يتحدّث الكثيرون عن دمشق، ياسمينها وعرائشها، ساحاتها وحاراتها القديمة، حدائقها ونهر بردى. يتحدثون عن أُناسها الطيبين والبسطاء والذين بالرغم من تفشّي الظلم والفقر بينهم، كانوا يبتدعون سبل البقاء والتندّر على أحوالهم ومعيشتهم التي آلت إلى طريق مجهول. صلتي بدمشق بدأت منذ الطفولة، من خلال مدرستي الابتدائيّة الحديثة والقريبة من مكان إقامتنا وسط المدينة. بقيت في المدرسة حتى صرت بعمر الثانية عشرة، كانت حياتي تمضي بشكل عفوي وطبيعي مع الأولاد الآخرين. ثم درست بعدها ثلاث سنوات في حارة القنوات القديمة، وفيها تمّ لفت انتباهي للمرّة الأولى بأنّني الفلسطيني الوحيد في المدرسة.
كان الفلسطينيون في سوريا عادةً يدرسون المرحلتين الابتدائيّة والإعداديّة (ومجموعهما تسع سنوات)، في مدارس وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتّحدة، والمتوزعة على أماكن تجمعهم. لم يتبادر إلى ذهني أيّ شعور بالافتراق عن محيطي السوري، بل كان من الطبيعي التماهي مع مجتمع بسيط خالٍ من أيّ مهاترات أو تعقيد، أو هكذا خيّل إلي.
هويّة ممزقة: خارج المجتمعين السوري والفلسطيني
في أوائل الثمانينيات، بدأت دراستي الثانويّة في منطقة الحلبوني، وهناك التقيت ببعض الفلسطينيين الذين تمايزوا عن محيطهم السوري بسبب دراستهم في مدارس وكالة الغوث تلك، وكذلك اتّضحت لي فكرة الوطنيّة الفلسطينيّة المتواجدة حينها بقوّة، والاتجاه لطروحات إثبات الانتماء وأسئلة الهويّة. تبدو مرحلة الثانوية بعمر الستة عشر عامًا لأيّ أحد وكأنهّا بابٌ تنطلق منه بدايات الوعي. وكذلك الخوض في أسئلة تُفتح فيها احتمالات الإجابات على آخرها.
هو ذاك الخليط الذي يبلور الافتراق عن المجتمع الدمشقي، بالرغم من العيش خلاله لبساطته وعفويته. وكأنّ الأمور واضحة ولا تحتاج إلى تفكير، حيث الخيار معدّ مسبقًا لصالح خصوصيّة الهويّة الفلسطينيّة التي من غير المسموح تجاوزها وطنيًا وأخلاقيًّا، وحتى واقعيًّا. لم أعِ أيّ افتراق بيني وبين أصدقائي الدمشقيين قبل هذا، كما أنّني حاولت التوفيق بين الأمرين، لكنه كان من الصعوبة بمكان أنّه تمثّل بهويّة اللاجئ، وبتذكرة الاقامة المؤقتة.
لم يكن التعامل معقّدًا، فالقانون السوري بالنسبة للمعاملات في الدوائر ساوى -تقريبًا- بين السوريين ومن في حكمهم، طبعًا ماعدا التملّك وسقف الترقيّة في السلم الوظيفي والترشح والانتخاب.
واقع الأمر، والاعتراف واجب، أنّني افترقت عن المجتمعين، فلم أكن على تماس مع تجمعات فلسطينيّة بشكل مباشر، إلّا بعد فترة طويلة في مخيم اليرموك بدمشق، وتحديدًا في منتصف التسعينيات. كما لم أكن فاعلًا بالتواصل مع محيطي الجديد لإحساسي خللاً ما، لعلّه ناتج عن عدم معاينته مسبقًا. وربما اختياريًا بعدم الاتجاه للإنزواء عن المجتمع السوري ككلّ.
ذاك الشعور المترافق بعدم الملاءمة ما كان يبارحني، فلم يكن شكل المجتمع معبّراً عن مسألة فلسطينيّة فيها من المزايا التي تجعل أفراده على درجة عالية من الانفتاح على وسطهم السوري، أو حتى غيره. وبصراحة أكثر، لم يكن الانطواء في ذكريات بمعنى الحسرة، مجديًا بالنسبة إليّ، بل كنت أعتقد أنّ المعضلة تكمن في الاقتصار على وعي الحنين الذي سيؤدّي إلى مستقبل مجهول، وفي كافة المجالات.
