لم يكن قد مضى وقت طويل على انطلاق الثورة السورية، وفي مرحلة اتسمت بغلبة لغة العنف التي بدأت في استخدامها آلة النظام السياسي القائم على المشهد العام، دُعيتُ إلى مشاركة مجموعة من المهتمين بتحليلات واستنتاجات وتصورات موضوعية حول الملف السوري، والذي كان يُقدّم غالباً وكأنه الملف الأكثر تعقيداً وتشابكاً من مختلف ملفات التغيير السياسي في المشهد العربي. وبعد أن أنهيت محاضرتي هذه مستعرضاً التاريخ الحديث للقطر السوري مع التوقف أمام أبرز محطاته التي يمكن من خلال التعرف عليها فهم مآلات الهمّ السوري، قام مستضيفي بفتح باب النقاش مع القاعة، التي غلب على الحضور فيها المكوّن الفرنسي، داعياً إلى طرح الأسئلة أو التعليقات. وكان الحوار مع الحضور ثرياً حيناً وصعباً في حين آخر، ولكنني شعرت عموماً من خلاله بتمكّن المتابعين من الإمساك بمفاتيح أساسية لفهم القضية السورية دون الإلمام بالتفاصيل حتماً التي نتبارى نحن السوريين بسردها كما هي أحياناً، أو أننا نتوسّع في رحابها تصوّراً وكلاماً، متخيلين كثيراً منها ـ أو مخترعين له من بنات أفكارنا ـ ظنّاً منّا بأن المبالغة هذه يمكن أن تعزّز من موقفنا المشروع لنُسجّل نقاطاً إضافية في معركة كسب الرأي العام العالمي لصالح قضيتنا، قضية الحرية والعدالة والكرامة.
أحد الحضور طرح مسألة حساسة جداً ـ بتقديري على الأقل ـ يمكن أن يؤدي الانحراف التعبيري في الإجابة عليها إلى ما لا تحمد عقباه من الاستنتاجات الفكرية والإسقاطات السياسية. كما يمكن أن يقع المُجيب عن مثل هذه الطروحات في فخ التمويه المكروه أو التشويه المنبوذ لقضية حق إن لم يلتزم بالصراحة التي تكون قاسية القول في بعض الأحيان، إلا أنها ستعطي السردية الثورية مصداقية لدى المتلقي بكل تأكيد، والذي سيتعامل بالتالي معها بكل انفتاح يصل حد التبني. وكان هذا الطرح يتعلق بمخاوف الأقليات المذهبية والدينية المشروعة أمام صعود التيارات المتطرفة في المشهد السوري وخصوصاً أمام تراجع القوى السياسية إما بسبب ضعفها أو بميل بعضها إلى النفاق أمام المدّ المهيمن الذي تبنى لبوس الدين. وقبل أن أهمّ بالإجابة عن هذا التخوّف الصريح والذي تبين لي بأن سائله ديمقراطي التوجه ومعارض قديم للاستبداد مما أدى إلى هجرته إلى بلاد الغال منذ عدة عقود، انبرت له سيدة ثورية الخطاب وتنتسب إلى أحد المذاهب التي أشار السائل إلى قلقها. فانهالت عليه بأشد العبارات التي جاورت الشتيمة واستهزأت بمخاوفه النابعة ـ حسب تعبيرها ـ من ثقافته المستندة إلى الخوف المستدام من التغيير نحو الأفضل داعية إياه إلى البقاء في خوفه وترك الثورة في حالها (…). ولتزيده من الشعر بيتاً، فقد أوضحت له انتماءها المذهبي بحثاً عن إشعاره بالحرج وبالتمايز.
بعد الخروج من القاعة، التفتّ إليها لمعاتبتها على التصرف بهذه الشدة مع شخص له مخاوف منطقية موضّحا بأنني كنت سأجيبه عليها دون الاستخفاف بمشاعره، فالتفتت لي مؤكدة على مشروعية مخاوفه التي تتقاسم جُلّها ولكن، وهنا الطامة الكبرى، لا يجب عليه أن يطرحها أمام جمهور فرنسي فهي تخصّ البيت السوري الداخلي. وبالتالي، وحسب منطقها، علينا أن نقدم صورة مزركشة لثورتنا مهما جانبنا الصواب.
لقد “ابتليت” ثورتنا بنماذج عديدة ومتكررة من هذا السعي إلى عدم “نشر الغسيل غير النظيف” أمام الرأي العام وإخفاء العيوب أو إقصاء الانتقادات. فقد صرخ أحدهم، وفي البدايات أيضا، بباحث مرموق عمل جل حياته من أجل قضية الحرية والعدالة في لقاء أكاديمي أقامته جامعة السوربون لمجرد أن الباحث عبر عن عدم اتفاقه مع الميل إلى العمل المسلح في المطلق على الرغم من شرحه الهادئ والمنطقي لخصوصية الحالة السورية وتأجيج العنف من قبل النظام والذي ولّد عنفاً مضاداً لم يكن من اللجوء إليه من مناص. لقد رمى “الثورجي” الصارخ بتاريخ هذا الباحث / المناضل على الأرض متهماً إياه بالسعي إلى كسب تعاطف الغرب بالنأي بنفسه عن العمل العسكري. بالمقابل، فقد نفى في مداخلته وجود أي عمل مسلح يذكر على الرغم من وضوح الصورة في مختلف وسائل الإعلام، متبنياً قاعدة تقول “وإن كان السرد دقيقاً، فلا حاجة إليه في هذا الظرف”. ومن أمثال هذا الصارخ الكثيرون ممن اعتدوا لفظياً ـ وحتى جسدياً ـ على من خالفهم في الرأي عموماً، وخصوصاً على من انتقد مفاصل أساسية في مسار الثورة والتي أطاحت ـ أو كادت ـ بمسار الحرية التي خرج من أجلها سوريون وسوريات في يومٍ من الأيام.
لقد حملت لنا الذاكرة خطاباً خشبياً ابتدعته أبواق الأحزاب العقائدية المنتفعة والتي حكمت بلادنا مؤدية بها إلى عجز سياسي مستدام. لقد تمحور هذا الخطاب في جانبه على ضرورة أن “لا يعلو صوت فوق صوت المعركة” أو ضرورة غض الطرف عن موبقات الأداء لصالح القضية الأكبر. وها هو البعض، الساعي إلى الحرية والكرامة، يرتكب الإثم ذاته بالدعوة إلى “تأجيل بوح اليوم إلى الغد”.
*تلفزيون سوريا