سعدي يوسف الشاعر ولعنة الأيديولوجيا

0

عبد الله ونوس، شاعر سوري

. I ـ

قبلَ أيّامٍ قليلةٍ من تاريخ كتابتي لهذه السطور، أُغلِقَ كتاب حياة “الشيوعي الأخير”، كما كان يُحب أن يكنّى، الشاعر العراقي سعدي يوسف، صاحب التجربة الأطول فيما بين أقرانه وشعراء جيله …

رحل سعدي “الإشكالي” بامتياز، والذي كان مُصرّاً وحتّى نزعه الأخير أن يكون قلقاً في حياته ومواقفه وكتابته، وفي علاقته بقارئيه، وناشريه العديدين، وأصدقاءه الموزعين في المنافي، وكذلك كان مُقلقاً لمعجبيه، ومحبيه المحايدين، في تتبعي لحياة هذا الشاعر، ربّما كان من القلائل الذين ضجّت حياتهم بصخبٍ صامت، لا يُشبهُ شيئاً سوى ايقاع قصيدته الصاخبة والصامتة في ذات الوقت …

أتذكّر تماماً كيف بدأت علاقتي معه – كقارئ طبعاً – فأنا لم ألتقِ به إطلاقاً، في مرحلة حائرة ما بين الطفولة والشباب، أعطاني أخي الشاعر “مخلص” نص “القنفذ” لسعدي يوسف وطلب منّي أن أقرأه … تكلمنا أنا ومخلص كثيراً عن هذا النص وكان حينها خلال سنين دراسته للغة العربية … أتذكّر أن تلك القصيدة وهي من شعر سعدي المبكّر نسبياً كانت نموذجاً “ستاندرد” في قصيدة التفعيلة  لحداثة ما بعد جيل الرواد “السياب ونازك والبياتي” … للأمانة النص متوهج ومُرمّز ومتين …. وربّما وقد انقضت على تلك الواقعة ما يزيد عن 35 عاماً .. ما زلت أحفظ النص غيباً واستمتع به كُلّما استعدته …

انسربت السنين كقبضة رمل، وأنا اتابع سعدي يوسف وأتلقّف أخباره ودواوينه الكثيرة وأشعاره الموزعة في الصحف والمجلات العربية … في جردة حسابٍ لثلث قرنٍ انقضى، أكتشف أن بداياتي في الكتابة كانت تدور في جزءٍ كبيرٍ منها في فلك هذا الشاعر، وبمكاشفة أجرؤ الآن أن أقولها … كان سعدي الذي أحببت حاضراً في نص التفعيلة الذي كتبته في البدايات، وقد نُشر جزءاً من هذه النصوص في مجموعتي الوحيدة “من الرواية السرية لحياتي – 2014 – دار التكوين” … تعلمتُ من سعدي بناء النص … أين تضع الحجر الأول وأين تنتهي … القطيعة مع نص سعدي كانت ضمن دائرة اللاشعور … إصراره على الايدلوجيا كحامل رئيسي لكثير مما كتب، كانت تبعدني عنه …

في 2002، وكانت بداية نِعم الأنترنت في سوريا، اكتشفت أن لشاعري الأثير موقعاً خاصّاً، محمّلاً عليه جديده وقديمه، وتسجيلات صوتية له، وهناك إمكانية للمراسلة …

