كبيراً، على المستويين التنظيري والتطبيقي، في “التأسيس لجنس روائي فرعي عربي جديد، هو الرواية الرسائلية” (ص 151)، فيملأ فراغاً في الدرس النقدي العربي، ويشكل حاجة للدارسين والطلاب. على أنه، رغم هذا الجهد المركب، فإن الباحث لم يسلم من الخلط بين المصطلحات، حيناً، واستخدام المصطلح الواحد في غير معنى، حيناً آخر، ما يستدعي معالجة هذه الهنات في طبعة لاحقة. وهذا لا ينتقص من قيمة الكتاب والفائدة المتوخاة منه. وأعتقد أن الباحث حقّق أهدافه، إلى حدٍّ كبير.
*اندبندنت