سألتني ذات يوم باريسي جميل عما أنوي أن أفعل في إجازتي الصيفية، فغاب عني الجواب المحدد، ربما سأقرأ وربما سأحاول أن أكتب ما يفيد علمياً القادرين يوماً على تغيير جزء مما سعينا ونسعى الي تغييره بهدف تحسين حيوات السوريين خصوصاً والإنسان عموماً. قاطعتني بابتسامتها شبه الدائمة، فارضة مخططاً مشتركاً للإجابة صوَّتُّ له وانتميت اليه وفرحت به دونما أي نقاش ولا تردد: “سنذهب الى مخيم الزعتري ونسخّر جلّ إجازتنا لتقديم المحاضرات الجامعية للشابات وللشباب هناك”. وهكذا كان، ورافقنا من تطوع بإجازته من الأساتذة السوريين والفرنسيين.
كانت بسمة قضماني تعمل بصمتٍ ومن دون ادعاء أو استعراض، ليس فقط من خلال انخراطها في الثورة السلمية منذ ساعاتها الأولى، وإنما في كل نشاطها العلمي/العملي والسياسي والإنساني الممتد لأكثر من 40 عاماً. يجهلها كثيرون وهي لم تكن تسعى لكي يتعرّفوا عليها، بل عملت لكي تُعلّم وتتعلَّم، تتقاسم معارفها وعلمها وخبرتها مع من يطلب زاداً فكرياً. يهاجمها أصحاب المصالح الضيّقة أو المصابون برهاب النجاح والتميّز، أو ناقصو الضمائر، فتلتفت عنهم مُحافظة على ابتسامتها ومنهمكةً في عملها الذي من أجله خسرت الغالي والثمين من المال والصحة والأعصاب، وربحت الرضى الذاتي والفرح المعتمر بحب الوطن وأهله على تنوّعهم.
بعدما نهلت علمها الرصين وبدأت بالتدريس بامتياز، سرعان ما انتبهت بسمة الى البَين الواسع، خصوصاً عربياً، بين الكتاب والنظرية من جهة، وبين الفعل والتطبيق من جهة أخرى، فقررت الخوض في حقلٍ جديد عربياً يجمع المعارف باستخداماتها أو بتطبيقاتها. ووسّعت بالتالي مروحة اهتماماتها وانشغالاتها الأولى، والتي كانت قضية فلسطين وأهلها أساسها، لتضمّ لها قضايا العرب ومَن في حكمهم جميعهم. فقضية الشعب الفلسطيني المستباحة حقوقه وأرضه، لا تنحصر لدى بسمة في النضال ضد الاستعمار الاستيطاني العنصري، بل وأيضاً، في السعي للترويج للديموقراطية وترسيخها عربياً لتعزيز مصداقية العمل الحقيقي من أجل قضية عادلة. ومن هذا المنطلق، أسّست، وبالتعاون مع نخبة من مثقفين ومفكرين عرب وأجانب مؤمنين بالتحوّل الديموقراطي، مبادرة للإصلاح العربي. وكان أحد دوافعها هو الرد على دعوات الإصلاح الديموقراطي المفروض من الخارج، كما ادعاءات جورج بوش الابن بعد قيام قواته بغزو العراق العام 2003. وكان إصرار بسمة على أن يكون الإصلاح عربياً، وبأيدٍ وعقول وإرادات عربية، من دون الاستغناء عن الانفتاح والاستفادة من تجارب الآخرين كما في دول أميركا اللاتينية وجنوبي أوروبا وشرقها.
أطلقت بسمة “مبادرة الإصلاح العربي”، حيث عملتُ إلى جانبها من العام 2007 ولغاية العام 2017. وقبل انطلاقة الربيع العربي وتباشيره الموءودة، أنجزت برامج بحثية تطبيقية انعكست فائدة على قيادات الثورات العربية لاحقاً، من أهمها مشروع الحوار النقدي بين قوى المعارضة المختلفة عقائدياً، ومشروع إصلاح القطاع الأمني والعسكري. نجح المشروع الأول بجمع ممثلين عن قوى المعارضة من مختلف التيارات السياسية على طاولة الحوار ومحاولة التوافق على نقاط مشتركة أساسية. كما عرض الثاني بجلاء لواقع الأجهزة الأمنية العربية ومراحل انتقالها من حماية النظام السياسي الى حماية الوطن وأمن المواطن.