لم يكن الفيسبوك قد اختُرع بعد، أرسلت لسعدي رسالة تعريف .. ردّ عليها سريعاً وكتب لي على ما أذكر “أهلاً بك يا عبدالله ..ابن السلميه بلد علي الجندي والشعراء الكرام” … فيما بعد الفيسبوك، غدا التواصل أسهل .. بين الفترة والفترة كنّا نتحاور .. كان هناك ما يشبه الوعد أنه سيزور سلمية في حال جاء إلى سوريا، هذا الكلام كان في 2010، بعد عام وفي بداية 2011 .. وكان الربيع العربي الموءود، قد بدأ يفتّق براعمه، ربّما كان سعدي فَرِحاً بخضرة ربيع تونس وفيضان نيل مصر … وكانت العقدة الكأداء “سوريا” … رهينة محابس خذلان الجميع … في دردشة على الخاص مع الشاعر تكلّم باقتضاب عن أصابع الإمبريالية الخفية وعن الرايات الحمراء التي غدت سوداء … وأن المساجد لا تُخرّج ثواراً، بتهذيب شرحت له ما يجري، وقلت له يومها أنا من “ناصريّة سوريا” إشارة لملحوظة تداولناها سابقاً عن شبهٍ ما بين “الناصرية” بالعراق ومدينتي  “سلمية”، فَخُذ كلامي بدقة … هنا بؤرة مهمة لأقلية من السهل أن تكون عرضة للترهيب والتخويف .. لكن الأمور تسير بحضاريّة هائلة … وأن الكثير مما تسمع به من الإعلام الرسمي سواء في سوريا أم بريطانيا حيث تقُيم هو غير صحيح … “فيما بعد تم لي ذراع سلمية ـ الأقلويّة ـ ومشى من بقي من نخبها في ذلك الركب البائس”.

عرفت حينها – وبعد هذه الدردشة – أن هذا “الكنغر الرشيق” قد زلّت خطوته، وأن الشيوعي الأخير قد غدا “متأخراً جدّاً” …

بعدها … وكان قد مضى أكثر من شهر ونصف على بداية الثورة السورية .. اكتشفت أن هذا الشاعر الذي أحببت قد غاب عن قائمة أصدقائي … غاب تماماً وإلى غير رجعة !!!!

ـ II ـ

في هذا الجزء من سردي، وأنا لست بصدد كتابة مادة نقدية عن ـ أبي حيدر ـ ولست بوارد رفعه أو الحض منه تماشياً مع “تراثٍ طللي”، يخصّ تعاطينا مع الراحلين، أنا منه، رضيتُ به أم رفضته …

هنا مجموعة ملاحظات مجمّعة عن الشاعر لا رابط لها سوى أنها استوقفتني وعلى مراحل قراءتي وتتبعي لحياة هذا الشاعر …

1 ـ لم يزل سعدي الشاعر في عيني بهيّاً، ولا زلتُ استمتع بوفيرٍ من شعره، يذكرني في مرحلة ما بعد بيروت ودمشق حيث اختار لندن إقامةً، برسامي الطبيعة الصامتة، “سيزان” تحديداً … هذه التفاصيل بأضوائها الخافتة تفرحني حقيقةً، الورود وأواني النبت المنزلي والمقاهي … “انطباعيّة” آثره .. ربّما “انطباعية” الفن عموماً ما زالت تأخذني .. وفي السياق تكون قصيدة سعدي بإيقاعاتها الخفيضة ..!

2 ـ في العدد رقم 1 من مجلة شعر ـ شتاء 1957 ـ بغلافه الأصفر، يحتل سعدي القصيدة والمادة الأولى في العدد، والأسماء لم تخضع للترتيب الأبجدي، قصيدة جميلة بعنوان “حكاية” .. خلف سعدي، هناك بدوي الجبل ونازك الملائكة وميشال طراد وفدوى طوقان والبير أديب وأدونيس ويوسف الخال ….

