سعيد خطيبي: فرنسة الرواية: ما هي الرواية التي تريدها باريس؟

0

فوز آني إرنو بنوبل للأدب لم يمر بسلام في بلدها، فقد انقسمت أوساط سان جيرمان في مواقفها، بين من عاب خيار الأكاديمية السويدية، بحكم أن إرنو ليست أفضل الأسماء الأدبية في جيلها وهناك من يستحقها أكثر منها، ومن عاب على الكاتبة قصر نظرها وانهماكها في تدوين يومياتها تحت مسمى رواية، وفريق ثالث ذهب إلى رأي أكثر تطرفا بأن الكاتبة سطعت بمواقفها السياسية في الفضاء العام ليس إلا، وهو رأي يغفل عن حضور الكاتبة منذ قرابة خمسين عاماً، مع إجماع نقاد وقراء على أعمالها. هكذا لم تفرح فرنسا تماماً بهذا التتويج الجديد، بل أحالها إلى صراعات داخلية في جادة الحي اللاتيني.

وعلى الرغم من هذا التشنج والتنافر في الآراء، فقد ألقى خيار الأكاديمية السويدية بظلاله على جائزة غونكور، أرقى الجوائز في باريس، حيث وقع الاختيار، هذا العام على رواية «أن تعيش على العجل» وهي أول رواية سيرذاتية لبريجيت جيرو، بعد عشر روايات سبقتها، وأول رواية من هذا النوع تتوج بالغونكور. بالتالي فنحن إزاء موجة جديدة في الرواية الفرنسية، رواية البطل المتكلم، رواية الأنا، رواية الذات والحكايات الشخصية، رواية اليوميات، تلك الروايات المجردة من فائض التأملات الفلسفية، الخالية من زخرف اللغة والمتكئة على حكايات صغيرة لأشخاص عاديين، لا حكايات الأبطال أو المغامرات المثيرة. فالمشترك بين أعمال آني إرنو أو رواية بريجيت جيرو الأخيرة، أنها لا تهتم بصورة البطل كما تعودنا عليها في ما سبق، بل هي روايات حيث الشخصيات كلها تقتسم البطولة في ما بينها. روايات لا تهمها شخصية المثقف، بل شخصية الملاحظ المُتبصر، شخصية تنظر ما يدور من حولها من تحولات وتدونها كما لو أنها تنقل شهادات عن عصرها.

بدايات التحول

ليست المرة الأولى التي تذهب فيها نوبل إلى كاتبة اختصت في التخييل الذاتي، فقد سبقتها إليها سفيتلانا ألكسيفيتش عام 2015، هذه الأخيرة التي كرست اسمها في فرنسا وليس في بلدها بيلاروسيا، بفضل ترجماتها إلى الفرنسية وحصولها على جائزة ميديسيس في باريس، والغريب أنها حصلت على ميديسيس في باب البحث الأدبي وليس الرواية، كما أن أعمالها لا يظهر على غلافها كلمة (رواية) بل هي نصوص مفتوحة في توثيق الأحداث ومصائر الأفراد. لقد تبلور هذا النموذج وصارت (الأنا) هي المتغلبة في الأدب الفرنسي الحديث. ينطلق الكاتب من ذاته، أو مختفياً خلف شخصية فيسرد حياته، يجعل من الخاص قضية عامة، يسير في فضح المستور وفي التعرية بالكتابة، في أن يتحول الشخص في حد ذاته قصة جماعية. باتت حياة الفرد أهم من حياة الجماعة في الرواية الفرنسية الجديدة، وذلك ما صنع حضور كاتب آخر له مكانة عليا في المكتبات الفرنسية، هو إيمانويل كارار، هذا الكاتب الذي لا يمر أي واحد من إصداراته دون أن يُثير عاصفة من الترحيب في أوساط النقاد، والتفافا من القراء، فترتقي أعماله إلى مصاف الأكثر مبيعاً في ظرف وجيز، بحكم أن كارار مثله مثل إرنو أو ألكسيفيتش يجعل من حياته أو من حياة شخصية أخرى سبباً في سرد ذاتي، في صنع توليفة من الحكايات التي تنطلق من الأنا قصد سرد حيوات الآخرين. لقد طفا هذا النموذج من سنوات، لم تعد باريس مولعة بقصص متخيلة كما سردتها ماجريت يورسنار أو كما فعل آلان مابانكو، فباريس الآن تقرأ ما يسرده أشخاص عاديون عن حيوات عادية، دون تصنع أو افتعال للبطولات، بل فقط من خلال سير حذر بين انفعالات الذات، من خلال توصيف حالات شخص بعينه ونقل تصوراته عن الواقع الذي يعيش فيه، من غير تورية ومن غير خوض في النظريات والأفكار الكبرى، التي باتت من شأن الكتب المختصة بدل الأدب. لقد انتهى زمن الأدب السابق كما كان بدايات القرن العشرين وناب عنه أدب حيث الإنسان محور القصة، لا التأملات والأفكار العظيمة.

ما بعد آني إرنو

صار التوجه العام في القراءة مثلما هو عليه الحال في النقد ينحو إلى روايات، حيث الدفاتر الشخصية أعلى مرتبة من تجييش النص بشخصيات خارقة، إلى روايات حيث كل شخصية تحكي عن ذاتها لا عن الآخرين، باتت الكتابة الأقرب إلى يد القارئ هي كتابة تسير في محاكاة هواجس الإنسان، في كشف آلامه الذاتية وأفراحه الصغيرة، كما كتبت آني إرنو منذ عملها الأول «خزائن فارغة». إن تتويج هذه الكاتبة بنوبل للأدب هذا العام ليس تتويجاً شخصياً، وهذا ما يفسر حالة الغليان في الحي اللاتيني، الذي لم يقاسموها فرحتها، بل المقصود من نوبل هذا العام هو تتويج نوع أدبي بعينه، بحيث يعود الكاتب إلى فضائه الحميم، إلى انشغالاته اليومية، في بساطة الحدث وفي التناول السيكولوجي لما يدور في ذهنه، بلا تأويلات سياسية أو فكرية. صارت رواية ـ المؤلف إذا جاز التعبير هي المهيمنة بدل رواية الجيل أو رواية الهم العام، فما كتبته إرنو يدخل في ذلك الباب. إنها تنطلق من نفسها وتعود إليها، تجعل من حياتها العادية فضاء تدور فيه همومها دون أن يعنيها أن تشحن نصها بتأويلات لا مرئية، بل نصوصها تحتمل تأويلاً واحدا، في كتابة مباشرة خالية من المواربة، وهذا ما رافقها فيه كتاب آخرون، يكتبون أيضاً بضمير المتكلم أو يختفون خلف شخصية فيحكون عن ذواتهم. صار الكاتب أهم من النص ومنعرجاته، صارت التأويلات النفسانية أهم من القراءات السياسية أو الثورية، وهذه ثورة جديدة، أن يهتم الكاتب بحاله، أو يجعل منها محوراً تدور حوله الأحداث، من غير أن يفرط في البحث عن علائق مع المحيط الذي يحيا فيه. إن باريس بوصفها واحدة من عواصم الرواية صارت ميالة إلى رواية الأنا، رواية الحكايات الشخصية، لا روايات القضايا الفكرية الكبرى.

*القدس العربي