عالم مخيّم اليرموك
فلسطينيو مخيم اليرموك كانوا عالمًا كاملًا من الطبقات الاجتماعيّة والفكريّة، تجمعهم أحلام العودة لأرض الآباء والأجداد، لكن الوعي الواقعي العملي يغيب عن هذا المشهد، وهو الوعي المجدي لتحقيق هذا الحلم، مما سبّب تناقضًا بدأ يتسلّل إلى العديد من الأسباب، وليس آخرها اصطدام الكثير من النشطاء الفلسطينيين بأساليب سيطرة القيادات الفلسطينيّة آنئذٍ على القرار، الذي لا يملكون -هؤلاء القيادات- أيّ من معطياته أو البتّ فيه.
كان انزلاقًا نحو الضياع، الافتقاد لأرضيّة صلبة للتحرّك بحريّة في وسطٍ من الانتماء المبعثر، وقد كان عنوان الفلسطيني فيه عدم الاستقرار، خاصّة بعد ازدياد توغّل السيطرة الأمنيّة فى التجمّعات الفلسطينيّة.
لهذه الأسباب، ولغيرها، حاول الكثيرون الخروج، ولكن صفة اللجوء ذاتها تجعل التحرّك في مطارات العالم ليس بالسهولة المتوقعة، ولكن نهايةً، نجح الكثير من هؤلاء النشطاء والمفكرين بالهجرة الى “الغرب”، وتحديدًا في نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات.
تنبّهت السلطة السوريّة ممثّلة بأجهزة أمنها لهذا التجمّع المتمايز، والذي تمتّع باستقلاليّة نسبيّة عن المجتمع السوري في أواخر الثمانينات، وبدأ التّصدّي لمظاهرات ما كانت تمسّ سوى الشأن الفلسطيني كيوم الأرض.
كانت المظاهرات تهدف إلى التضامن مع الأهالي في الوطن الأم بخضم معاناتهم. لم يكن من الوارد أن يكون اليرموك مثالًا وحافزًا للسوريين في خروج مظاهرات مماثلة، والتي ستتحوّل بالتأكيد إلى مظاهرات مناوئة للنظام.
أدرك النظام ذاك الخيط الواهي بين تجمّع الفلسطينيين الباحثين عن الهويّة، ومحاولة تحقيقها من خلال الانتماء إلى أرض يسعى بفكره وبحلمه إلى الوصول إليها، وبين السوريّ الذي يحلم بالعدالة في تسلّط نظام لا وجود لفكرة حقوق الناس تحت ظلّ حكمه العسكري والأمني، وبالتالي يبحث أيضًا عن انتمائه كمواطن.
كان الطرفان يعيشان نفس الظرف وذات المعاناة الحياتيّة اليوميّة من التسلّط والخوف، حتى أنّ الكثير من الناشطين السوريين كانوا على تواصل مع الناشطين الفلسطينيين، فأقام بعضهم في مخيم اليرموك وتبادلوا الكثير من الأفكار والطروحات.
هذه النقاشات كانت تدور بأساسها حول الديمقراطيّة، حيث شاع الاعتقاد بعدم إمكانيّة فصل المسألة الفلسطينيّة عن مسألة عربيّة عامة أساسها بناء مجتمعات مدنيّة تسعى للعدل وتزيح التسلّط والظلم.
من المعروف، أنّ مشروعًا بدأ في تأطير نشطاء من كلا الجانبين، ضمّ بعض الفلسطينيين الذين يحاولون تحويل المسار الوطني الفلسطيني وتصحيحه بعد التراجعات والهزائم المتتالية للفصائل الفلسطينيّة في تلك الفترة، وكذلك بعض المعارضين السوريين من حزب العمل الشيوعي وسواه. لكن هذه المحاولة تمّ وأدها في مهدها، لاختراقها من قبل الأجهزة الأمنيّة، حتى أنّه قد تمّ اعتقال الجميع فيها فردًا فردًا، وفي وقت واحد تقريبًا.
النظام وتفكيك “عالم المخيم”
أواخر الثمانينيات وأول التسعينيات من القرن الماضي، جرى “تنظيف” اليرموك من جميع التنظيمات الفلسطينيّة ومكاتبها وإغلاقها، خاصة أولئك الذين لا يدينون بالولاء للنظام بشكل كامل، وأبقى على من يعمل تحت مظلته ومن خلال أجهزته الأمنيّة. شاع حينها فكرة التفرّغ أو الارتزاق، حيث يوزّع شهريًا أشبه براتب وظيفي لمن كان ضمن هذه التنظيمات المواليّة.