احتلت قصيدته صدر العدد وهو الأغضُّ تجربةً والأقلُّ عمراً بين هؤلاء …

3 ـ في ديوانه “مريم تأتي” أرّخ سعدي لحصار بيروت 1982 يوماً بيوم ولحظةً بلحظة، ولدقة المعلومة لم يغادر الشاعر المدينة حينها .. ولم يُقم في فندق كما فعل الكثير من الأدباء الذين جمعتهم بيروت … كان مع مقاتلي المخيمات، في الملاجئ والخنادق وتحت قصف نيران الطيران المعادي ومدافع الأصدقاء … لا أدري لمن قرأت قبل سنوات، أنه كان يرى سعدي يحمل بيديه صناديق الذخيرة للمقاتلين في الخنادق وعلى خطوط التماس …

4 ـ بين يدي العدد 7 من مجلة الكرمل 1983، هناك قصيدة للشاعر بعنونة بـ “إلى ياسر عرفات” وهي على درجة عالية من الوجدانية:

“لي وردةٌ بيديكَ

قد أحببتها حتّى بلغتَ منازل العشاق،

لكن الحبيبة سوف تبقى في يديكَ.”

بعد سنوات يدرجها الشاعر في ديوانه “خذ وردة الثلج، خذ القيروانية” ولكن بدون العنوان الأول وهي معنونه بـ “الوردة” …

هذا الموضوع يدخلني في تساؤلات ..

هل كان ثمن الجلوس على موائد ياسر عرفات والتعيّش من أمواله الموزّعة حينها على النخب العربية بغير حساب، وهي أموال مُتَسولة أصلاً سواء بابتزاز أصحابها أو برضاهم، هل كان الثمن هو هذا المديح .. وهل حجب اسم أبو عمار في الديوان هو لانتهاء هذه الأموال وفراغ تلك الموائد مما لذ وطاب … أستغرب هذا الهيام بالطغاة .. ليس بعيداً مدحُ الجواهري للأسد الأب أو سعاد الصباح لصدام حسين عن مدح سعدي لياسر عرفات …

كتب شاعرنا في مديح أبي عمار ثم أخفى الإهداء بعد سنوات .. بينما أدونيس مدح الخميني “السفير 1980” وأجزم أن دافع المديح هنا كان طائفياً بامتياز، ولم ترد القصيدة فيما بعد في أيٍ من دواوين أدونيس اللاحقة …

ملاحظة لا أعرف مدى أهميتها ..

محمود درويش في عدد الكرمل هذا وضع قصيدته “مديح الظل العالي” بعد قصيدة سعدي “إلى ياسر عرفات” .. هل كان صاحب الكرمل يعني شيئاً بهذا الترتيب !!! “الله أعلم” ..

5 ـ قد أكون متطرّفاً حين أعرض رأيي في الجوائز التي توزع في العالم أجمع للأدباء، وفي “بلاد العُرب” بشكلٍ خاص أو كل الجوائز التي تقدّمها دول أو حكومات أو أحزاب ديكتاتورية تكون الجوائز بمثابة الرشاوى وشراء الذمم ..

قَبِل سعدي عام 1990 جائزة سلطان العويس … وحقيقةً لا أعلم من يكون العويس هذا وما مدى الشرعية التي يتمتع بها ليمنح جوائز لشعراء وأدباء، معظمهم ورغم زلاتهم، ليس من المنطقي أن يلوذ حتّى بظلهم … “فائض رأس المال ليس شرعية طبعاً”!

بعد عقد ونيّف فتح سعدي ناره على الدولة المانحة للجائزة، ولم يكن قد تبدل شيء في سياسة هذه الدولة ما بين 1990 و 2004 حتّى قامت هذه المؤسسة ومن خلفها محفلها المشيخي بسحب الجائزة من الشاعر …

استغرب .. بين هذين التاريخين كانت اليد المانحة ملوثة وبقيت ملوثة ولم تزل على حالها حتّى هذه اللحظة … لا يحتاج الموضوع للكثير من العبقرية لكي نفهم أن هذه الجوائز تعيث فساداً في أوساط الأدباء، وليس لها من طائل سوى تصنيع أدب على مقاس ذائقة أصحابها المتدنية …

