سلام الكواكبي: الواقعية السياسية عدو للديمقراطية

0

نبّه باحثون غربيون كثر في حقل العلوم الاجتماعية، وفي كتابات رصينة، إلى خطر استمرار السكوت عن انتهاكات أنظمة تسلطية، تُعتبر قياداتها مُقرّبة من الغرب، بحق شعوبها. وقد أفادت دراسات بأن الوقوف الى جانب الديكتاتوريات وتبرير انتهاكاتها سينعكس سلباً على صورة الغرب، التي حاولت دوله، وبعد انتهاء الحقبة الاستعمارية، جعله رمزاً للحريات وترويجها. كما أوضحت هذه الدراسات، بأسلوب شبه مدرسي، أن الاعتقاد بأن استمرار التسلطية في الدول العربية سيحافظ على الاستقرار، ويحد من الهجرة، ويُضعف من شبكات الإرهاب، ما هو إلا وهم، ستؤدي السياسات المتبعة إلى جعل عكسه هو الحقيقة القريبة، أي أن الاستمرار في القمع والتسلطية سيؤدّي الى زيادة حدّة التطرّف وارتفاع معدلات الهجرة وانعدام الاستقرار.

وفي بدايات الاحتجاجات الشعبية في الشوارع العربية ضد الديكتاتوريات المهيمنة سنة 2010، خال المراقب العربي المتيقظ أن الغرب، وخصوصاً قياداته السياسية والأمنية، قد نهل من هذه الدراسات، وتعلم الدرس لينتقل، بهدوء ولكن بثقة، إلى صفوف الشعوب العربية، ويميل إلى دعم المطالبات العادلة التي عبّرت عنها الجموع في تظاهراتها المقموعة بالنار. وعلى الرغم من نسبة تردّد مرتفعة قليلاً لدى بعضهم، إلا أن الدعم الغربي، نظرياً في أقل تقدير، للمطالبات بالحرية وبالكرامة في دول الجنوب، كان واضحاً في تصريحات عديدة، وفي بعض المواقف العملية أيضاً.

لم تطل مدة هذا الموقف العادل، الذي من المؤكّد أنه لم يكن ينبثق عن قناعة استراتيجية بقدر ما كان جزءاً من محاولة اقتناع مؤقتة للتمشّي مع التيار المهيمن حينذاك، فقد أسرعت الحكومات الغربية، وبدعم منقطع النظير من قوى راديكالية دينية محلية، اعتقدت أنها تقف أمام الفرصة السانحة للانقضاض على حكمٍ لطالما حلمت به، إلى التراجع البيّن عن موقفها الأخلاقي، والرجوع بالتالي إلى مدرسة “الواقعية السياسية” التي تُملي على “العقلاء” الوقوف الى جانب ما تحلو تسميته “المستبد المتنوّر”.

لقد استطاعت القوى التسلطية العربية المعادية للتغيير أن تغيّر الموقف الغربي الداعم والمؤيد للتحولات الديمقراطية، ونقلته إلى تبنّي موقفٍ معاكس تماماً. وفي أحسن الأحوال، جرى التحوّل الغربي إلى موقف الصمت عن الانتهاكات، والاستمرار في التعاون العسكري والاقتصادي والأمني مع أعتى الديكتاتوريات في المنطقة، أو تلك التي انقلبت على نتائج الثورات العربية في بداياتها التونسية والمصرية والليبية. ولم تُزعج أعداد القتلى والمعتقلين التي وثّقتها لجان حقوقية مهنية ومحايدة أياً من هذه الدول، بل هي رسّخت قناعات نخبها المعتمدة أن هذا الشرق لا يستحقّ الحرية، وبأن ثقافته الدينية والمجتمعية تتناقض مع مبادئ الديمقراطية.

في لقاء جمعني، أخيرا، بصديقي من مصر، فُجعت بمستوى الخوف المهيمن على المجتمع المصري، كما وصفه لي، وذلك منذ انقلاب 2013. وجرى استعراض ما يحصل من اعتقالات سياسية وأحكام قضائية غير عادلة، ومن معاملات غير إنسانية في السجون. في الوقت ذاته، يتمتّع الحكم بدعم غير محدود من ديمقراطيات الغرب. وإثر شراء مصر أسلحة إيطالية، طوت الحكومة الإيطالية ملف الباحث الشاب المقتول أمنياً في القاهرة جوليو ريجيني. لكن السؤال المطروح: هل المصالح الاقتصادية والأمنية وحدها من يُملي على الدول الغربية سياساتها المتهاونة والشريكة مع مستبدي الجنوب؟

الجواب لن يُختصر في هذه العجالة، لأنه يستحق دراسات أكاديمية موسّعة، إلا أن من المفترض أن يتمكن المهتم من إيجاد مختصر لهذا الجواب في مساحته المحدودة، فالموقف هذا ليس نابعاً من حسابات تعتمد قاعدة المصلحة المتبادلة، ولا حتى نابعاً من مدرسة الواقعية السياسية التي ما فتئ سياسيون غربيون يستعيدونها لتبرير تخاذلهم وذبذبة مواقفهم. ما سبق هو جزء من الجواب، ولكن ما يغيب دائماً عن السرديات الناقدة المواقف الغربية المتخاذلة ربط هذه المواقف بتراكمات تاريخية وفكرية أفضت إلى استنتاجات من هذا النوع.

غداة خروج المستعمر العثماني من الدول العربية، تنبّهت النخب السياسية إلى ضرورة بناء دولة وطنية حديثة بكل المعايير. وكانت الحوارات التي جمعت أطرافاً عدة، ليبرالية وإسلامية ويسارية، تعد بنتائج إيجابية ستكون مدماكاً لمستقبل سياسي منفتح. لكن الغرب قرّر عكس ذلك، معتبراً أن الدول الخارجة حديثاً عن تسلطية الإمبراطورية غير قادرة على صياغة عقد اجتماعي، ولا على توافقات سياسية، وبالتالي، يتوجب انتداب قوى غربية محددة لإدارتها. إنها العقلية نفسها التي ما زالت تُهيمن على مصانع القرار الغربي. في المقابل، جرى التخلي عن فكرة انتداب الذات للسيطرة على الآخر، باللجوء إلى انتداب الاستبداديين المحليين للهيمنة على حيوات مواطنيهم.

يعرف الغربيون القراءة والتحليل، ولديهم، كما ذكرت بدايةً، أدبيات واسعة في التحليل السياسي، تُشير إلى خطأ بنيوي في الطريق المتبعة لدعم الديكتاتوريات، أملاً في تحقيق ثلاثية الاستقرار ودرء الهجرة ومكافحة الإرهاب. إلا أن هذا الرهان خاسرٌ وكارثي، فالهجرة التي نجمت وتنجم عن استبداد السلطات العربية تتفاقم. ولجوء فاقدي الأمل بالتغيير الحقيقي وفاقدي موارد الحياة والنماء إلى الإرهاب يصبح مفهوماً وليس مقبولاً. وأخيراً وليس آخراً، الاستقرار الموعود سيكون سراباً يتحول إلى عواصف حقيقية في دول الشمال، لكي تدفع ثمن محاباة الديكتاتوريات.

*العربي الجديد