سلام الكواكبي: فشل المجتمع المدني أم إفشاله؟

0

مع بدء الظاهرة الماكرونية، التي أسس لها وصول الشاب المصرفي، إيمانويل ماكرون، إلى سدة الرئاسة الفرنسية سنة 2017، كثر الحديث عن اعتماده الأساس على شخوصٍ من المجتمع المدني في تشكيل فريقه الرئاسي، كما في تشكيل وزارته الأولى. وعلى الرغم من أنّ الرئيس الجديد حينذاك آتٍ من مصنع القوالب الإدارية نفسه، المكنّى بالمدرسة العليا للإدارة، وهي من أعلى المدارس العليا وأهمها، والتي تضمن لخرّيجيها وظيفة سامية فور تخرّجهم، فإنّه، وبمعرفة شبه دقيقة بهذا الوسط النخبوي، مال إلى تفضيل أسماء مجهولة من المجتمع المدني الفرنسي، للعمل معه ولتحقيق برامجه التي نعتها بالإصلاحية. وبميله هذا، سعى إلى جذب الطبيب والمهندس والناشط والصحافي ورجل الأعمال .. إلخ. ونال بذلك إعجاباً مؤقتاً اتسم بالترقب والحذر.

مفهوم المجتمع المدني واسع ومختلَفٌ على تحديده بشكل دقيق في بعض المدارس الفكرية، إلا أنّ التجربة أفضت إلى تحديده بسلطةٍ رمزيةٍ لا سلطة لها تنهمك في العمل المدني لأهداف أعمّ وأشمل من الأيديولوجيات المحصورة بتيار سياسي أو عقائدي محدّد. وإن استبعدنا الأحزاب من تعريف هذا المفهوم، وهو ما يرد في بعض الأدبيات الموثقة، فنحن إذاً، نبتعد نسبياً ومجازياً عن السياسة، على الرغم من اليقين بوجود السياسة في كلّ مفاصل الحياة العامة، وحتى الخاصة أحياناً.

تعتبر الجمهورية الفرنسية، منذ أقرّت قانون 1901 لتنظيم العمل المدني، من أهم الدول أوروبياً وكونياً، إن لم تكن أهمها بالإطلاق، التي تضم في جنباتها العدد الأكبر من منظمات المجتمع المدني العاملة والناشطة في كلّ المجالات والحقول، من الإنساني إلى الحيواني إلى الطبي إلى البيئي إلى الحقوقي إلى آخره. وبالتالي، أضحى المجتمع المدني الفرنسي يُعتبر ركناً رئيسياً من أركان الأمة الفرنسية بكلّ جدارة وامتياز. ويُعترف له بأنّه قد ساهم في مفاصل تاريخية كثيرة، في إنقاذ الجمهورية من الانحراف في الممارسة، ومن الفساد في الإدارة، ومن الظلم في الأحكام، ومن التوتر في المجتمع. وصار المثال الفرنسي قدوة في تشكيل المنظمات والجمعيات في أربعة أصقاع المعمورة. كذلك، صار قانون 1901 مرجعاً أساسياً في إظهار مسار انطلاق العمل المدني القائم على أسس صحيحة وقواعد شفافة.

من خلال هذه التجربة الرائدة والثرية، اغتبط بعضهم لإشراك ممثلين عن المجتمع المدني لا باع لهم بالسياسة إلا اهتمامات جانبية أو اجتماعات انتخابية أو متابعات قرائية أو مناقشات عائلية، في تشكيل الحكومة الفرنسية الأولى في عهد ماكرون. وعلى الرغم من أنّ مفاتيح العقد والحلّ ظلّت في يد “جوبيتير فرنسا” وهو اللقب الذي يعني ما يعنيه، وكان معارضو ماكرون يلحقونه به، ثم صار معتمداً حتى من مؤيديه، فإنّ الشكل الحكومي والتنفيذي صار مختلفاً، إذ ارتفعت نسبة التمثيل الشبابي والنسائي بشكل ملحوظ، وصار الولوج إلى قصر الاليزيه لا يتطلب ارتداء الأثواب الرسمية والياقات البيض، بل صار في وسع بعض الوزراء الحضور بلباس المدينة المريح، وحتى بأحذية رياضية.

للوهلة الأولى، حاز هذا المشهد الجديد في المسرح السياسي الفرنسي على إعجاب الرأي العام وتقديره، كما بعض المراقبين والمحللين الذين كانوا قد شعروا بالملل المطعّم بالخيبة من إعادة إنتاج النظام المؤسساتي الفرنسي نفسه عبر نخبة ذات لون وطعم موحد، وإن جاءت حيناً من اليمين، وأحياناً من اليسار. وامتد هذا الإعجاب إلى أبعد من حدود الجمهورية، فصار يتغنّى به أبناء الدول الأخرى، خصوصاً تلكم التي تتعرّف رويداً رويداً على براعم العمل المدني بعد خروجها من عقود الشمولية أو الاستبداد. وانهمك الباحثون في خطّ الأوراق التي تشيد بإشراك المجتمع المدني الحقيقي في عملية تنفيذ السياسات.

بدت التجربة واعدة، وترقب الجميع نجاحها أو تمنّوه، فكان ضحية التجربة الأول هو نيكولا هولو، الآتي من أهم الجمعيات البيئية، والذي تسلّم وزارة البيئة، وهي من أهم الوزارات في التراتبية الفرنسية. وبعدما أجزل في الوعود وفي الطموحات المبنية على ثقة عمياء بالتكليف الماكروني، وبهامش الحركة الذي وعد بأن يكون واسعاً، فسرعان ما تبيّن له أنّه أُحْضِر ليكون وثيقة تبرئةٍ لكلّ الإجراءات المعادية للبيئة، أو غير الحامية لها على الأقل، والتي سيتم تبنّيها بناء على أهمية التعاون مع التجمعات الصناعية الهامة واللوبي النووي، وكلّها حقول تنتهك البيئة من ألفها إلى يائها، استقال الوزير سريعاً، ليعود إلى عمله المدني. ودّع الناس باكياً على مدخل وزارته، ناصحاً من يشبهه بعدم الانسياق إلى الوقوع في الفخ نفسه، المُرصّع بالوعود.

مع بدء الكارثة الوبائية، توضّحت الصورة بفجاجة أكبر، فظهر عجز كثيرين من أعضاء المجتمع المدني المستوزرين عن فهم آليات العمل السياسي ومماحكاته. كذلك، فشل آخرون في فهم المسارات الإدارية المُعقدة عموماً، فسارعت وزيرة الصحة، أنييس بوزان، إلى الاستقالة، وهي الطبيبة المرموقة، بحجّة الترشّح للانتخابات البلدية، وهي الواثقة من فشلها فيها.

قلّة من استقال مبتعداً عن هذا المسار، والأكثرية قبلت بالرضوخ لتعليمات “جوبيتير” (ماكرون)، وصاروا بذلك أدوات تنفيذ، وليسوا أصحاب سياسات وإرادات. وصار من الواضح أنّ تجربة إقحام ممثلين عن المجتمع المدني في السلطة التنفيذية ليست بالأمر المحمود، لأنّهم أكثر فاعلية في التفكير وفي الإدلاء، وفي المصداقية، عندما يكونون خارجها. فهل يرعوي الآخرون؟

*العربي الجديد