ومع انطلاقة الثورة السورية، ركّزت بسمة أكثر على الهمّ السوري، فاختارت أن تبتعد رمزياً عن إدارة “المبادرة”، حفاظاً على طابعها العربي وبعيداً من القُطرية. وعلى الرغم من ذلك، استمر عمل “المبادرة” وأسهم في تعزيز قدرات أعمال الكثير من مُبادري السعي نحو التحول الديموقراطي. وساهمت بسمة، من طريق أبحاث “المبادرة”، في تصوّر دقيق لمسارات الإصلاح السياسي في سوريا ومقوماته التي ستعتمد أساساً على عدالة انتقالية ودستور ديموقراطي وحياة سياسية وإعلامية وثقافية منفتحة على جميع السوريات والسوريين من مختلف المكونات ومن مختلف التوجهات الإيديولوجية. كما ركّزت على البُعد النسوي في المجال العام، عاملةً على تعزيز مقدراته شكلاً، من خلال إنشاء الأجسام التنظيمية، وموضوعاً، من خلال تمكين المشاركة السياسية للمرأة السورية.
زمالة الباحث وصداقة الانسان وتوافق الأهداف ومحاكاة الآمال، كلها لم تمنع من أننا كنا لسنا على وفاق واتفاق دائمَين. فقد اختلفنا في ثلاثة أمور، بشكل مستمر، أولّها تفاؤلها الغالب مقابل تشاؤمي في كل المواضيع التي تُشكّل همّاً عاماً ومشتركاً. وثانيها، كان رفضها لنقدي الدائم لما يُقترف من أخطاء أو هنّات سياسية أعتقد بأنها مسيئة لمسار التحول الديموقراطي. فهي، وإن كانت تتفق معي عموماً في التقدير والتوجّه، إلا أنها كانت ترفض، عن حق، التقوقع في النقد والاكتفاء به. في مقابل ذلك، كانت تدعو لتقديم عمل ملموس يُشكل إما بديلاً عما انتقده أو يوضح اجتهاداً ما يكون أكثر نفعاً من النقد المُشبع بالرضى الذاتي عموماً. وأنا أعترف بأنها كانت على حق، وبأني طوّرت من أدواتي مستلهماً أسلوبها الى حد كبير مع مرور الزمن.
كما أبهرتني، وهذا هو خلافنا الثالث والأخير، بقدرتها الكبيرة على تجاوز الهجوم المجاني والشتائم والتخوين والتكفير الذي كان ينهال عليها من كل حدب وصوب، ممن يُفترض به أن يكون صديقاً قبل مَن هم أعداء حقيقيون، ليس على المستوى الشخصي، فهي لا تُدخل الشخصي في العام، بل على المستوى الأخلاقي والإنساني. وعلى الرغم من أن الظلم، ومن ذوي القربى خصوصاً، كان له وقعٌ مؤلمٌ لدينا معاً، إلا أن تعاملها البارد معه واحتفاظها الدائم بابتسامتها ودعوتها التي لا تكل ولا تمل الى العمل والإنجاز لمواجهة أبواق السوء في النية وفي الطوية، أبهرني. لقد كانت الإساءة والظلم، ومازالا، يؤثران فيّ بشكل تحريضي متفجّر لا أجد طريقة للتخفيف من أثره إلا الصمت والانزواء. وأنا الذي لا يملك سوى صوته وقلمه للتعبير من دون أية نيّات متسخة بوحول العفن الثقافي والرهاب السياسي وثقافة الخوف والتملق والتمجّد والتوكّل.
رحلت عنا بسمة قضماني البارحة، ونعاها كثيرون جداً. وإن أتوجه باللوم الى مَن هاجمها بشدة وسعى للإضرار بها في الحياة ونعاها في الموت، معتبراً نفاقه وقاحة، فهذا لأني أنتظر ابتسامتها العذبة ونظرتها الثاقبة الهادئة وهي تنبهني لضرورة التخفيف من الانتقاد واللوم والانصراف الى تقديم الفعل على ردّ الفعل. أعدَكِ يا صديقتي أني سأفعل.
*المدن