في تشرين الثاني/ نوفمبر 1995، بدأ الاتحاد الأوروبي رؤية جديدة متكاملة، لعلاقته مع جيرانه في جنوب البحر الأبيض المتوسط، من خلال الشراكة الأوروبية المتوسطية، عبر إعلان برشلونة. وكان الغرض من هذا الإعلان السعي إلى جعل منطقة حوض المتوسط منطقة سلام واستقرار، فضلًا عن المساعدة في تحسين الأوضاع الاقتصادية والشراكة الاجتماعية والثقافية.
بعد عشر سنوات، في عام 2005، طلب وزراء خارجية الدول الاعضاء في الشراكة الأورو-متوسطية، من شبكة مراكز أبحاث متوسطية، مراجعة التقدّم الذي تم إحرازه في تنفيذ الإعلان، مع اقتراح وسائل لتحسين الأداء. وقد أصدرت هذه الشبكة تقريرًا بعنوان Barcelona Plus (برشلونة +) “نحو مجتمع أوروبي متوسطي من الدول الديمقراطية”، تضمّن سلسلة من المقترحات، حول كيفية تحسين السياسة لتعزيز الشراكة، مع احترام معايير دولة القانون واحترام حقوق الإنسان. وخلال السنوات الخمس عشرة الماضية، شهدت الدول الأعضاء في الشراكة الأورو-متوسطية أحداثًا دراماتيكية أدّت إلى تغييرات عميقة، بل إلى تهميش مفاهيم اتفاقية الشركة، وصار إعلان برشلونة جزءًا من التاريخ. ويبدو اليوم أن الوقت قد حان لمراجعة الشراكة الأورو-متوسطية، من أجل إحيائها وجعلها ملائمة لمستقبل جميع الشركاء.
حدّد إعلان برشلونة ثلاثة مبادئ، هي السلام والاستقرار والازدهار. واليوم، يجب أن تجري عملية الإحياء بالاعتماد أيضًا على أولوية مسألة احترام حقوق الإنسان والقيم، في إدارة سلوك الدول المعنية بالاتفاقية، ورفض سياسة القوة في العلاقات فيما بينها، وإنشاء منطقة اقتصادية مشتركة بينها. وكل ما سبق يعتمد أساسًا على دور المجتمع المدني، في صميم التكامل الإقليمي والتعاون والإصلاح. ومن الضروري أن تُؤخذ بالحسبان حقوقُ الشعوب التي تخضع للاحتلال، من دون مواربات اقتصادية أو دبلوماسية، كتلك التي اعتمدها “الاتحاد من أجل المتوسط”، وقد أجهض ذلك روحية الشراكة، نسبيًا؛ إذ إن اتفاقية برشلونة اعتمدت أساسًا على دعم نشوء وتطور المجتمعات المدنية في دول الجنوب. لكن مع قيام الاتحاد من أجل المتوسط عام 2008 الذي يعتمد أساسًا على الحكومات، تم تهميش هذا الاندفاع والقضاء عليه تقريبًا. لقد تمت التضحية بالمجتمع المدني بشكل متزايد، من أجل الأمن والاستقرار ومواجهة الهجرة والتطرف. وفي أعقاب الربيع العربي في عام 2011، أدى الدعم المقدم للدول الاستبدادية، لتحقيق ما سبق، إلى تهميش متزايد للمجتمع المدني.
وبعد عقد من انطلاقة الربيع العربي، يبدو أن الرأي العام في المنطقة العربية على خلاف مع الأولويات والاهتمامات الأوروبية المستجدة. فقد أشار المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات في الدوحة، في مؤشره السنوي للرأي العام العربي 2019-2020، إلى أن 76 في المئة من المشاركين يرون أن الديمقراطية هي الشكل الأنسب للحكم في بلدانهم، وأن 58 في المئة ينظرون بإيجابية إلى أهداف الربيع العربي؛ فالرأي العام في جنوب البحر الأبيض المتوسط يبتعد أكثر عن الأولويات الأوروبية الحالية، ويظل قريبًا من التطلعات الأصلية لعملية برشلونة.
