سلام الكواكبي: الاحتجاجات في فرنسا لم تكن بحاجة إلّا إلى شرارة توقظ الغضب

0

حوار : سفيان البالي

لم تفلح دعوات التهدئة التي نادت بها جدة الضحية نائل أو نجم كرة القدم الفرنسي كيليان مبابي، في إخماد الصدامات الاحتجاجية العنيفة التي قادها أبناء الضواحي الفرنسية -في معظمهم من أصول مهاجرة- تعبيرًا عن غضبهم من حادث مقتل المراهق نائل المرزوقي برصاص الشرطة الفرنسية. 

هذه ليست المرة الأولى التي تعيش فيها فرنسا مثل هذه الأحداث، و”لن تكون الأخيرة” حسب ما ترى التقديرات، مرجحين أن التهميش الاقتصادي والاجتماعي والعزلة السياسية التي يعيشها أبناء الضواحي تجعل من تلك الأحياء براميل بارود معدة لانفجارات مماثلة، في وقت تُقِرّ فيه السلطات الفرنسية بوجود نحو 1500 ضاحية وحيّ هامشي (Banlieue) يسكنها نحو 4.8 مليون نسمة، أي نحو 7% من سكان البلاد.

وإذا أمكننا إلقاء نظرة سريعة على الواقع المعيشي لهذه الأحياء، سنشير إلى ارتفاع منسوب الفقر الذي قد يبلغ عتبة 44 أو 45% في مدن مثل سان دوني وأوبيرفيليي، أي بثلاث مرات أعلى من المعدل الوطني للفقر. كما أن نحو 76% من سكان هذه الضواحي يعيشون في مساكن اجتماعية، ويعاني شبابها -الذين يمثلون 36% من السكان- من ارتفاع معدلات البطالة التي قد تصل إلى 30%، وفق أرقام رسمية، بالإضافة إلى الصعوبات في الولوج إلى التعليم الجيد والخدمات الصحية الكافية. 

وتكشف قضية مقتل الفتى نائل، عن جوانب شائكة في هذه الحالة، تدور حول مسؤولية الحكومة الفرنسية عن الأوضاع الجارية، وإمكانية انتظام أبناء الضواحي سياسيًا للدفاع عن حقوقهم، وهل ما يزال “الاندماج” جوابًا مطروحًا على الأزمة العميقة في فرنسا. وللحديث حول هذه القضية القديمة والراهنة في فرنسا نستضيف في “ألترا صوت” الأكاديمي السوري ومدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس سلام الكواكبي.

  • كيف تقرؤون الاحتجاجات الأخيرة في ظل السياق السياسي والاقتصادي الفرنسي الحالي؟ 

في ظل وضع دولي متأزم نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا، وأزمة مناخية متفجرة، تعيش فرنسا فترة اقتصادية حرجة تتمثل في تضخم لم تشهده أسواقها منذ عقود، مما ينعكس سلبًا على مستوى المعيشة، وخصوصًا بالنسبة للطبقات المتوسطة والفقيرة. أضف إلى ذلك فشل السياسات العامة في استنباط وسائل ناجحة لإدارة مسائل تتعلق بسوق العمل وبالهجرة وبالعقيدة الأمنية، مع تهميش وإقصاء بنيويان للمناطق الفقيرة التي يغلب على سكانها الانتماء لأصول مهاجرة. وأخيرًا وليس آخرًا، صعود متسارع للتطرف اليميني، والذي يجد أرضًا خصبةً في مخاوف الطبقات الشعبية غير الواعية والبعيدة عن التعليم المتقدم والثقافة المنفتحة. يقابله تطرفٌ يساري شعبوي يكاد يدعو إلى ثورة بلشفية جديدة، وأخيرًا، تطرف ديني لدى بعض المسلمين الذين استغلهم أصحاب الأجندات السياسية الخارجة عن المواطنة الحقيقية، لاستقطابهم واستغلالهم من خلال استغلال مصائبهم الاجتماعية والاقتصادية.

  • كيف يمكننا أن نفهم ما يجري اليوم في ضوء التركيبة الاجتماعية لسكان فرنسا؟

فرنسا القيم الكونية وفرنسا حقوق الإنسان تشهد تراجعًا واضحًا عن معاييرها التأسيسية، من خلال سيطرة الخطاب الشعبوي من جهة السياسة، يمينًا ويسارًا، والانغلاق العرقي والديني من جهة المجتمع بمختلف أطيافه. إهمال مواجهة المشاكل الهيكلية في السياسات العامة لعقود طويلة أدى إلى انقسامات مجتمعية، تجاوزت العامل الاقتصادي لتخاطب أيضًا العامل الانتمائي؛ جغرافيًا ودينيًا وعرقيًا. وتفضيل جزء كبير من أصحاب القرار للمعالجة الأمنية والإجرائية والقانونية لمسائل الهجرة والاندماج، بعيدًا عن الحوار المجتمعي والإدماج عبر سوق العمل والثقافة والسياسات العامة، أدى ذلك كله إلى بروز شعور عميق بانعدام الانتماء لدى شريحة واسعة من الجيل الشاب من الأصول المهاجرة. من خرج في الضواحي هم في أغلبهم فرنسيون ذو أصول مهاجرة من جيل أو جيلين، ورغم ذلك، لم يشعروا البتة بانتمائهم ولم يشعروا البتة بالاعتراف بهم كمتساوين في الحقوق وفي الواجبات تجاه المجتمع. ربما هذا شعور مبالغ به، ولكنه موجود ويجدر معالجته وليس الهروب من مواجهته بحلول وقتية تعتمد سياسة رد الفعل فقط.

