“ممرّ المشاة” (نوفل / هاشيت أنطوان) هي الرواية الثالثة للكاتب المسرحي والروائي السوري راهيم حسّاوي، بعد “الشاهدات رأساً على عقب” (2013)، و”الباندا” (2017). وهذه الثلاثية الروائية تأتي بعد ثلاثية مسرحية، بدأها بـ”السيّدة العانس” (2010)، ووسّطها بـ “أنشودة النقيق” (2011)، وختمها بـ”الرخام” (2011)، وبذلك، تحتل “ممرّ المشاة” الحلقة الثالثة في سلسلة روايات صاحبها، والحلقة السادسة في سلسلة نتاجه السرد ـ مسرحي.
في العنوان، ممرّ المشاة مصطلح ينتمي إلى الحقل المعجمي للسير، ويُستخدَم للدّلالة على تلك المساحة المحدّدة بخيوط بيضاء، المخصّصة لعبور المشاة وسط طريق، هو في الأصل لعبور المركبات، حين تسمح الإشارة الضوئية بذلك. وهو عبورٌ آمنٌ وسريع، في آن.
في المتن، يتكرّر استخدام هذا المصطلح في غير مكانٍ من الرواية. وتتعدّد دلالات استعماله من مكانٍ إلى آخر. وتتوزّع على: اللقاء العابر، المنطلق والهدف الواضحين، الحركة الضبابية، العبور السريع، النجاح الجماعي (ص 122)، الأمن، الرّخاء (ص 156)، الازدحام، والفرصة الجيّدة الممهّدة لتصفية الحسابات القديمة (ص 162). ولعلّ ما يجمع بين هذه الدلالات هو: سهولة التنفيذ، كثرة المنفّذين، محدوديّة المكان وَقِصَرِ الزمان.
تدور أحداث الرواية في برلين، بين خريف 2015 وصيف 2016. وينخرط فيها مجموعة شخوص هم: نوح النيجِري، كاترين الألمانية، كارلو وفابيو وبيترا وبالميرو وريكاردو وروزالين الإيطاليون. وجميعهم يقيم في برلين أو يتردّد عليها، ولكلٍّ منهم مساره ومصيره الروائيان، وقد تتقاطع المسارات والمصائر فيما بينها. ويتراوح حضور هؤلاء في النص بين المباشر وغير المباشر، وتختلف فعالية الحضور من شخصية إلى أخرى، دون أن يكون هناك رابط، بالضرورة، بين كمّية الحضور ونوعّيته. فربّ شخصية ضئيلة الحضور في النص غير أنّ فعلها يترك تداعياته على مجريات الأحداث بكاملها. غير أنّ الشخصيتين اللتين تستأثران بالمساحة النصَّية الأكبر، وتتمحور حولهما معظم الأحداث هما: كارلو ونوح. وإذا كانت الأحداث تحصل في برلين خلال عامٍ واحدٍ، محدّدٍ أعلاه، فإنّ الحادثة التي تُشكّل منطلق الأحداث ومهمازها في الرواية تعود إلى زمنٍ آخر ومكانٍ مختلف. وتحصل قبل واحدٍ وثلاثين عاماً، في شتاء 1984، في مدينة نابولي الإيطالية، وبالتحديد، في مطعم للسمك تُرتكب فيه جريمة قتل وجرح، تترك آثارها المتمادية على حياة المنخرطين فيها قَتَلَةً وضحايا.
يُشكّل اللقاء العابر، ذات صدفة، في مقهى برليني، بين نوح الآتي من النيجر وكارلو الآتي من إيطاليا بداية وقائعية، ولا أقول نصّية، لأحداث الرواية. وهذا اللقاء تترتّب عليه نتائج معيّنة، ويتمخّض عن مضاعفات محدّدة، تتمظهر في العلاقة بين الشخصيتين، المختلفتين والمتشابهتين، في آن. وتشكّل السلك الرئيسي الذي ينتظم الأحداث. وفي مقارنة سريعة بينهما، يمكن الإشارة إلى أنّهما تختلفان في المنطلق والهدف، وتتشابهان فيما بينهما أحياناً.
عدم استقرار
في نقاط الاختلاف، نوح الذي يسند إليه الكاتب مهمّة الروي شابٌّ فقير يأتي إلى برلين بحثاً عن مستقبله، ويرغب في الحصول على المال وزرع أسنان جديدة، ويعيش حالة من عدم الاستقرار في العمل والسّكن. في حين أنّ كارلو هو ستيني معطوب الظهر جرّاء رصاصة أطلقها عليه أحدهم قبل نيِّفٍ وثلاثين سنة، يأتي إليها هرباً من ماضيه، ويرغب في تصفية الحساب مع هذا الماضي لعلّه يتصالح مع حاضره، ويعيش حالة من عدم الاستقرار النفسي.
في نقاط التشابه، يحسّ كلٌّ من نوح وكارلو بالفراغ الناجم عن عدم تحقيق الهدف الذي جاء من أجله، وبحاجة كلٍّ منهما إلى الآخر، وبالتكامل فيما بينهما في أحيان، وبالميل إلى السّلم وتجنّب العنف والانتقام. لذلك، يقيمان معاً في شقّة كارلو المستأجرة، يأكلان ، يتبادلان الأحاديث، يقضيان الوقت ، ويشتركان في بهض المهمّات، ما يشكّل ترجمة روائية للنقاط الآنفة الذكر.
