مرّة أخرى، يباغتني السيد الموت، ويتسلّل فجأة إلى واحدةٍ من أجمل لحظاتي على الإطلاق، ليحيلها إلى العدم وبؤس الذكريات المجلّلة بالنحيب وحسب. مرّة أخرى، يأتي كما يأتي دائماً، بغرور من يعرف كيف يضع النقطة الأخيرة في نهاية الحكاية، فلا يترك مسافةً لكلمة جديدة، ولا يسمح بأي مراجعةٍ قد تُطيل من عمر تلك الحكاية، وإنْ بتفاصيل مكررة. مرّة أخرى، يقنعني الموت، أنا المقتنعة دوماً على الرغم من آفة النسيان وطمأنينة الصلاة السرمدية، بأنه هنا.. دائماً وأبداً، وإن توارى قليلاً خلف ستائر البهجة ودعوات العمر المديد. مرة جديدة حارقة وموجعة، ولا أكاد أتبيّن فيها ثغرة للأمل، ولا للمنطق السهل كما أعرفه وأركن إليه، ليكون ملاذي، عندما تنتابني الهواجس من فقد الأحبة. وهي مرّة ثالثة في تاريخي الشخصي الحميم جداً التي أخوض فيها، من دون أن أدري أو أن أقرّر، معركة خاسرة مع القدر، قبل أن تبدأ، فألمح شبح الموت يقف على حافّة محاولتي الفاشلة، متلمظاً بثقة المنتصرين الذين يعرفون جيداً كيف يختارون اللعبة، ومتى يبدأونها وأين، وكيف ينهونها بالضربة القاضية غالباً، حتى قبل أن يسمع الخصم صفارة البدء! وكنت في كل من المرّتين السابقتين التي وجدتني فيها في مواجهة الموت، واحدة بعد الأخرى، أستسلم على وعدٍ مني لنفسي ألا أنتبه في المرة المقبلة للمعركة كلها، لأنها ليست معركتي، ولأنني مجرّد جمهور خاسر على مدرج الخيبة الأبدية، وأن اليقين بالخسائر المتتالية هو ما يليق بي وحسب.. لكنني أنسى كلما نظرت في عيون من أحب ممن حولي، أما الموت فلا ينسى ولا ينساهم ولا ينساني.
هكذا هو الموت، وهكذا هي قوانينه، بل قانونه الوحيد الذي يقضي بالتسليم له فقط، وبكل أحواله وحالاته ومقتضياته. ذلك أنه لا يعترف بالخصوم، ولا يراهم في محيط اهتمامه، وذلك أننا لا نعرف، حتى أن نكون خصوماً له، ما دمنا قد سلّمنا بقانونه الأول والأخير، وآمنا بأنّا لله وأنّا إليه راجعون، والطرق الذي نرجع عبرها إلى الله سبحانه وتعالى هي الطريق التي تسمّى الموت، حيث تبدو الحياة معها دائماً مجرّد عبور. كل حياة، تطول أو تقصر، هي عبور وحسب إلى ما نؤمن بأنه البقاء الأخير.
قبل أسبوع تقريباً، فقدت أخي الكبير، والذي لظروف عائلية دقيقة، حتمت عليه أن يكون الرجل الأول في البيت، منذ كان في السادسة من عمره. أصبح بمثابة والدي أيضاً، فكان مناصري في كل محاولاتي كسر الجدار الاجتماعي الصلد حول وجودي المستقل المبكر، وشريكي في كل قرارٍ اتخذته في حياتي، وسندي في كل مهمةٍ بادرت إليها، على خلاف رغبات معظم أفراد العائلة الكبيرة حولي، ورفيقي الذي تنازل دائماً عن الهالة الذكورية الكبيرة حوله، ليتيح لي أن أبحث عن أناي كما أشتهيها، قدر الإمكان. كان يذهب بي إلى حدود الوعي في دوائره الواسعة جداً على قسوتها أحياناً.
رحل أخيراً وهو على مشارف الستين من عمره، مفعماً بحيوية الذين يظنون أنهم سيمضون بقية الحياة بطاقة الشباب الأول، وابتسامة الفرح الأول، وخفّة الدهشة الأولى في كل ما يراه من تصاريف القدر، فلم يأبه لعمرٍ يمضي، ولا لإشاراتٍ على أمراضٍ تأتي بها السنون، ولا لهموم تراكمها ظروف الحياة الصعبة.. ذلك أنه اعتاد على الفوز في كل معاركه التي كان يخوضها أعزل من كل سلاح، إلا سلاح إيمانه بضرورة أن يكمل ما بدأه. كأن يطمئن على أشقائه الذين بقي ينظر إليهم دائماً نظرة الأب إلى أطفاله، على الرغم من أن سنوات قليلة جداً تفصل في العمر بينه وبينهم كلٌّ على حدة، وأن يطمئن على بناته “الستة اللي كلَبوهن جميلات”، كما كان يحلو أن يصفهن بشطر بيت شعر شعبي، كان البيت الشعري الوحيد الذي قاله في حياته، ليكون شعاره في علاقته بهن، منذ اكتمل عددهن في قلبه حباً وزهواً، وأن يطمئن على أبنائه الأربعة الذي قدّر الله أن يكونوا صغاره المنتظرين على مقاعد الجامعة والمدرسة، ليكبروا كما كبر هو قبل الأوان بكل أوان، وأن يعيد ترتيب فوضى الحياة الفائضة بالهموم حوله.. وأن .. وأن .. لكنه رحل، فحطّت النقطة بنهاية السطر الأخير، قبل أن تكتمل الجملة.
*العربي الجديد