  • هل تتحمل سياسات الحكومات الفرنسية المتعاقبة مسؤولية ما انتهت إليه الأوضاع؟  

بالتأكيد فهي تتحمل الجزء الأكبر، ليس حجمًا بل بقدر ما هو وجود القرار في أيدي أصحابه من السياسيين وقادة المجتمع. لا فرق بين يمين ويسار في ذلك. سياسات التهميش وضعف الخدمات العامة وضعف مستوى التعليم وافتقاد الفرص في التشغيل وما إلى ذلك من عوائق سلبية، أثرت عميقًا في الأوضاع، وكان من المتوقع أن تنفجر يومًا ولم تكن بحاجة إلّا إلى شرارة توقظ الغضب النائم والشعور بالإقصاء لدى شريحة واسعة. لكن الطرف الآخر يتحمل جزءًا كبيرًا أيضا من المسؤولية، نتيجة الإقصاء الذاتي والتأثيرات المختلفة خارجيًا وتكوينيًا والتي لها علاقة بالممارسة السياسية وبالانتماء الديني.

  • بالمقابل، خلال جميع الحركات الاجتماعية التي شهدتها فرنسا في السنوات الأخيرة،كما في الاستحقاقات الانتخابية والمحطات السياسية، نلاحظ مشاركة خافتة لأبناء الضواحي والجاليات المهاجرة.  كيف يمكننا تفسير هذا العزوف عن المشاركة؟

بدأت في ردي السابق الإجابة جزئيًا على هذا السؤال، فعزوف أهل الضواحي الذين يمتّعهم القانون الفرنسي، نظريًا على الأقل، بكافة حقوق العمل المجتمعي والسياسي عن المشاركة في أي نشاط إلا لمامًا، يؤثر سلبًا على قدرتهم لتوصيل مطالبهم وممارسة أي نوع من الضغط على أصحاب القرار. من يبلغ منهم مناصب متقدمة يكون بداية قد أبدى “حسن النية” تجاه السياسات المتبعة، ومارس المزايدة على الإقصائيين، وصار ملكيًا أكثر من الملك، ومتنصلًا من مطالب مجتمعه، وبالتالي فهو لا يخدمهم البتة، بل هو يزيد من مشاكلهم بتوفيره الحجج الملائمة لأصحاب القرار عندما يتم انتقادهم من قبل الطبقة المثقفة. 

ويمكن تفسير العزوف بتوارث مواقف سلبية من العمل العام متأتٍ من ثقافة سياسية أورثها إليهم آباءهم الحذرين من السياسة في بلادهم الأصلية، حيث كانت وما زالت الأنظمة مستبدة. كما تلعب الحكومات الأجنبية التي ينتمي إليها المهاجرون الأوائل دورًا سلبيًا في التأثير على جالياتها، وتعزز من فرص تهميشهم والتشكيك في انتمائه إلى الوطن الفرنسي الذي استقبلهم. 

  • هل ما تزال مسألة “الاندماج” جوابًا مطروحًا لتخطي المأزق الاجتماعي الذي تعيشه فرنسا؟ وكيف يمكننا فهم هذا “الاندماج”؟ 

في رأيي، إعادة النظر في السياسات العامة ووضع خطة تطوير للمناطق المهمشة، تتجاوز المادي إلى المعنوي، هي جزء من إنجاح عملية اندماج إيجابية، لا يمكنها أن نعتمد على تطرف من أي نوع؛ ديني كان أم سياسي. وللمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل عبارة مميزة، تدل على وعي ألماني، أكثر تقدمًا من نظيره الفرنسي، إذ صرحت في قمة ميونيخ سنة 2016، إثر وصول أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين إلى بلادها، بأن “الاندماج يتم عبر سوق العمل”. وفي هذا القول بعد اقتصادي أكيد، ولكن أيضًا له جانب اجتماعي وثقافي هام، بحيث أن الاعتراف بقدرات الآخر واحترام إمكانياته يجعلان منه عنصرًا إيجابيًا في المجتمع، ساعيًا دائمًا إلى رفعته وتقدمه. أما إذا كان العكس، فسينغلق هذا الشخص على نفسه، على ضاحيته، على أبناء حيه، على دينه وعلى عرقه، لتبدأ المشاكل والمواجهات.

*الترا صوت