بين البداية الوقائعية للأحداث المتمثّلة في اللقاء الصدفة بين نوح وكارلو في المقهى، والنهاية الوقائعية المتمثّلة في لقاء تصفية الحساب بين كارلو وفابيو الذي أطلق النار عليه، في شتاء 1984، في محلّ الأخير، تمتدّ سلسلة من الوقائع، يُشكّل هاجس تصفية الحساب القديم بين كارلو ومطلق النار عليه اللازمة التي تتكرّر فيها. فكارلو يأتي إلى برلين بعد علمه أن فابيو فرّ إليها، وتزوّج بكاترينا الألمانية، وله بنت منها في الثلاثين من العمر هي بيترا. وهو، حين يعرض عليه ريكاردو الانتقام من فابيو مقابل المال يرفض ذلك. هو لا يريد أن يقتله بل أن يعرف فقط لماذا أطلق النار عليه. وإذ تتوثّق العلاقة بينه وبين نوح، يستعين به، لعلّه يقف بواسطته على إجابة عن هذا السؤال الذي يشغله ويؤرّق حياته. غير أنّ الأحداث تشهد انعطافة غير متوقّعة حين تقوم علاقة بين نوح وبيترا ابنة فابيو، تتمظهر في الاهتمامات المشتركة بينهما، وفي انخراطهما في اللعب والكلام والنزهات وممارسة الجنس، ما يؤدّي إلى فتور العلاقة بين كارلو ونوح، حتى إذا ما جرى ترميمها بفعل حاجة كلٍّ منهما إلى الآخر، على المستوى النفسي على الأقل، يقوم نوح، وقد بلغت علاقته ببيترا شأوها ، بإخبارها بالواقعة القديمة وتداعياتها، ويتّفقان على حلّها، وتدبير لقاء بين طرفيها تتمّ فيه تصفية الحساب القديم. ولذلك، يقترحان التمهيد للقاء بأن يصطحب كلٌّ منهما الطرف المقرّب منه، في لقاءات عابرة يتدبّرانها في ممرّات المشاة، الأمر الذي يحصل ست مرّات في شهر واحد، يقوم فابيو في نهايتها بدعوة كارلو إلى محلّه، حيث يتشاتمان ويتعاتبان، بالتزامن مع قيام نوح وبيترا بممارسة الجنس في حجرة الخشب في المحل، ففي الوقت الذي كانت فيه أصوات كارلو وفابيو ترتفع وتتسلّل إلى الحجرة، “كانت بيترا تصعد وتهبط بمنتهى الرغبة، وجهها يملأ القلب صمتاً ساحراً كأنّه الأبد” (ص 166). وهنا، تنتهي الرواية، فتقيم معادلة بين صراخٍ متبادل بين كارلو وفابيو، من جهة، وعلاقة جنسية صاخبة بين نوح وبيترا، من جهة ثانية، ما يدفع إلى الاستنتاج أن المشكلة آيلةُ إلى الحل، والحساب القديم على طريق التصفية.
سؤال الإنتقام
وهنا، لا بدّ من التساؤل: لماذا انتظر كارلو كلّ هذه المدّة ليقوم بتصفية حسابه القديم؟ ولماذا حين أُتيح له الانتقام من غريمه لم يفعل؟ وهل انتظر كلّ هذه السنين ليطرح مجرّد سؤال؟ وهل يستحقّ طرحه كلّ هذا العناء؟ وبالتالي، إذا كان بطبيعته مسالمًا ويأنف من ارتكاب العنف، ألم يكن بوسعه الصفح والنسيان وتجنيب نفسه كلّ هذا العناء؟ هذه أسئلة مشروعة تطرحها القراءة، ولعلّ الإجابة عنها تُحيل إلى مسألة بناء الشخصية الروائية.
في “ممرّ المشاة”، يستخدم راهيم حسّاوي تقنية الراوي المشارك، فيُسند إلى نوح عملية الروي، فيجمع بين هذه التقنية حين يروي ما يتعلّق به شخصيّاً من موقع المنخرط في الأحداث، وبين تقنية الراوي العليم حين يروي ما يتعلّق بالآخرين من موقع شهادته عليها. وقد تصادر هذه الأخيرة حقّ الشخصية الأخرى في روي حكايتها، فهو، على سبيل المثال، يستخدم صيغة الغائب في روي حكاية كارلو، ولا يترك له التعبير عن نفسه بصيغة المتكلّم، الأمر الذي كان كفيلاً بإضفاء بعض التنوّع على ضيغ الروي.
من جهة ثانية، يتّخذ الروي مساراً خطّيّاَ، في الغالب، فتمضي الأحداث قُدُماً، مع استثناءات قليلة، تمارس فيها تقنية الاسترجاع من قبل الراوي لا بصفته مشاركاً بل بصفته عليماً، وهنا، لا تعود هذه التقنية داخلية تحدث داخل الشخصية المعنية بل هي خارجية يقوم بها الراوي بصفته العليمة. ولعل الصفحات الفاصلة بين سير الراوي في أحد شوارع برلين صباح الأحد (ص 7) وبين دخوله الشارع الرئيسي متوجّهاً نحو محطّة القطار (ص 13)، وما تشتمل عليه من وقائع مسترجَعة تُشكّل مثلاً على هذا التقنية، بالإضافة إلى الوقائع المتعلّقة بحادثة إطلاق النار على كارلو في شتاء 1984 التي تُشكّل مثلاً آخر عليها (من الصفحة 33 حتى الصفحة 41). وبذلك، نكون إزاء بنية روائية بسيطة، تجانب التشابك والتعقيد، وتناسب الحكاية المحكيّة. وقد صاغها الكاتب بلغة سردية مناسبة لم ينتقص منها سوى إيغاله في بعض الاستطرادات التي تفسّر سلوكاً معيّناً أو تُحلّل نفسيّة بعينها. على أيّ حال، ما سلف ذكره لا ينتقص من روائية الرواية، وقدرتها على الاستقطاب، فلا يعود قارئها من القراءة بالإياب، بل بقسط من المتعة والفائدة.
*المصدر : اندبندنت