تهيمن مسألة مواجهة موجات الهجرة القادمة من دول الجنوب على أولويات دول الاتحاد الأوروبي، ويدفعها ذلك إلى اعتماد سياسات ذات تكلفة بشرية باهظة، للحد من هذه الهجرة. وقد دفعها هذا السعي إلى تعزيز التعاون مع بعض دول الجنوب، بمعزل عن المبادئ التي وردت في أدبيات الاتحاد والمتعلقة بحقوق الإنسان والديمقراطية. وانعكس هذا التوجه على العلاقات الاقتصادية، حيث انخفض الاهتمام بتصحيح الاختلالات الاقتصادية المزمنة في دول الجنوب، بالتزامن مع تمكّن الرؤية الليبرالية الجديدة لتعريف متطلبات الازدهار الاقتصادي.
الرؤية البديلة تستند إلى أن العالم الذي تمت فيه صياغة وإعادة تشكيل عملية برشلونة في الماضي قد تغيّر تغيرًا كبيرًا خلال العقد الماضي. وبصرف النظر عن التهديد المعمم لوباء COVID-19 لجميع الدول الملتزمة بعملية برشلونة، فقد أدى القلق الأوروبي من التطرف والهجرة إلى تهميش التزام الاتحاد بإعطاء الأولوية للقيم الديمقراطية والحكم الرشيد في دول الجنوب. وقد أسهمت الاتجاهات الصاعدة والمناهضة للديمقراطية، في عدد من دول الاتحاد الأوروبي، مع تحدي بعض القادة الشعبويين لمبادئ الاتحاد حول سيادة القانون، إلى تآكل صدقيته بين الدول غير الأعضاء في الاتحاد. لقد تبخرت الآفاق الحالية لعضوية تركيا في الاتحاد، التي كان يُنظر إليها ذات مرة على أنها عامل مهم في جاذبيتها لدول الجنوب، بينما تواجه تركيا نفسها الآن أزمات ديمقراطية. وأدى تزايد اللامبالاة الأميركية، تجاه تعزيز سيادة القانون داخل المجتمع العالمي، إلى فتح الطريق أمام رعاة بدلاء مثل روسيا والصين. المنافسون الإقليميون، مثل دول الخليج بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، يتحدّون الآن إيران وداعميها، وكذلك تركيا، من أجل الهيمنة الجيوسياسية والطائفية المحلية.
في ظل هذا الواقع، حان الوقت لإيقاظ مسار برشلونة من غيبوبته. ومن أجل هذا الهدف، من الضروري التخطيطُ على المدى الطويل اعتمادًا على أهداف محددة، للوصول في نهاية المسار إلى إنشاء مجتمع أوروبي متوسطي من الدول الديمقراطية. حيث يشارك جميع أعضائه على أساس المساواة في السيادة. والاستعاضة عن الأوروبية الحالية بشأن الهجرة، على سبيل المثال، بمفاهيم تعاونية مثل رؤية جاك دريدا لـ “الضيافة”، بدلًا من ذلك. وعندئذ يصبح حل قضية المهاجرين مسؤولية جماعية. وكمجتمع ديمقراطي، سيكون للمجتمع المدني الدور الأساس في تطوير الثقافة السياسية الديمقراطية التي تعترف بالخلاف وبالاختلاف. والأولوية التي يجب إعطاؤها للمجتمع المدني تعتمد على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون بين أفراد المجتمع، والتي لا يمكن مقايضتها -بأي حال- بالأمن أو بالاستقرار السياسي. ولن يقتصر هذا الاحترام على الحقوق الفردية والثقافية، بل سيشمل أيضًا الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. وهذا يتطلب إعادة تصور كاملة للأجندة الاقتصادية للمجتمع الجديد، حيث فشلت سياسة التنمية الاقتصادية النيوليبرالية التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي، في حل المشكلات الاقتصادية البنيوية التي تواجه منطقة جنوب البحر الأبيض المتوسط.
إن عملية إحياء مسار برشلونة، بالاستناد إلى التغيرات الحاصلة والمتطلبات المستجدة وضرورة تعزيز التحول الديمقراطي ودور المجتمعات المدنية في دول الجنوب، لن تكون عملية سهلة. ولكن هذا لا يجب أن يمنع من خوض التجربة، والتشبث بالحلم الذي راود من صاغ إعلان برشلونة.
*مركز حرمون للدراسات