اتسع نطاق الفقر في اليرموك بالرغم من تضخّم مظاهر البهرجة والأسواق، امتلأت واجهات شارعي اليرموك بالمحلات المتنوّعة، وتحوّلت ملكيتها للتجار السوريين الذين اكتشفوا في اليرموك اكتظاظًا وسوقًا استهلاكيًّا ينافس أكبر أسواق دمشق التقليديّة، مع بقاء قليل منها، -أبسطها- للفلسطينيين، الذين افتتحوها في عهد سابق.
بعد مطلع الألفيّة الثالثة جرى إفراغ المخيم من مضمونه كتجمّع فلسطيني يحلم بالعودة، فقد تحوّل سوقًا وازدهرت فيه التجارة والبيع والشراء، حتى في سوقه العقاري، فأسعار البيوت والمحلات، وحتى الإيجارات، ارتفعت بشكل هستيري، خاصة بعد بداية حرب العراق عام 2003 وتدفّق الهاربين من الجحيم هناك. كذلك انتشرت الدعارة والمخدرات، وقد صار سوق اليرموك بدلًا من مخيم اليرموك الذي تجمّع بقيّة الفلسطينيين فيه أخيرًا في مثلث صغير، كما جرى إزاحتهم نحو المناطق الفقيرة في نهايته وعلى أطرافه.
دمشق… لم تنجُ أيضًا
في مدينة دمشق نفسها، لم تكن الصورة لتختلف كثيرًا، حيث استولى المتنفذون في السلطة على المناطق التجاريّة والرئيسيّة فيها. صارت المظاهر غير المعهودة، خاصة السيارات الأمنيّة بأسلحتها تصول المدينة بكلّ وضوح، تتربّص بالناس جميعًا، وبكلّ شاردة وواردة.
انتعشت المدينة بالحركة، ذاك الأمان النسبيّ والحذر نتج عنه ازدهارٌ اقتصاديّ موبوء بالمبالغة، ومن غير أساس اقتصادي واضح، لا شيء سوى أموال تضخّها تلك الطبقة المتنفّذة. كان تضخّمًا سريعًا للأعمال التجاريّة والشّركات، ممّا شجّع الكثير من البنوك الخارجيّة والشركات العالميّة لإيجاد موطئ قدم في بلد اتّسم بالانتعاش الخادع المحصور بأناس معدودين ويعملون للسلطة، ومصالح أفرادها الشخصيّة.
بدأت الطبقة الوسطى بالانحسار، تحت وطأة مظاهر الانتعاش والحداثة والانفتاح الظاهري على العالم، سواء بالاتصالات والمعلومات، أو الإيهام بشيوع حرّيّة الرّأي والتعبير والاستعداد لتصحيح العلاقة بين النظام والناس.
تجار السلطة أمعنوا في الاستيلاء على الممتلكات والأعمال، والاعتقالات على أشدّها، تغوّلت فروع الأمن على الناس وعلى أعمالهم وتحرّكاتهم وأفكارهم. تسرّب الظلم واليأس إلى الناس والحواري في دمشق بصمت، كان ما يحدث لا يمتّ بصلة لما يُعلن عنه من انفتاح وحرّيّة (كانت تجربة ربيع دمشق مثالًا فاضحًا لكشف الكذب والخديعة التي ينشرها النظام حينها)، تمدّد الثقل ليشتدّ في سحقه كواهل الجميع، فعليًّا كان ضغط البؤس والغبن يشعل نيرانًا تندلع هنا وهناك، يجري كتمها وتغطيتها تحت هدير أجهزة أمنيّة استشرست باحكام سيطرتها، وامتدّت لتطال جميع جوانب الحياة في دمشق وسواها من المدن والبلدات، بوحشيّة علنيّة لم يشهدها أهلها سابقًا.
تغوّل أمني
بحكم عملي كخرّيج كليّة الحقوق في دمشق، شهدت توغّل الأجهزة الأمنيّة في تقييد حالة الناس وحقوقها المدنيّة. يتّضح هذا في كمّ الموافقات الأمنيّة المشروطة لأيّ حق مدني من الممكن تغيّره. كمثال على ذلك: كان يحتاج تصحيح الاسم أو الكنية أوالمواليد وما يتعلّق بها لأيّ فرد، إلى موافقة من سبع جهات أمنيّة!، وهو ما كان مستحيلًا عمليًا، فجرى التغيير من موافقة سابقة إلى لاحقة!
في بداية عملي القانونيّ البحت، سألني عنصر أمنيّ عن كيفيّة عملي هنا وأنا فلسطينيّ. لم يكن لديّ جواب، سوى أنّ الموافقة التي تنصّ على أن أتولى عملي تجدها عندكم.