6 ـ في بداية التسعينيات وما بعد عاصفة الصحراء مباشرةً … كانت أول زيارة للشاعر إلى كردستان العراق بعد غيابٍ طويلٍ عن بلده .. أتذكر أنه كتب في مجلة الناقد اللندنية “وأثبتها في كتابه النثري المميز خطوات الكنغر” مقالاً عبّر فيه عن سعادةٍ غامرة، حين شاهد الرايات الحمراء الأممية ترفرف على شرفات المقرّات الحزبية! …

أنا أرى أن الرايات الكثيرة التي بدأنا نشاهدها تباعاً ومنذ انتهاء حرب الخليج الأولى في العراق والتي أينعت بعد سقوط الطاغية صدام حسين 2003، واستمرت في العراق حتّى هذه اللحظة والآن نشاهدها كذلك في سوريا .. سواءً أكانت حمراء أو سوداء أو خضراء أو صفراء أو مخططة بالأحمر أو ممهورة بهلال ونجمة على أرضية دموية … أياً كان لونها .. هي تؤدي ذات الغرض … لا يحتاج الموضوع إلى بصيرةٍ ثاقبة لكي نعرف أن هذا الرايات الكثيرة برموزها الأممية أو الدينية أو الطائفية .. ما هي إلّا شكل من أشكال الاحتلالات … عن أي أمميةٍ تكلّم سعدي .. لم يكن السوفييت وما بقي من شراذمهم هنا وهناك سوى وجه آخر لزهر الطاولة ذي الوجوه الستّة … مرة يأتيك ستالين وامتداداته ـ البوتينية ـ “قرأتُ للشاعر نزيه أبو عفش ولشدة هيامه بالرايات الأممية وستالين غزلاً ببوتين”!!  ومرةً يأتيك ولي الفقيه وامتدادات أصحاب النصر الإلهي … الأمريكان والأتراك ومشايخ “مدن الملح” .. ليسوا أقل شأناً … !!!

7 ـ في العدد 61 من مجلة الناقد 1993، أجرى الشاعران يوسف بزي ويحيى جابر حواراً مع سعدي … يفصلنا حوالي ثلاثة عقود عما تكلم شاعرنا في هذا “المونولوج” .. من الجدير إعادة القراءة … اللقاء كان مكاشفة من الشاعر، وحوى آراء مهمّة، منه سآخذ جملة واحدة أدعم بها رأياً لي في هذه الفقرة …

يسأله المحاوران في فقرة معنونه بـ “مدن” عن أمكنة زارها سعدي وسكنها ..

“دمشق: لدي فيها مكانان، الجامع الأموي، وضريح محي الدين بن عربي، خارج هذين المكانين، لا تعني لي شيئاً”.

كان صادقاً فيما قاله عن دمشق .. كان سعدي صادقاً جدّاً، والدليل أنه وعلى مدى سنواتٍ عشر انقضت على هذه المقتلة … لم تعني له دمشق شيئاً … وعلى اعتبار أن الجامع الأموي ومقام ابن عربي لم يمسّا، فقد كان راضياً عمّا يجري، أو في أحسن حال غير مكترث …

ـ III ـ

كان عمر بن الخطاب يقول:

“رحم الله رجلاً أهدى إليّ عيوبي” …

سعدي يوسف الشاعر الذي لطالما أحببتُ شاعريته، أتمنى من الله أن يوعز لملائكته أن يلوحوا لك على باب الخلود براياتٍ حمراء، حتماً ستكون روحك مرتاحةً حين تشاهدها وهي ترفرف في عالمك الآخر ..

فيما كتبت .. لم أقصد أن أتتبع هفواتك .. ولم أحاول الحض منك .. بصدق بالغ أكرر .. كنتُ ولم أزل شديد الإعجاب بمنجزك الشعري، ولستُ أشكّ ولو للحظة بمدى صدقك … ولكن هذه الحزمة من العصي، والتي تسمّى “الإيديولوجيا” .. أنت الذي كنت مصرّاً على وضعها ما بين مسننات آلتك الشعرية المبهرة !!.