عملتُ لمدة خمسة عشر عامًا ولم أتلقّ ترقيّة واحدة، ولدى السؤال عن السبب يكون الصمت هو ما أتلقاه دومًا. كلّ ثلاثة شهور يقوم عنصر أمني ما، بدراسة عني وسؤال المحيطين بي عن أحوالي واتجاهاتي السياسيّة، وكيفيّة وجودي في عملي على الرغم من كوني فلسطيني.
لم يكن حالي استثناءًا، فقد كان زملائي في العمل، والمتنوعون بطوائفهم ومشاربهم ومناطقهم، يخضعون أحيانًا لنفس “الدراسة”، حتى أنّ الأمر يكاد يطال جميع العاملين في الدوائر المحيطة، أو التي أعرفها. لذا لم تتوقف محاولات خروجي من وسط غير طبيعي لأكثر من عشر سنوات، قبل خروجي من البلاد مع عائلتي مضطرًا في نهاية عام 2012.
الحراك الشعبي يقترب.. بين فلسطينيتي ودمشقيتي
لم يكن من المستغرب أن يبدأ الحراك الشعبي من دمشق، تلك المظاهرة في شهر شباط لعام 2011 والتي شارك فيها بعض التجّار الذين نالهم الغبن والظلم والخديعة، بالإضافة لبعض المثقفين والطلاب. فالمجتمع السوري يرزح تحت وطأة القهر، والاستلاب لكافة الحقوق بمواجهة سلطة أمنيّة تتمادى بصورة مرعبة. تبدو أهميّة دمشق بالنسبة للسلطة بمركزيّتها عنوانًا لسيطرتها، وقدرتها على الإمساك بأطراف الحكم. وبالتالي نشر الخوف والرّعب فيها تلويحًا وتحذيرًا للناس كي لا يهمسوا برفض أو اعتراض على ما أحاق، ويحيق بهم كلّ الوقت.
تكمن دمشق الجميلة في الذكريات، لكن لا مكان للجمال فيها الآن، ولا حتى في المدى المنظور. أحاط بها سرطان عسكريّ بسكنٍ عشوائي مخطط له، لحصارها، ثم تغلّل هذا السرطان ذاته إلى حاراتها وأبنيتها، نال أناسها البسطاء والطيبين. اليوم، تمتلئ عيون الدمشقيين بالقهر، لا يستحق هؤلاء المتسامحون ما ساد من ظلم وفقر، ما نالوه من حقد وسلب لكلّ ماهو جميل وله معنى في حياتهم.
في تداخل معقّد بين فلسطينيتي ودمشقيتي، أفتقد لمهدي الأول، لذاك الأمان الذي انزاح إلى الذاكرة وصار في غياهب التاريخ والأحلام. تتوارى دمشق في مشاهد الموت المدقع المترامي في العيون، موت يصيب النظرات والزفرات المختنقة في بحثها عن الخلاص. ذاك الرعب الكامن في زواياها وطرقاتها، لكأنّ الناس هناك يمشون في ضباب من الأسى والحسرات إلى اللا مكان. ما عادت رائحة الياسمين تفوح كما هذا الوقت من كلّ عام، ولا ذاك التثاؤب اللطيف في زهراته الغضّة. بل أصاب الذبول كلّ شيء في دمشق، ورودها ونهرها وبيوتها.. وأناسها. حتى صارت سماؤها رصاصيّة لهول غمامات الجوع والأنين.
يجلس ذاك المتربّع على كرسيّه فوق جبل يطلّ على المدينة متربّصًا، يُلقي الضحكات المرعبة المتردّدة في جنبات المدينة، معلنًا انتصاره في خلق لوحة جحيميّة للمدينة. يشير بفنون التعذيب والتجويع والإذلال عشوائيًّا، يومئ لأتباعه الذين يحملون أدواته وعدّته بعينين جامدتين لا أثر للحياة أو للشعور فيهما، ليعيثوا في المدينة ويتمادوا حتى الهواء، يرسمون ويخططون مشاهد لوحته بالدم والأشلاء. يُعجب، ويتباهى بابتكاره صنوف القتل، يبحث عن كيفيّة تجاوز أشدّ القساوات، والتي لم تخطر على بال إنسان، ليطبعها في اللوحة ذاتها، لأناس لم يبادروه سوى بالتسامح والسلام. ينظر، يتكلّم، ويشير بمنطق إله لا رادّ لمشيئته وقدره، ليعلن على رؤوس الأشهاد، بأن لا مكان للجمال أو الإنسان في مدينته… وبلاده، التي صارت لوحات يرسم فيها، ويشكّل بضراوة، جحيمًا تلو الجحيم.
(حكاية ما انحكت)